
العالم في حرب
أتذكر جيدًا سلسلة برامج تسجيلية أذاعها التليفزيون المصري الرسمي نهاية السبعينيات أو بداية الثمانينيات، بعنوان "العالم في حرب"، تحكي عن تاريخ الحرب العالمية الثانية، وتطوراتها، منذ مقدماتها الأولى وحتى أفولها. وإن لم تخُنِّي الذاكرة؛ كان يقدمها ويعلق عليها محمد عبد المنعم، الذي سيصبح لاحقًا المستشار الصحفي لمبارك.
وإذا خانتني الذاكرة بخصوص مقدم هذه السلسلة وتاريخ بثها، فلن تخونني في انجذابي الشديد لها، وانتظاري حلقاتها الجديدة، وانتباهي الكامل أمامها. وهو ما يبدو لي لغزًا الآن؛ ما الذي يلفت انتباه طفل لم يتعدَّ السنوات العشر لهذا النوع من البرامج التسجيلية؟!
لا أجد الآن سوى تفسير عقلاني وحيد لهذا اللغز، يتمثل في الإثارة. والأهم منها الشعور بأنني أمام مشهد واضح نسبيًا لهذا العالم الضبابي الذي لم أكن أعرفه أو أفهمه. مشهد بسيط الإدراك، عنوانه الأساسي الاستقطاب، حيث هناك معسكران واضحان، نعلم مسبقًا من منهما سينتصر، ومن منهما مطلوب الانحياز إليه.
الاستقطاب والوضوح لا يجذبان الأطفال فقط، بل أيضًا الناضجين. بدليل النشاط والحماس الهائل اللذين أبداهما الكثيرون في معارك السوشيال ميديا، والمعارك الميدانية، خلال لحظات محددة من موجة ثورة يناير 2011، وصولًا إلى استيلاء الجيش على السلطة في 3 يوليو/تموز 2013، حيث بدا للكثيرين وقتها، رغم تعقيدات المشهد أن المعسكرات واضحة، والحدود بينها ليست ضبابية. وهو نفسه من بين عوامل الجذب للانخراط في أحد هذه المعسكرات، و"القتال" من داخل خنادقه.
اللحظة الصفرية
شاركت خلال الأيام الأخيرة في عددٍ من الفعاليات الجامعية في إسبانيا للتضامن مع الشعب الفلسطيني، ورفض الإبادة، وحضرت وتابعت فعاليات أخرى. عادة ما تتنوع منصات المتحدثين في هذه المناسبات، خصوصًا تلك التي نُصبت في أسبوع التضامن ورفض الإبادة، بمناسبة الذكرى التاسعة والأربعين ليوم الأرض. فاختلط المتحدثون وتنوعوا؛ أكاديميون، ونشطاء، وفنانون، وصحفيون، وباحثون.. إلخ. والبارز من بينهم أفراد من سلك القضاء وخبراء في القانون الدولي.
العودة لمناقشة ما حدث يوم السابع من أكتوبر كأنه لحظة صفرية ليس معادلةً صفريةً
بالإمكان فهم الوجود البارز لقضائيين وقانونيين عبر بداية الاهتمام بـ"التقاضي"، كطريق محتمل النجاح لعزل إسرائيل دوليًا، وحصارها، والضغط الداخلي لإجبار الدول الأوروبية على اتخاذ خطوات حقيقية ضد إسرائيل، بعد فَقْدِ الأمل في عالم السياسة والدبلوماسية لإيقاف الإبادة.
لكن ما لفت الانتباه كان الاستقطاب نفسه. ليس كمشهد جاذب لطفل يشاهد حربًا سابقةً، بل بين صفوف الحاضرين والمتحدثين، وكأن كلًا منا يبحث عن خندقه ويُجذِّره، أمام مشهد حرب جديدة. بالتزامن، وهو ما أعتقد بأنه ليس صدفةً، مع حالة سجال عربي حول حماس، والموقف منها، والمقاومة وشرعيتها، ومن يتحمل مسؤولية الخراب والموت.
ما يجمع كل هؤلاء الانحياز الواضح للحق الفلسطيني، ورفض دولة إسرائيل بشكلها الحالي. لكن المثير للدهشة كان عودة مشهد طوفان الأقصى، هذه اللحظة الصفرية، كأحد محاور الحوار والخلاف من جديد، بعد مرور عام ونصف العام من إبادة، كان لها أن تكتسب كل الأضواء والاهتمام.
وبخصوص اللحظة الصفرية يحدث الاستقطاب، ولمسته بين ثلاث محاضرات تضامن جامعية. فنان يُذكِّر الحضور بالمعركة الأخلاقية المفترض كسبها، مع التأكيد على أنها مقاومة وليست إرهابًا. أكاديمية متخصصة في القانون الدولي ترد بأن المقاومة بإمكانها ممارسة الإرهاب. ممثل الادعاء في سلك القضاء، وهو المتحدث باسم مجموعة "قضاة مع فلسطين"، التي شكلها مؤخرًا أعضاء في السلك القضائي، وقدَّمت قبل أيام للبرلمان الإسباني مشروع قانون يحظر على الدولة الإسبانية التعاون بأي شكل مع إسرائيل، يُذكِّر الجميع بأن الأمم المتحدة لا تصنّف حماس منظمةً إرهابيةً. وبالتالي فإن أفعالها قد تكون جرائم حرب، لكنها ليست إرهابًا.
وبينما يرهن التوصيفات بالمعرفة الدقيقة لعدد المدنيين من "ضحايا" السابع من أكتوبر، وكيف سقطوا، تتطوع ممثلة منظمة عالمية شهيرة لحقوق الانسان بالجزم بأن الطرفين، الحمساوي والإسرائيلي، ارتكبا جرائم حرب. ويتطوع الباحث العربي الشهير، مرتاد التليفزيونات، والخبير في شؤون الشرق الأوسط، بمشاركتها هذا التصور. فيما يسخر منهما أكاديمي إسباني في القانون الدولي، واضعًا ما يقولانه في سياق الحماية الشخصية.
إنها الحرب
العودة لمناقشة ما حدث يوم السابع من أكتوبر، وكأنه لحظة صفرية، ليس معادلة صفرية. لا يحدث كمجرد عودة لنقطة البدء من جديد بعد عملية إبادة لم يعرفها العالم مسبقًا خلال تاريخه الحديث. بل إنها تعبير عن حالة الانجذاب للاستقطاب التي عشتها صغيرًا أمام برنامج العالم في حرب، لكن بنضج، وفي زمن جديد.
نعم، العالم الآن في حرب، وإن كان شكلها مختلفًا عن الحروب القديمة الكلاسيكية. وهناك ظواهر لهذه الحرب تتجاوز حالة التوتر التي يعيشها العالم حاليًا، وتفسرها في الوقت ذاته. هناك جبهتان شديدتا السخونة عسكريًا في منطقتين محوريتين، شرق أوروبا/أوكرانيا، والشرق الأوسط. وإن استطعنا رؤية ما هو أوسع من الإبادة في غزة، مثل ما يحدث في البحر الأحمر واليمن، والاعتداءات الإسرائيلية شبه اليومية على سوريا ولبنان، ومشروع التهجير الترامبي القادر على قلب كل منطقتنا رأسًا على عقب، سندرك أن القبول بالإبادة عالميًا، والتعايش معها، يقلبان كل الموازين الدولية، ويُدخلانها في معادلات جديدة، لم يعرفها العالم من قبل. بل إن المشهد قد تحول مع الوقت، وفي حد ذاته، لدعوة، دون كلمات، لأي قاتل أو مجنون أو ديكتاتور، لفعل ما يريد، إن امتلك القدرة والسلطة.
من بين من قالوا إن حماس ارتكبت جرائم حرب أو إرهاب من سيتعمق انحيازهم للحق الفلسطيني تدريجيًا
يضاف لهاتين البؤرتين، الحربيتين فعلًا، ظاهرتان إضافيتان، أولاهما حالة الصراع السياسي العنيف، وإن لم يتجاوز حتى هذه اللحظة حدود العنف اللفظي بين تيارات اليمين المتطرف الصاعدة عالميًا، وكل خصومها، سواء كانت تيارات يمينية أو وسطية أو يسارية. والأهم؛ كل ممارسات ترامب الفاشية في ما كان يُفترض أنه قلعة الديمقراطية الغربية وخارجها، وصولًا لإعلانه بدء الحرب على العالم، عبر مسار الحرب التجارية مؤقتًا.
الحرب التجارية التي ستتخذ مناحي غير تجارية، إن استمرت، ومجمل ممارسات ترامب المعادية لمواطنيه، وللمهاجرين، ولأوروبا، وللعالم خلال الأسابيع الأخيرة، خلقت بالفعل حالة من الاستنفار المسلح. فأهم قضيتين يتم نقاشهما الآن في أروقة الاتحاد الأوروبي وبرلمانه ورئاسته ولجانه، هما أولًا كيفية الرد على عقوباته التجارية، وأن يكون هذا الرد موجعًا، وثانيًا مسألة التسلح. سباق جديد للتسلح، أوروبي بالأساس حتى الآن، خوفًا من أن تترك الولايات المتحدة أوروبا وحيدة، في مواجهة الصين وروسيا وحلفائهما.
بل إن المسألة وصلت لعالم الكوميديا السياسية، شديدة الواقعية للأسف. فالسياسيون الأوروبيون يحفزون مواطنيهم الآن على أن يحضر كلٌّ منهم ما يسمونه بـ"حقيبة النجاة"، وهي حقيبة تحتوي على ما يساعد الفرد على النجاة خلال الـ72 ساعة الأولى من حالة طوارئ أو حرب نووية؛ معلبات، بطاريات، مياه معدنية، أدوية، نسخ من وثائق لإثبات الهوية والممتلكات، ملابس من نوع محدد.. إلخ. ينبغي أن تكون الحقائب جاهزة دائمًا، من دون أن تتوفر ملاجئ مناسبة مُجهزة لهؤلاء المواطنين.
استثمار الحرب
حالة العسكرة والخوف والترقب لا تنفصل عن التأثير النفسي العميق الذي ينتجه فعل الإبادة المستمر أمام العالم، ويشارك في إنتاجه الشعور بالعجز والذهول أمام الصمت الرسمي الدولي. إنه تحديدًا الاستقطاب الذي بدأ الآن في رسم حدود الخنادق وخلق الفروق بينها داخل كل معسكر، وإن لم تتضح الصورة كاملةً بوضوح بعد.
فمن بين من قالوا إن حماس ارتكبت جرائم حرب أو إرهاب، من سيتعمق انحيازهم للحق الفلسطيني تدريجيًا، ومن بينهم من سينحاز للمعسكر المضاد. بينما يظلل الجميع حقيقة يعبر عنها صراحةً القانونيون، بعيدًا عن الكاميرات، ونعلمها جميعًا؛ أن وهم الديمقراطية الغربية سقط للأبد، وانتهت معه خدعة "سلطة القانون".
يفرض زمن الإبادة بامتزاجه بالزمن الترامبي كل ذلك، وفي القلب منه الاستقطاب. من ناحية، يقف هو مع كل قوى اليمين المتطرف والفاشية والنازية الجديدتين في العالم، ومعهما إسرائيل. ومن جانب آخر قوى أخرى، أبرزها محور الصين/روسيا/كوريا الشمالية. ومن ناحية ثالثة ما يسمى بالعالم الحر.
بداية انقشاع الضباب عن المعسكرات المختلفة، التي ستتضح أكثر خلال الشهور المقبلة، ربما تمنح الفلسطينيين وشعوب المنطقة منفذًا، معبرًا ضيقًا نستطيع المرور منه، بين الخنادق المتواجهة. ففي الزمن القادم لن يستطيع النظامان المصري والأردني، على سبيل المثال، الاستمرار في لعبة التوازن والعلاقات الطيبة، التي يلعبانها مع هذه المحاور المختلفة، رغم نجاحها خلال الأعوام الماضية.
ربما لن يتمكن النظام المصري قريبًا من الحفاظ على علاقات التعاون مع كل الأطراف؛ روسيا، والصين، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، والخليج. وسيُفرض عليه الاختيار. وبالاختيار تتجذر المواقف أكثر فأكثر. وتتجذر أيضًا الاستقطابات المجتمعية، بين محاور وقوى التحرر والعدالة والمقاومة من ناحية، وبين محاور وقوى التحالف مع إسرائيل، والانسحاق أمامها من ناحية أخرى.
إسرائيل نفسها التي اختارت ترامب وقوى اليمين المتطرف النازي كحلفاء أقرب من الجميع، عليها أن تُجذِّر من مواقفها أكثر فأكثر، أن تنحو بالتدريج نحو المزيد من الدموية والفاشية، لتجاري الحالة العالمية، وما خلقته بنفسها. وربما يكون هنا مقتلها نفسه؛ مفتتح الحقبة الطويلة والصعبة لنهايتها، إن تم القضاء على ترامب، أو على الأقل قصقصة كل ريشه.
يقول بعض الخبراء الأوروبيين إن نهاية ترامب بدأت. لا أعلم إن كان كلامهم صحيحًا أم لا. لكن ما أعلم صحته جيدًا هو غياب البديل الثالث، فإما القضاء على الفاشية واليمين المتطرف في الولايات المتحدة وإسرائيل والعالم، أو أن ينساق العالم لمزيد من البربرية المدمرة.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.