تداول مثقفون لبنانيون وعربٌ خلال الأيام الماضية مقولةً شهيرةً لرئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة، القاتلة جولدا مائير، وانقسموا حولها. اقتطعها بعضهم من سياقها الكامل، متخذين من فقرتها الأخيرة "الملخص البلاغي المفيد"، ليضعوه في متن خطاباتهم، فيما استنكرها آخرون، ومزجت مجموعة ثالثة رفض مضمونها، بالإعجاب ببلاغتها.
خُلِّدت عبارة جولدا مائير الشهيرة، ونالت إعجاب قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي، إن لم تكن أغلبيته، كجملة تجسد الحقيقة المطلقة؛ "يمكننا أن نسامح العرب على قتلهم لأطفالنا. لكن لا يمكننا أن نصفح عنهم لإجبارهم إيانا على قتل أطفالهم. سيحل السلام عندما يحب العرب أطفالهم أكثر مما يكرهوننا".
المثقفون الذين استشهدوا بكلام القاتلة وسلموا به، مُكتفين بمقطعه الأخير، باعتباره أكثر بلاغةً وحكمةً، لم يقفوا ولو للحظة أمام جوهره المروع شديد الوضاعة، الذي يُعبِّر عن درجة بالغة الوقاحة من العنصرية، دون أي محاولة لتجميلها.
تتأسس جملة جولدا مائير على كذبة التفوق العنصري/الإثني لشعب محتل، لا يريد قتل الأطفال، مقابل جنس/شعب آخر، عربي، لا يحب أطفاله ولا يعنيه مقتلهم، بقدر غرقه في كراهية الإسرائيليين. بالإضافة لأفكار أخرى تتضمنها هذه الجملة المختصرة، مهولة في درجة انحطاطها وعنصريتها وعنفها.
ربما يُعجب البعض ببلاغة جولدا مائير. فيرون في هذه الجملة المختصرة؛ "سيحل السلام عندما يحب العرب أطفالهم أكثر مما يكرهوننا"، بلاغةً، عمقًا، تعبيرًا عن أنها كانت داهية، أو بالتعبير المصري "صايعة". لكن الإعجاب بالبلاغة نسبي، فسيراها آخرون، أنا من بينهم، غير ذات قيمة. فهي بلاغة مبنية على مجمل الأطروحات الصهيونية التقليدية، لا جديد فيها.
قد تناسب هذه البلاغة محدودي الثقافة من مواطني إسرائيل القتلة، ضحايا أنفسهم وجرائمهم. الشعب الوحيد في تاريخ البشرية الذي يحتل ويدمر شعبًا آخر، وهو يتلبس في اللحظة ذاتها روح الضحية. وليس أي ضحية، بل الضحية بألف ولام التعريف، الضحية الوحيدة، المطلقة، التي ستظل ضحية للأبد، حتى وهي تمارس الإبادة والتدمير الشامل.
مهما اتسع جمهور المعجبين ببلاغة عبارة جولدا مائير من غير الإسرائيليين، فإنها ستظل بلاغة على مستوى هؤلاء الذين يزيفون أشعارًا ركيكةً وينسبوها لصلاح جاهين، أو يرددون جملًا سخيفةً تُنسب لنجيب محفوظ، دون أن يكون لأيٍّ منهما صلة بها.
ثنائية الحب والكره
لا تحتاج هذه العبارة الكثير من الثقافة أو العمق أو الذكاء لفهمها وتفنيدها، فهي مبنية على ثنائية تافهة وميلودرامية؛ ثنائية الحب والكره على إطلاقها. المحبون بالضرورة هم الإسرائيليون، يحبون أطفالهم وأطفال العرب. بل إنهم، وبسبب نبلهم كـ"ضحايا"، قادرون على أن يسامحوا العرب على قتل أطفالهم الإسرائيليين. لكنهم، من فرط إنسانيتهم ورهافتهم، لا يمكنهم أن يصفحوا عن العرب بعد أن "أجبروهم" على قتل أطفال العرب أنفسهم، في سياق دفاعهم عن أنفسهم وعن أطفالهم.
الضحية "المضطرة" للقتل وهي "تدافع عن نفسها"، تُصوِّرُ المسألةَ شديدةَ التعقيد، المسماة بالصراع العربي الإسرائيلي، الناتجة عن التاريخ والسياسة والمصالح والحياة والحق في الوجود، كنزاع "شعوري" بين شعبين. أحدهما محبٌّ، والآخر كاره. فيكون حل النزاع هو تعميم الحب. أن نتعلم، نحن العرب، من الإسرائيليين، حُبَّ أطفالنا وعدم الإلقاء بهم إلى التهلكة بمعاداتنا وكرهنا لإسرائيل.
كانت جولدا مائير تَعرف أن الصراع لا علاقة له بالحب والكره. لكنها توجهت بهذه الجملة للشعب العنصري لتطمئنه على حاله وتستمر في خداعه، ليستمر هو في فعل القتل، وأيضًا للمغفلين العرب والأوروبيين ليستهلكوها بالمرة. في حين كان بمقدرتها، إن لم تكن جولدا مائير، وإن لم تكن سياسية إسرائيلية، أن تُكمل جملتها الأخيرة، البادئة بـ"سيحل السلام عندما...."، بخيارات حقيقية وواقعية لا تنتهي.
على سبيل المثال: سيحل السلام عندما نعترف بأننا دمرنا الشعب الفلسطيني وعلينا إصلاح أخطائنا التاريخية والتعويض عن جرائمنا. أو: سيحل السلام عندما نعترف بمجمل حقوق الشعب الفلسطيني. أو: سيحل السلام عندما تتخلى دولتنا عن طبيعتها كدولة استيطان عنصرية وعدوانية. أو: سيحل السلام عندما تختفي دولتنا من منطقة لا مكان لها فيها، وغيرها.
لكن، من المستحيل أن يتحدث مسؤول إسرائيلي عن أيٍّ من هذه الخيارات، لأن جميعها تهدم أركان القانون الصهيوني الأساسي؛ أننا الضحية، وأننا شعب الله المختار، وهو من أعطانا هذه الأرض. بكل ما تمنحه هذه الفرضيات من إمكانات هائلة للإجرام، مؤسسة على رقي طرف وهمجية الطرف الآخر. والمعتمدة كذلك على التهديد/التخويف/الإرهاب. فالطرف الراقي، الإسرائيلي، قادر على القتل، وعلى الصفح والغفران إن أراد.
وتعتمد كذلك على الصورة نفسها التي روجتها الصهيونية للفرد اليهودي؛ شخص مكروه ومُهدد من جيرانه، فيعيد إنتاج ذاته كضحية مع كل صباح جديد. تتطهر أفعاله من صبغة الإجرام، لتظهر باعتبارها دفاعًا عن نفسه في مقابل من يكرهونه، دون أن يعرف لماذا يكرهونه.
يكون علينا إذًا أن نصدق، مثل المعجبين بعبارة جولدا مائير، أن الكره غير مبرر، لأن الاحتلال غير موجود، لم يحدث، غير قائم حتى يومنا هذا منذ سبعة عقود ونصف العقد، لا يعتمد على أبشع عملية تدمير وإبادة ممنهجة لشعب كامل تستطيع البشرية تذكُّر تفاصيلها، وتشاهدها بينما تحدث، وتدمير من يجرؤ ويرفض الاحتلال لأنه كاره لأطفاله وللغير.
جعجع والحب الإسراعودي
بالإمكان كتابة مقال أكثر هدوءًا لغويًا لمناقشة منطق الدعاية الصهيونية لو كنا في لحظة عادية، وإن لم يكن هناك عرب، نعرف أسماء بعضهم، ولا نعرف أسماء آخرين، يتبنون هذه الدعاية. لكننا نرى ترجمات مواقفهم وأفكارهم، عمليًا، في الترويج لمشاريع سياسية جديدة لشرق جديد.
تصديق هذه العبارة أو التسليم بها لا ينتج دائمًا من شعور المنسحق والمهزوم بالعدمية، التي تدفعه للتماهي مع عدوه وتصديقه. بل تنبع من منطقتين إضافيتين؛ أولهما شعور عميق بكره الذات واحتقارها لدرجة مرعبة. لدرجة أن يروا أنَّ للإسرائيلي الحق في قتلهم، في إبادتهم، وأن يصدقوا أن العرب لا يحبون أطفالهم.
كأن التعاون والتحالف مع العدو وقبول أمواله وأسلحته بل ولباسه العسكري مساوٍ لجرائم أخرى
لكن المنطق الآخر هو الأخطر في حالة المثقفين والكتَّاب والإعلاميين والسياسيين. لماذا لا نقولها بوضوح وشفافية؟! فالقطاع الغالب من المثقفين اللبنانيين والعرب، المعادين للمقاومة، ومن يرددون عبارات القتلة ويتبنونها، إما يعملون في مؤسسات ممولة خليجيًا، سعوديًا وإماراتيًا تحديدًا، أو أنهم منحازون لطائفة ترى في الشيعة خصومها.
على المستوى اللبناني، بينما يهاجمون حزب الله لأنه طائفي، يتبنون مواقف طائفية نقيضة، يدخلون لخنادق مغايرة، إن كانوا سُنَّةً أو مسيحيين. فبينما كانوا يشهرون كرههم، الذي ربما كان مستحقًا، لنصر الله، لم يوجهوا نفس الكره والحقد للقاتل السابق، قائد القوات اللبنانية، سمير جعجع، الذي مولت وسلحت ميليشياتِه إسرائيلُ خلال سنوات الحرب الأهلية، وعلانيةً ودون أي خجل.
خرج سمير جعجع من السجن 2005، ومنذ هذا اليوم وحتى الآن، لم يقم هو أو تياره بأيِّ نقدٍ ذاتيٍّ جدِّي لتاريخهما الدموي كمرتزقة لإسرائيل داخل لبنان. واستمر بعض المثقفين المحيطين به وبـ"قواته"، في تصوير العمالة لإسرائيل كمجرد انحياز ضمن انحيازات تتصارع في سياق حربٍ أهلية أجرم الجميع أثناءها.
وكأن التعاون والتحالف مع العدو، وقبول أمواله، وأسلحته، بل ولباسه العسكري، مساوٍ لجرائم أخرى، نعلم أن الكثيرين ارتكبوها. حتى مجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبتها القوات اللبنانية، عندما كانت جناحًا عسكريًا لحزب الكتائب، بالتعاون مع إسرائيل، لا يفتحون ملفها، على اعتبار أن مخطِّطها ومنفِّذها، والمسؤول الوحيد عنها، إيلي حبيقة، لقي جزاؤه بالقتل.
الآن، وبعد الضربات المؤلمة لحزب الله، واغتيال أغلب قيادته، يبدأ الحوار العلني، وبعادية بالغة في الصحافة اللبنانية، حول وضع لبنان بعد الهزيمة. يعود جعجع لصياغة حلمه القديم، مقدمًا نفسه، ويقدمه سياسيون آخرون، كمرشح جدِّي لمنصب رئيس جمهورية لبنان. مستعيدًا مسار وتاريخ قائده السابق بشير الجميل نفسه، الذي استدعى الجيش الإسرائيلي لغزو بلاده، وتدميرها، واحتلال عاصمته في صيف 1982، لينصبه شارون وبيجن رئيسًا لبلد عربي، جالسًا على عرش فريد؛ دبابة إسرائيلية.
كان لا بد من التخلص من المقاومة الفلسطينية في زمن بشير الجميل، وهو ما تحقق. والمطلوب الآن التخلص من المقاومة اللبنانية، وهذا في طور التنفيذ. لم تصل الدبابات هذه المرة لشوارع بيروت، ولا نعلم إن كانت ستصل، لكنَّ صواريخها وصلت، فأثارت شظاياها والدم والدمار الذي تنتجه شهية البعض. فهؤلاء من يرددون مقولات جولدا مائير، وسمير جعجع نفسه وبتصريحاته، ينتظرون من السعودية، صاحبة الكلمة العليا على أغلب السياسيين اللبنانيين السنة منذ انهيار مشروع عبد الناصر وموته، أن تعطي الإشارة/الأمر بتحالف سني/قواتي ينصبه رئيسًا على لبنان صغير ومسالم، في الشرق الإسرائيلي/السعودي التالي لحزب الله وحماس.
في يوم 14 سبتمبر/أيلول 1982 قُتل بشير الجميل بعد أيام من انتخابه. فرآه البعض في وقتها وحتى اليوم، قديسًا، مسيحًا ينتظرون عودته. قديسٌ محبٌّ للأطفال ربما، لكنه، هو وحزبه وقواته، ذبحوا أطفالَ الآخرين، ولم ينجُ من مذابحهم أطفال خصومهم المسيحيين من داخل نفس معسكرهم.
كان لبشير الجميل القديم مثقفوه العنصريون، المعتمدون على وهم تفوق خليط هجين مسيحي/إسرائيلي في الشرق. وها هي نماذج بشير الجميل الجديدة، تجد حولها مثقفين بنسخة الألفية الجديدة، معتمدين في أطروحاتهم على هجين جديد، متفوق، خليجي/إسرائيلي. ويكون علينا نحن أن نحبَّ أطفالنا، ندخل بهم الجحور، كيلا يضطروا لقتلهم، في زمن "الحب البغيض".