ما بين عبور الجيش المصري قناة السويس وتحطيمه خط بارليف "المنيع" ومعه الجيش "الذي لا يقهر"، وعبور مقاتلي المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة السياج الحديدي وهجومهم على قواعد ومرتكزات الجيش الإسرائيلي في مستوطنات الغلاف، 50 عامًا جرت خلالها في نهر الصراع مياه كثيرة، فتبدلت أحوال وتغيرت معادلات واختلت موازين، وإن ظلَّ الحدثان مرتبطين رغم بُعد المسافة الزمنية.
لا يمكن فصل ما جرى في حرب أكتوبر 1973، وتداعياتها السياسية والجيوسياسية، عن مجريات معركة أكتوبر 2023، التي لا تزال تبعاتها مستمرة ولا يعرف أحد متى تنتهي وما نتائجها، وكيف ستؤثر تلك النتائج في خرائط ومعادلات الشرق الأوسط.
المعركتان جولتان من حرب واحدة بدأت قبل ثمانية عقود بين كيان محتل زُرِع عنوة في المنطقة العربية، للحفاظ على المصالح الاستراتيجية لقوى الاستعمار القديم ووريثته الولايات المتحدة الأمريكية. "إسرائيل هي رأس حربتنا.. هي سمعنا وبصرنا.. تمنحنا القوة والقدرة على التأثير في شؤون الشرق الأوسط"، هكذا أجاب المرشح الرئاسي السابق في الانتخابات الأمريكية روبرت كيندي جونيور عندما سُئِل عن طبيعة علاقة بلاده بإسرائيل، إذ اعتبر أن اختفاءها سيُمكِّن روسيا والصين "من السيطرة على شؤون الشرق الأوسط، وعلى 90% من إمدادات الطاقة في العالم".
وكما يفكر كيندي يفكر معظم الساسة الأمريكيين وحلفاؤهم في أوروبا، فإسرائيل هي سفيرة الغرب وقاعدته المتقدمة في الشرق الأوسط، والحفاظ عليها كان ولا يزال ليس فقط استراتيجية بل عقيدة لدى الإدارات الأمريكية والغربية، أيًا كانت توجهاتها. وبهذا الدعم غير المحدود تمكنت إسرائيل من هزيمة الجيوش العربية في 1967.
سببت تلك النكسة جراحًا نفسيةً ومعنويةً تفوق الانكسار العسكري الذي لحق بالجيوش العربية بعدما احتلت إسرائيل أراضي في ثلاث دول عربية. إلا أن مصر ومن خلفِها العرب تمكنوا من لملمة تلك الجراح، واستعادوا تماسكهم وخاضوا معارك الاستنزاف التي بدأت بشائرها عقب قمة الخرطوم في سبتمبر/أيلول 1967، واستمرت ألف يوم.
لم تحدث "أكتوبر الثانية" إلا بعد استنزاف كل محاولات التسوية مع إسرائيل بما يضمن الحقوق الفلسطينية
بعثت حرب الاستنزاف الثقة في المقاتل المصري وسلاحه وقيادته، وفي قدرته على مواجهة عدوه، وبددت الأوهام والأساطير التي حاولت إسرائيل ترسيخها حول جيشها الذي لا يقهر. مكَّنت تلك الحرب المقاتل المصري من صقل وتطوير قدراته القتالية وجنى ثمار ذلك في حرب أكتوبر، بما صدم إسرائيل ودفع رعاتها الأمريكيين إلى التدخل السريع لإنقاذها عسكريًا بجسر إمداد عسكري لا يتوقف، ثم سياسيًا عبر مؤامرات وحيل السياسة والتفاوض.
أما معركة أكتوبر الثانية؛ "طوفان الأقصى"، عندما تمكن مقاتلو فصائل المقاومة من إذلال الجيش الإسرائيلي وكسر هيبته وتحقيق أول انتصار عليه منذ نصف قرن، فلم تحدث إلا بعد استنزاف كل محاولات التسوية مع إسرائيل بما يضمن الحقوق الفلسطينية، وبعد يأس عميق من قدرة المجتمع الدولي على تحويل قرارت الأمم المتحدة ومجلس الأمن إلى واقع، وعلى خلفية خيبة الأمل الكبيرة في قدرة النظام العربي على اتخاذ موقف حاسم تجاه إسرائيل، يُشعرها ورعاتها بأن مصالحهم مهددة طالما بقي الاحتلال وتوسع الاستيطان والقتل الممنهج.
جرَّب الفلسطينيون كل السبل ومضوا في جميع المسارات، احتجوا وتظاهروا وتفاوضوا وانتفضوا قبل أوسلو وبعده. نفذوا عمليات فدائية محدودة وخاضوا معارك غير متكافئة بما تيسر لهم من عتاد وسلاح، ولما وصل التآمر الدولي والخذلان العربي مداهما، لم يعد أمامهم إلا القيام بعمل مزلزل يوقظ الجميع، ويعيد طرح القضية التي كاد ينساها الجميع فيما يهرول العرب فرادى وجماعات على درب التطبيع الذي يجعل من إسرائيل دولة طبيعية، وعلى الجميع أن يقبلوا بها، بمعزل عن قبولها هي بتسوية مع الفلسطينيين، كما جرى الاتفاق في أوسلو.
في أكتوبر الأولى، ناقضت النتائج الانتصار الذي تحقق والتضحيات والدماء التي سالت، "خذلت السياسة السلاح"، بعدما اختار الرئيس المصري الراحل أنور السادات مسارًا يُحيِّد قلب الأمة العربية ويخرجها من دائرة الصراع مع إسرائيل.
أدرك الصهاينة في تل أبيب وواشنطن أن هزيمتهم في 1973 ما كان لها أن تتحقق لولا التضامن العربي، فمصر لم تحارب وحدها وكذلك سوريا، بل شارك النظام العربي القائم حينها في المعركة كل حسب إمكاناته وقدراته. ومن هنا جاءت استراتيجية الثعلب هنري كيسنجر بتفكيك هذا النظام، الذي وَضَح وتماسك بعد شعوره بالتهديد العميق في 1967.
بعد زيارة كيسنجر للقاهرة في نوفمبر/تشرين الثاني 1973، وضعت الاستراتيجية الجديدة التي كان محورها الرئيسي أن "التعامل مع أزمة الشرق الأوسط لن يتم مع دول المنطقة ككل، وإنما مع كل دولة على حدة بعد عزلها والانفراد بها بعيدًا عن الآخرين"، حسبما عبر هيكل في كتابه أكتوبر 73.. السلاح والسياسة.
في تلك المرحلة، يرصد هيكل عددًا من المصطلحات التي شرع السادات في الترويج لها، حتى صارت مع الوقت أساسًا للتسوية التي اختار المضي فيها. أولها أن 70% من الصراع العربي الإسرائيلي "نفسي". وأن حرب أكتوبر هي آخر الحروب. وأن 99% من أوراق حل أزمة الشرق الأوسط فى يد الولايات المتحدة الأمريكية. وأن موضع وموقع مصر ليسا في العالم العربي وإنما هو في الغرب أو معه بشكلٍ ما في مكان ما. وأخيرًا أن بإمكانه أن يؤسس علاقة مع الولايات المتحدة يمكن أن تزيد على العلاقة الخاصة التي تجمعها بالسعودية، بل وحتى أن تتساوى مع علاقتها بإسرائيل!
تكللت تلك المرحلة بزيارة السادات للقدس ثم توقيعه منفردًا اتفاقية سلام مع العدو، ما مكَّن هذا الأخير من أن يطمئن بعدما ضمن أن الدولة الأقوى والأكبر صارت خارج الصراع ودخلت تحت مظلة الراعي الأمريكي. منح ذلك الخروج إسرائيل ضوءًا أخضرَ لفعل ما تشاء، فاجتاحت لبنان مرتين وأعلنت ضم الجولان في السنوات القليلة التالية على هذه الزيارة، ثم أمعنت في إنكار الحقوق الفلسطينية، انتهاءً إلى العربدة في المنطقة والحديث عن إعادة رسم خرائط ومعادلات الشرق الأوسط.
في أكتوبر الأولى، عَبَر العرب نكستهم العسكرية وهزيمتهم النفسية إلى انتصار أعاد لهم هيبتهم وكرامتهم، ووضعهم مجددًا على خريطة العالم، لكن سرعان ما تبدد هذا النصر وتاه في دروب السياسة والتفاوض، وهو ما يمكن أن يتكرر في أكتوبر الثانية، إذا ما استمرت المعركة دون أن يكون للنظام العربي دورٌ واضحٌ فيها.
حينها لن تقف شهوة تل أبيب وحلفائها عند حد الخلاص من فصائل المقاومة وداعميها من دول الممانعة، فلكلٍّ دوره، وقطار الهيمنة الإسرائيلي لن يتوقف عند محطة فلسطين التاريخية، لأن الهدف "كل مكان في الشرق الأوسط".
فهل تخذل السياسة السلاح مجددًا؟