
تجليات البلطجة المدنية.. تأمين الأمن بشبكات المقموعين
هاجم البلطجيةُ المسيرةَ العالمية لكسر الحصار عن غزة أمام بوابة الإسماعيلية، مساء الجمعة الماضي. في تغطيتها الموسَّعة للحدث رصدت المنصة مدنيين بجلاليب يعتدون على المشاركين تحت أعين الأمن. قُمع المتظاهرون وتعرضوا للتحرش الجسدي والضرب قبل ترحيلهم، كما تواترت أنباء القبض على البعض.
وقعت هذه الاعتداءات المدنية بطريقة شديدة التنظيم، فقد "كان الأمن يفتح الكردون لتدخل مجموعة من ثلاثة إلى ستة رجال يرتدون الجلاليب ويغطون وجوههم بشالات، فيضربون شخصًا ويشدونه خارج الكردون الذي يعاد إغلاقه مرة أخرى. أحد المتضامنين الذين تعرضوا لذلك كان يرتدي قميصًا أبيضَ غطته الدماء كما غطت رأسه. وتوالى الصراخ وتوالت معه الاعتداءات 'المدنية' المحمية من الشرطة. لاحظتُ غياب أي سيارة إسعاف"، وفق تغطية المنصة.
ولكنْ من أين يأتي هؤلاء البلطجية الذين أطلق عليهم الإعلام الرسمي اسم "أصحاب المزارع المجاورة" دون أن يُسمِّي اعتداءاتهم باسمها؟
عولمة التجربة الفيتنامية
بعد نهاية حرب فيتنام عام 1975، طوَّرت الولايات خطتها لمكافحة التمرد هناك وقدَّمتها باعتبارها خططًا مُعولمة لمكافحة التمرد والشغب سُميت counterinsurgency. تستند هذه الخطة على المجموعات الأكثر فاعلية في قمع التمرد، بغض النظر عن انتمائها للقوات النظامية وأجهزة الأمن.
تزامن ذلك مع نهاية عصر السادات وبدايات مبارك، حيث بدأت الشرطة تفرض سطوة أمنية مختلفة على سكان المناطق الشعبية لترهيبهم، بالاستعانة بمدنيين لديهم سجل جنائي سابق، يمثلون مجموعة من الشبكات مُقسمة إداريًا حسب المناطق والحدود الجغرافية للمحافظات، ويعملون لحساب أقسام البوليس دون أن يكون ذلك برغبة خالصة منهم.
فبعد احتجاز أي شخص في مصر، يصبح لديه سجل جنائي لدى وازرة الداخلية ليُعَدَّ جزءًا من منظومة تدشِّن، بعد اعتباره مسجلًا خطرًا، علاقةً مستمرةً بينه وبين قسم الشرطة التابع له محل سكنه.
تمددت هذه الحالة أكثر فأكثر بالذات بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، ثم احتلال العراق، حيث تنامت سياسات "الحرب على الإرهاب" حول العالم. لتبدأ استراتيجيات مكافحة التمرد بالانتشار في العالم كخطة عالمية، نتيجة لتشابك وتعاون الأجهزة الأمنية، بتدريبات مهنية للأقسام الأمنية وأجهزتها المختلفة.
ومع التعاون الأمني الممتد بين مصر والولايات المتحدة ويشمل سفر كوادر أمنية للتدريب، انتقلت أدوات مكافحة التمرد إلى مصر وأجهزتها الأمنية. في ذلك الوقت، وبينما كان حبيب العادلي على رأس وزارة الداخلية، أصبحت هذه المعلومات عن الجنائيين تمثل قاعدة بيانات مسجلة بدقة في سجلات أقسام الشرطة.
وبسبب قلة أعداد العاملين في أقسام الشرطة المصرية مقارنة بعدد السكان في المناطق الحضرية شديدة الكثافة العمرانية، تشكَّلت من البلطجية شبكة أساسية لخدمة الشرطة، بل وحمايتهم، حيث يظهرون كمدنيين في كل الأعمال العنيفة التي تمنع الجهاز الأمني من الظهور ببذلته الأمنية في الشوارع، وأصبح البلطجية بشبكاتهم عُملة أمنية ومدنية رخيصة للشرطة من حيث الاستخدام وتأمين جهاز الدولة بكل أقسامه.
تجلٍّ سياسيٌّ
بالنسبة للأوساط السياسية في مصر، بدأ ظهور البلطجية في الحياة العامة يوم 25 مايو عام 2005 في أحداث الأربعاء الأسود، حين قمعت بلطجيات نساء مُتظاهرات على سلم نقابة الصحفيين، وتحرشن بهنَّ وانتهكن أجسادهنَّ في الشارع وفي المجال العام. وصعَّدت الصحفية الراحلة نوال علي وقتها الأمر برفع دعاوى قضائية.
لكنَّ التجلي الأوضح لهذه الظاهرة حدث بعد اندلاع الثورة عام 2011، حين اختفى البلطجية تمامًا من الشوارع في ظل غياب من يصدرون لهم الأوامر، عندما هربت الشرطة بعد أحداث جمعة الغضب في 28 يناير/كانون الأول 2011. لكنهم عادوا ثانية عندما استُخدمت في موقعة الجمل شبكة بلطجية من نزلة السمان.
البلطجية الذين ظهروا على طريق الإسماعيلية الأسبوع الماضي لم يولدوا هناك
ثم في اعتصام يوليو/تموز 2011، استُخدمت شبكات بلطجية من عابدين والزاوية الحمراء وبولاق أبو العلا، وفي مذبحة ماسبيرو أكتوبر/تشرين الأول 2011 استُخدمت شبكة بولاق أبو العلا. أما في أحداث الاغتصابات الجماعية للنساء في التحرير، من يونيو/حزيران 2012 حتى يوليو 2014، فاستُخدم بلطجية من شبكتي بولاق أبو العلا وعابدين. وفي تظاهرات المقاول محمد على في سبتمبر 2019، كانت شبكة بولاق أبو العلا حاضرة أيضًا.
كل ما سبق هو استخدام للبلطجية في سياقات سياسية واضحة هدفها قمع التمرد والتظاهر والإرهاب وتخويف من تسول له نفسه الاعتراض. تضمن هذا استخدام البلطجية لترهيب الصحفيين وهم يحتجون في مايو/أيار 2016 أمام نقابتهم على اقتحامها، وتم القبض على العديد منهم عقب مظاهرات اتفاقية تيران وصنافير مما نتج عنه اجتماع الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين، وخلص إلى المطالبة بإقالة وزير الداخلية بعد اقتحام مبنى النقابة.
حضر البلطجية أيضًا إلى سجن طرة في يونيو 2020 لترهيب عائلة سيف أمام سجن طرة. وأخيرًا في سبتمبر/أيلول الماضي، وبينما كان المرشح الرئاسي أحمد الطنطاوي يدعو أنصاره لتأييده في مقار الشهر العقاري تمهيدًا لمشاركته في انتخابات الرئاسة، استخدمت شبكات البلطجة في أنحاء الجمهورية لترهيب المواطنين أمام مراكز الشهر العقاري والتعدي عليهم لمنعهم من عمل التوكيلات.
تجلٍّ يوميٌّ
البلطجية موجودون طول الوقت بغض النظر عن السياسة وحراكها فيما يمكن أن نسمِّيه ظاهرة تسليع العنف في الحياة اليومية، وهي ظاهرة وثقتها أعمال درامية كان أبرزها إبراهيم الأبيض. وفيه نرى كيف تدور حيوات إبراهيم/أحمد السقا وعشري/عمرو واكد وعبد الملك زرزور/محمود عبد العزيز والجارحي/خالد كمال في عوالم العنف المرتبط بتجارة المخدرات في القاهرة.
ونرى كذلك كيفية تمثيل وجود الدولة في السجن الذي يوضع فيه إبراهيم، ونرى ثالثًا المساحات الجغرافية لعمل البلطجية التي يُحظر التعدي عليها وتخطيها.
ثم إننا نقرأ ذلك تاريخيًا في مذكرات فتوة ليوسف حجاج، الذي أعاد تقديمه ونشره صلاح عيسي مع تحقيق لتاريخ الفتونة في القاهرة، ونقرؤه أيضًا في كتاب نشتري كل شيء لمجموعة من المؤلفين بينهم كاتبة هذه السطور "يستخدم التسليع للمساحات العامة وأراضيها بشكل مادي ويرتبط بعمليات اقتصادية ورأسمالية، وأطرح أن العنف يتم تسليعه كأداة لتفعيل التسليع المادي. حيث يتم إعادة الإنتاج الدائم للعنف بمختلف أشكاله نتيجة لتضارب المصالح وعلاقات القوى".
في الكتاب، شرحت ممارسات مختلفة من العنف تتضمن ظاهرة البلطجة وكيف تتحول لسلعة، وممارستها تأتي من أجل فرض النفوذ والسيطرة وتقديم الحماية، وكل هذه الممارسات تمتاز بعنف رمزي ومبطن. وعليه يحدث تسليع العنف عندما يُعرض كسلعة من أجل الوصول لربح، يتمثل في السيطرة على الأماكن العامة.
تجلٍّ ممتدٌ
البلطجية الذين ظهروا على طريق الإسماعيلية وبواباتها من القاهرة الأسبوع الماضي لم يولدوا هناك، بل هم امتداد لا ينفصل عن التجليات السياسية واليومية لشبكات البلطجية في مصر.
هي ظاهرة مرتبطة بعمل الأجهزة الأمنية وتراتبيها واستخدام إدارة الحكم في مصر للبلطجية بشكل اقتصادي وسياسي، وتعكس ممارسة مثل الورقة الدوارة في الانتخابات واحدًا من أوجه التعاون مع البلطجية كشبكة مدنية اجتماعية مع الأجهزة الأمنية للمناطق الجغرافية.
منذ 2013، تجلَّى استخدام واضح وممتد لهذه الشبكات التي استخدم أفرادها في ظواهر التصفيق والتهليل للدولة، بحمل لافتات الدعاية والرقص على لجان الانتخابات والاستفتاءات المختلفة.
ما حدث في قافلة الصمود لغزة ممارسة أمنية "معتادة" للأجهزة الأمنية في قمع الحراكات والتظاهرات والتمرد الشعبي. والمعطى الجديد هنا استخدامها ضد غير المصريين في فضيحة دولية متكاملة الأركان لن يخفف من وطأتها اعتياد كثير من المصريين على مشاهد البلطجية الذين لا يمكن القول إنهم "عادوا" على طريق الإسماعيلية، لأنهم حاضرون دومًا في حياتنا.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.