صفحة أخبار غزة - فيسبوك
آثار العدوان الإسرائيلي على غزة- يناير 2024

في عالم اليوم الإبادة أسهل من التهجير

منشور الأحد 6 أبريل 2025

قبل أيام، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي إن بلاده تهدفُ إلى سيطرة أمنية طويلة الأمد على قطاع غزة بعد القضاء على حركة حماس، للبدء في تنفيذ خطة ترامب الرامية إلى تهجير سكان القطاع خارجه. وذلك بعدما أقرَّت الحكومة الإسرائيلية إنشاء هيئة لتسهيل هجرة الفلسطينيين "طوعيًا" من هناك.

من الصعب بالطبع قبول توصيف الهجرة بالطوعية في ضوء تجدد العدوان مع ما يخلفه من خسائر فادحة بالمدنيين من ناحية، ومنع دخول المساعدات الإنسانية، بما في ذلك الغذاء والوقود والمياه والدواء، منذ ما يقارب الشهر من ناحية أخرى. يضعنا هذا أمام "مخطط تهجير"، بغض النظر عن تسويغ أو تسويق الحكومة الإسرائيلية له.

نجحت إسرائيل في تطبيع العدوان العسكري الدائم على قطاع غزة رغم ما يُلحِقه من خسائر فادحة بالمدنيين. ولم تفلح اتهامات الإبادة الجماعية وصدور مذكرات اعتقال الجنائية الدولية بحق رئيس الوزراء ووزير الدفاع السابق في وقف ردع الولايات المتحدة عن تأييد هذه الجرائم. بل وحاولت مواجهة هذه الإجراءات رغم استنادها إلى القانون الإنساني الدولي، المؤسَّس على قيم ومعايير كانت هي الأساس وراء إرساء هيمنة الولايات المتحدة على المجتمع الدولي من بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

لكن لا يبدو أن أيًّا من هذا نجح في تغيير موقف الولايات المتحدة، وهي تدعم الحكومة الإسرائيلية عسكريًا ودبلوماسيًا وسياسيًا في جهودها الحالية لإعادة احتلال القطاع، وهو الموقف الذي لم يتغير كثيرًا عن ذلك الذي اتخذته إدارة بايدن الديمقراطية، باستثناء زنة القنابل المستخدمة في قصف المدنيين بالطبع.

المفارقة أنه في الوقت الذي تحظى فيه الممارسات الإسرائيلية الهادفة لكبس سكان غزة في مساحات محدودة من القطاع (بدءًا  من احتلال الأرض إلى قتل وتجويع عشرات الآلاف) بدعم أمريكي ضمني أو معلن، ولا تستوجب ردًا يتجاوز الإدانة الكلامية من الدول العربية الأوروبية، فإن فكرة تهجير الفلسطينيين خارج قطاع غزة لا تحظى بالقبول نفسه، حتى بين حلفاء إسرائيل والمتواطئين معها أو غير المبالين بخططها ضد الفلسطينيين.

ترامب يرجع إلى الخلف

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يلتقي ملك الأردن عبد الله الثاني في واشنطن، 12 فبراير 2025

انعكس هذا إلى حد كبير على موقف دونالد ترامب نفسه، فبعدما ملأ الدنيا كلامًا عن نقل سكان غزة إلى مصر والأردن وإنشاء "ريفييرا الشرق الأوسط" هناك، بدأ مراجعة موقفه والبحث عن دول ثالثة يمكنها قبول الفلسطينيين، ومن هنا ثار حديث عن المغرب ثم السودان والصومال وصولًا إلى جمهورية أرض الصومال غير المعترف بها دوليًا.

لكن خطط ترامب لاقت رفضًا قاطعًا من حكومات الدول المطروحة أسماؤها لتكون وطنًا بديلًا لفلسطينيي غزة، باستثناء أرض الصومال التي ربطت موافقتها على مثل هذا الإجراء بالاعتراف بها دوليًا، مع نفي وجود محادثات بهذا الشأن مع الأمريكيين، وانطبق الأمر نفسه على بلاد بعيدة مثل إندونيسيا.

ثم عاد ترامب وغيَّر خطته تمامًا عندما قال إن "لا أحد يريد طرد الفلسطينيين من غزة"، ومن بعدها لم يعد حديث التهجير ملحوظًا في خطاب الإدارة الأمريكية، تحديدًا في كلام المبعوث للشرق الأوسط ستيف ويتكوف الذي حوَّل لغة خطابه إلى التركيز على أهمية الحفاظ على استقرار النظم العربية الصديقة في مصر والأردن، في محاولة لإقناع مؤيدي ترامب من اليمين بأن الخطط السابقة كانت تهدد هذا الاستقرار.

لكن اللافت للنظر أكثر من هذا، أن مخطط التهجير لم يحظَ بدعم معلن من أي دولة، بما في ذلك أشد الداعمين لإسرائيل، ولا أظن أن الأمر له علاقة بمخالفة تهجير السكان لمبادئ القانون الدولي لأن الإبادة أو منع المساعدات الإنسانية أشد وأنكى، إنما يرجع إلى أن رغبات وطموحات وأحلام الإسرائيليين تأتي في لحظة عالمية تضيق فيها مساحات تنقل السكان فرادى في صورة لاجئين أو طالبي لجوء أو مهاجرين يطلبون العمل، فما بالك بنقلهم جماعيًا وهم بالملايين؟

نكبة جديدة في زمننا؟

ليس صحيحًا أن أحلام التخلص من الفلسطينيين جميعًا تراود فقط ما يسمى باليمين الإسرائيلي، لأن خطة ترامب لاقت تأييد نحو 70% من اليهود الإسرائيليين. وهو ليس أمرًا مُستغربًا كونه السبيل الوحيد في نظرهم لإنقاذ مشروعهم الاستيطاني القائم بالأساس على التخلص من السكان الأصليين أو على الأقل الحد من وجودهم العددي، بما يسهِّل إخضاعهم للأبد (وكأن هذا ممكن!). وينبع هذا التأييد الكاسح من أن التصورات الجنونية التي طالما ظل أقصى اليمين يرددها وحده سابقًا، أصبحت اليوم مقبولةً في أوساط يمين الوسط، الذي بدوره يحكم إسرائيل منذ عقود، وسيحكمها في المستقبل المنظور.

الدول العربية والإسلامية لا يمكنها التماهي مع هذا المخطط كونه يعرّضها لخطر المشاركة في تمكين المشروع الصهيوني

ومع هذا، ليس كل ما يتمناه الصهيوني يدركه، لأن تهجيرًا طوعيًا، وهو قسري فعليًا، يتطلب موافقة الدول التي ستستقبل أولئك المهجّرين، وهو أمر مستبعد تمامًا بالنسبة لدول جوار غزة. وذلك لأن تكرار ما حدث في 1948 و1967 في زمننا الراهن (أي إجبار ملايين الفلسطينيين على النزوح تحت وطأة القصف والتجويع إلى دول الجوار ) من شأنه أن يؤدي إلى نسف أسس الاستقرار الإقليمي لسنوات طويلة مقبلة، بما يقوِّض أمن إسرائيل نفسها، لأن الفلسطينيين سيكونون في جوارها على غرار ما وقع في الأردن ثم لبنان في السبعينيات والثمانينيات، وسيؤدي للفوضى في مصر والأردن، الدولتين اللتين تربطهما بإسرائيل اتفاقات سلام منذ عقود، كما أنهما أساسيتان في الترتيبات الأمريكية الأمنية للإقليم.

للأسباب السابقة، سينتهي مشروع التهجير  في الغالب إلى مجرد إنشاء أداة بيروقراطية، كتلك الهيئة التي وافقت عليها الحكومة مؤخرًا، وتكثيف الجهود لإيجاد دول ثالثة تقبل بالمخطط. وحتى هذا لا يبدو أنه يمضي على ما يرام، لأنه من الصعب العثور على سياق سياسي يسمح بهذا في أي دولة تقريبًا.

وإذا حاولنا تخمين ما هي الدولة التي يمكن أن تقبل في المستقبل تنفيذ مخطط التهجير على أرضها، وبعد استبعاد "أرض الصومال" باعتبار أن مجرد حديثنا عنها دلالة على عدم وجود دول مستعدة للمشاركة في المخطط الإسرائيلي، سنجد أن الدول العربية والإسلامية بشكل عام، وهي الأقرب ثقافيًا للفلسطينيين والأكثر تعاطفًا مع مأساتهم منذ عقود طويلة، لا يمكنها التماهي مع هذا المخطط، كونه يعرِّضها لخطر المشاركة في تمكين المشروع الصهيوني بالكامل. أما الدول ذات الدخل المرتفع في أوروبا وأمريكا الشمالية فتميل بشدّة منذ عقود نحو منع الهجرة الوافدة واللجوء، ناهيك عن كراهية العرب والمسلمين، وعلى رأس القائمة، بداهةً، الفلسطينيون من قطاع غزة.

وهكذا بالعودة للمفارقة الكبرى، أي تأييد القتل الجماعي للمدنيين مقابل رفض التهجير، فقد قادنا هذا الوضع إلى حرمان الفلسطينيين ليس فحسب من أي أفق سياسي لحل قضيتهم، بل نُزعت عنهم إنسانيتهم في الحرب الأخيرة بعد حصار خانق يقرب من عامين ترك 7% من إجمالي سكان القطاع بين قتيل وجريح ومفقود.

صار هذا الوضع محل قبول ضمني دولي وإقليمي، وكأن لسان حكومات العالم أن لإسرائيل الحق في أن تفعل ما تريد بالفلسطينيين طالما بقوا تحت حكمها، باستثناء تهجيرهم من أراضيهم، ومن ثم أمسى الفلسطينيون مشكلة إسرائيلية لا أكثر، ولكن أيضًا لا أقل.