في كل تصريحات المسؤولين المصريين الرافضة لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء تأكيدٌ على مخاوف جادة من اقتراب السيناريو الكابوسي، واقتناعٌ تامٌ بأن لدى دولة الاحتلال خطة واضحة ورغبة مؤكدة في تنفيذه خلال وقت قصير.
خلال الأيام الماضية، ازداد الحديث في إسرائيل وخارجها عن سيناريو التهجير باعتباره أمرًا واقعًا دخل حيز التنفيذ. وبنظرة سريعة على آلاف الخيم المنصوبة في رفح الفلسطينية، لإيواء النازحين من حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي، نستطيع ببساطة التأكد من أنَّ تنفيذ خطة التهجير يقترب أكثر من أيِّ وقت مضى.
لحظة تهجير الفلسطينيين التي لا نتمناها ستشكِّل نكبة جديدة تفوق بمراحل نكبة 1948، وتهديدًا مباشرًا لأمن مصر القومي من حدوده الشرقية الأخطر دائمًا، وتصفيةً للقضية الفلسطينية للأبد، مع إخراج سيناريو التهجير الملعون من أدراج قيادات الدول الغربية إلى حيث يرى النور للمرة الأولى.
في الخطاب الرسمي المصري يبدو رفض التهجير واضحًا، وفي تأكيده على لسان أكبر قيادة سياسية إشارة إلى أنَّ عدم القبول حاسم ونهائي، لكنَّ المؤكد أيضًا أنَّ الرفض السياسي وتصريحات الممانعة لا تكفيان وحدهما لردع دولة الاحتلال وجعلها تفكر ألف مرة قبل الإقدام على تنفيذ هذا السيناريو الأحمق الذي يتجاوز كلَّ المعقول.
ثم قبل كلِّ هذا علينا ألَّا نتأخر في اتخاذ الإجراءات العاجلة والضرورية، وإلا وجدنا أنفسنا في مواجهة مشهد صعب لآلاف الفلسطينيين الذين يحاولون اقتحام الحدود المصرية، وهذا كابوس لا نريد التعامل معه تحت أي ظرف.
فماذا نفعل وكيف نرفض؟
التهديد بقطع العلاقات
الأسبوع الماضي، نقلت وسائل إعلام مصرية وعربية عن موقع أكسيوس الأمريكي، أنَّ مصر وجهت تحذيرات إلى إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية بأن فرار الفلسطينيين إلى سيناء بسبب الحرب على قطاع غزة قد يؤدي إلى "قطع العلاقات" مع إسرائيل.
لا يكفي نقل التهديد بقطع العلاقات مع إسرائيل عبر اتصالات تجري في غرف مغلقة
وفي التفاصيل، فإنَّه وفقًا لمصادر رسمية إسرائيلية، نقل مسؤولون مصريون في الجيش والمخابرات لنظرائهم الإسرائيليين، قلقهم بشأن تداعيات العملية العسكرية في جنوب غزة على مصر، خصوصًا مع استمرار نزوح المدنيين باتجاه رفح، وعدّوا أنَّ هذا السيناريو سيُسبِّب أزمة خطيرة في العلاقات بين مصر وإسرائيل.
انتهى الخبر الذي نشره الموقع الأمريكي دون أنَّ يؤكده أو ينفيه أي مسؤول رسمي مصري، لكن مع هذا يبقى فقط أن يصبح هذا التهديد، إذا صحَّ، معلنًا للجميع، لا يكفي نقله عبر اتصالات غير معلنة تجري في غرف مغلقة، بل المطلوب هو حشد الرأي العام المصري والعربي لمنحه غطاءً شعبيًا وسياسيًا يُصعِّب على دولة الاحتلال التفكير في هذه الخطوة المجنونة، ويزيد من قوة وثبات الموقف الرسمي.
وقطع العلاقات السياسية والدبلوماسية يعني سحب السفير المصري من تل أبيب ومطالبة السفير الإسرائيلي بمغادرة مصر خلال بضعة أيام، ووقف كلِّ صور الاتصالات السياسية مع دولة الاحتلال، والتوقف الكامل عن التعامل السياسي والدبلوماسي معها، وما يستتبعه من وقف كلِّ صور المعاملات الاقتصادية.
التلويح بتعليق "الاتفاقية"
في التهديد بمراجعة اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية ضربةٌ قويةٌ لدولة الاحتلال، وضغطٌ حقيقيٌّ ومؤثرٌ على شركاء عدوانه من الدول الغربية، فإذا كان قطع العلاقات الدبلوماسية يجمِّد التعاون السياسي والاقتصادي بين الدول التي تقدم عليه، فإن تعليق العمل باتفاقية السلام سيكون خطوة تصعيدية تضع الحياد المصري بشأن الصراع العربي الإسرائيلي على المحك.
خلال نحو خمسة عقود، كان أهمّ ما حققته "إسرائيل" سلامها مع مصر. صحيحٌ أنه ظلَّ سلامًا رسميًا باردًا ولم يكُن يومًا تطبيعًا كاملًا بما يتضمنه من قبول شعبي، إلا أنَّ تسكين الجبهة المصرية الساخنة، وإخراج مصر، أو تحييدها على الأقل، من معادلة الصراع مع العرب، هدف استراتيجي حققته إسرائيل ولا يمكنها المغامرة بخسارته، ما يعني أنَّ التهديد بإلغاء الاتفاقية من جانب واحد ستكون خطوة مؤثرة بشكل كبير في إجهاض سيناريو التهجير المفزع.
الخوف نفسه الذي يتملك إسرائيل من خسارة كل ما بنته على مدى عقود لتسكين الجبهة المصرية، سيتملكها إذا ما شعرت أنَّ دفعها الفلسطينيين إلى سيناء سيكلّفها علاقاتها السياسية والدبلوماسية مع الدولة العربية الأهم، ما سيدفعها بكل تأكيد إلى إعادة التفكير قبل أنَّ تواصل تنفيذ قرارها بالتهجير.
مظاهرة واحدة في كل مكان
وبينما نفكر في كيفية تعامل الدولة مع سيناريو التهجير، لا يجب أبدًا أن نخصم من قوتنا صوت الشعوب العربية التي تتظاهر سلميًا في كل الشوارع والميادين تضامنًا مع فلسطين ورفضًا لسيناريو التهجير، وظني أنَّ الدعوة ليوم موحد للتظاهر في كل الدول العربية، بإمكانه إجبار شركاء العدوان على إعادة التفكير في الحرب وما قد ينتج عنها، فالقوى الغربية لها مصالح كبيرة في منطقتنا العربية، والغضب الشعبي الواضح، الذي سترسِّخه المظاهرات الشعبية، سيصبح قوة ضغط فاعلة في تقييم هذه الدول الغربية لمشهد العدوان.
والمؤكد أنَّ الغضب الشعبي العربي وصل إلى مداه، وأنَّ الملايين سيستجيبون لهذه الدعوات التي ستعبّر عن ضميرهم وهم يشاهدون حرب الإبادة ويشعرون بالعجز وقلة الحيلة.
الآن وبلا تأخير علينا التهديد بكل ما نملكه من أدوات ضغط لقتل هذا السيناريو الملعون في مهده، قبل أن نجد أنفسنا في مواجهة مشهد صعب لا يمكن التعامل معه بالقوة، ولا يمكن في الوقت نفسه قبوله أو التسليم به، لنتحرك الآن وقبل فوات الأوان.