في اليوم المائة لمعركة طوفان الأقصى كانت نقابة الصحفيين الفلسطينيين تعلن وصول أعداد الشهداء من الصحفيين في قطاع غزة إلى 112 شهيدًا بينهم 14 صحفية. أرقام مفجعة لا يمكن معها تبرئة الاحتلال من وصمة الاستهداف العمدي، فلا يمكن أن يموت أكثر من مائة صحفي عن طريق الخطأ.
المقصود هو تعتيم "إسرائيل" على الجرائم التي ترتكبها، لا سيما وقد لعبت الصورة والكلمة دورًا مهمًا في فضح جرائم الاحتلال؛ فلأول مرة ينتبه الرأي العام العالمي لكم الجرائم والانتهاكات التي يمارسها الجيش المحتل بحق الشعب الفلسطيني، ولأول مرة تكسب القضية الفلسطينية هذا الدعم الواسع من الشعوب الحرة في العالم بعد أن كشف الإعلام زيف الروايات الإسرائيلية وبؤسها.
الاستهداف المتعمد للصحفيين أشار إليه مركز حماية الصحفيين في تقرير أصدره ديسمبر/كانون الأول الماضي، بعد استشهاد مصور الجزيرة الصحفي سامر أبو دقة وإصابة زميله وائل الدحدوح مراسل القناة. وقال المركز في بيان أصدره وقتها إن "استشهاد سامر أبو دقة أثبت بالدليل الملموس أن استهداف الصحفيين من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي متعمد وممنهج"، وأضاف البيان "جرائم قتل الصحفيين في غزة تعد أكبر مذبحة في تاريخ الصحافة، في وقت قصير وبقعة جغرافية ضيقة".
الأمر لم يقف عند حد جريمة الاستهداف المتعمد، بل إن الأرقام التي أعلنتها نقابة الصحفيين الفلسطينيين مفزعة وكاشفة لما يلاقيه زملاء المهنة في فلسطين المحتلة من إرهاب لم يتعرض له الصحفيون في التاريخ الذي نعرفه. ففي فترة لم تتعد 90 يومًا، تجاوز عدد الشهداء من الصحفيين ضعف زملائهم الذين استشهدوا في هذا النزاع في الفترة من 2000 إلى 2020، وفق بكر عبد الحق عضو مجلس نقابة الصحفيين الفلسطينيين.
تصريحات عبد الحق أضافت مزيدًا من الصدمات والأرقام المخيفة وغير المسبوقة فهناك أكثر من 60 جريحًا من الصحفيين لا يزالون يتلقون العلاج، فضلًا عن أكثر من 300 صحفي فقدوا منازلهم وأسرهم بسبب القصف المباشر، فيما تم تدمير 64 مؤسسة إعلامية، فضلًا عن حملات اعتقالات طالت 48 صحفيًا في الضفة الغربية، لا يزال 32 منهم في سجون الاحتلال.
بإعلان هذه الأرقام المخيفة وغير المسبوقة في تاريخنا الحديث، بات هناك دور مهم وكبير لنقابة الصحفيين في مصر، فهي النقابة الأهم عربيًا، وصاحبة التاريخ الكبير الداعم لقضية الشعب الفلسطيني، وهي التي لا تزال جمعيتها العمومية ترفض كلَّ صور التطبيع مع دولة الاحتلال، وتفرض العقوبات التأديبية على أعضائها المخالفين لقرار منع التطبيع المهني والشخصي.
كيف نحاصر الاحتلال؟
في مواجهة جرائم الاحتلال بحق الصحافة والصحفيين الفلسطينيين، كانت نقابة الصحفيين طوال الشهور الماضية تقود مشهد المجتمع المدني المصري في مواجهة العدوان الإسرائيلي، فقد أدى مجلس النقابة الحالي أدوارًا مهمة في دعم الصحفيين الفلسطينيين، تجاوزت الدفاع عن الصحافة لتصل إلى توثيق جرائم الاحتلال وكشف رواياته الكاذبة، فضلًا عن الوقفات الاحتجاجية وقوافل الإغاثة وغيرها من صور الدعم النبيل لفلسطين وقضيتها.
لكن الآن، بات على النقابة العريقة أن تلعب دورًا جديدًا ومهمًا يتجاوز الداخل للوصول إلى الخارج، والمعنى: ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين أمام المحاكم الدولية، وفضح همجية الاحتلال وجرائمه بحق الصحفيين في غزة، وفي تقديري يمكن أن يحدث ذلك بطريقين.
الأول يكون بالتعاون مع اتحاد الصحفيين العرب، والتحرك على مستوى نقابات وهيئات الصحافة والصحفيين في العالم، والتشاور مع أساتذة القانون الدولي في مصر والوطن العربي والعالم للوصول لأنسب صيغة قانونية لملاحقة الذين ارتكبوا الجرائم في حق الصحفيين بالاسم، بداية من بنيامين نتنياهو رئيس وزراء دولة الاحتلال مرورًا بمجرمي ما يسمى مجلس الحرب الإسرائيلي فردًا فردًا.
ولعلَّ لجنة توثيق جرائم الحرب التي شكلتها النقابة منذ الأيام الأولى لطوفان الأقصى تكون مفيدة ومهمة في أي تحرك قانوني تنوي النقابة تنظيمه ضد قيادات الاحتلال، وظني أن تنظيم مؤتمر في نقابة الصحفيين يضم ممثلين عن نقابات الصحفيين العربية والاتفاق على إعلان موقف موحد من الهجمة ضد الصحفيين يمكن أن يكون مفيدًا.
أما الطريق الآخر، فمن خلال التعاون مع الاتحاد الدولي للصحفيين، ودراسة إمكانية مشاركته في أي تحرك قانوني ضد دولة الاحتلال، وهو تحرك سيغدو مهمًا ومؤثرًا على المستوى الدولي، ويزيد من عزلة الاحتلال وحصاره في العالم، ويمنح الرأي العام العالمي مزيدًا من القوة في مواجهة الإجرام الإسرائيلي، ويكشف مدى الهمجية التي تعامل بها الاحتلال مع الصحفيين للتغطية على جرائمه التي ارتكبها ضد المدنيين العزل في قطاع غزة والضفة الغربية.
وتقديري أنَّ النقابة يمكن أن تدعو إلى اجتماع يشمل اتحاد الصحفيين العرب والاتحاد الدولي للصحفيين، بمشاركة عدد من كبار أساتذة القانون الدولي في الجامعات المصرية، لدراسة الخطوات التي يمكن البدء بها في سبيل ملاحقة مجرمي الحرب الذين قتلوا عشرات الصحفيين في عدة أشهر.
ولعل خطوات ملاحقة من قتلوا الصحفيين تتجاوز المعنى القانوني، على أهميته القصوى، لتصل لمزيد من فضح جرائم الاحتلال، وتصبح جزءًا من "المعركة الإعلامية" ضد إسرائيل في العالم. والمؤكد أنَّ الأحداث أثبتت أن "معركة الصورة والكلمة" كانت على قدر بالغ من الأهمية، وشاركت بشكل مهم وجاد في تغيير الرأي العام العالمي لصالح دعم الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
فلأول مرة يحتشد العالم بهذا الشكل غير المسبوق لدعم الشعب الفلسطيني، وربما هي المرة الأولى أيضًا التي تمتلئ فيها ميادين وعواصم الدول الكبرى في أمريكا وأوروبا بالأعلام الفلسطينية والمظاهرات الداعمة، في مؤشر مهم على تأثير الإعلام وقدرته على تغيير المزاج العالمي لصالح الشعب الفلسطيني وحقه في الحرية.
خطوات أخرى رمزية
على أني أعتقد أن ما قدمته نقابة الصحفيين حتى الآن من جهد مهم ومميز يمكن أن يكتمل بمزيد من الإجراءات في الداخل، لتكتمل الصورة العملية بإشارات رمزية ضرورية، فعلى سبيل المثال يمكن تحديد يوم سنوي دائم باسم "يوم فلسطين" يجتمع فيه الصحفيون المصريون كل عام لتذكر قضيتهم الخالدة، والتأكيد على الموقف الداعم والمساند للحقّ الفلسطيني.
هذا اليوم ليس فقط تكريمًا مستحقًا للشعب الفلسطيني وقضيته، بل رسالة دائمة تبعث بها النقابة إلى الأجيال الجديدة المنتسبة للمهنة، عن القضايا التاريخية والمبدئية التي تبنتها النقابة طوال تاريخها، وإعادة شحن طاقات الدعم والمساندة حتى في الأوقات التي ليست فيها أحداث استثنائية أو حروب، لتظل قضية فلسطين حاضرة دائمًا.
إلى جانب ذلك، يكمن منح عدد من زملائنا الفلسطينيين عضوية المنتسبين للنقابة المصرية، وهو إجراء يتيحه قانونها، مع تسمية قاعات في النقابة بأسماء صحفيين فلسطينيين ممن استشهدوا في الحرب، وإطلاق "جائزة فلسطين" ضمن جوائز الصحافة المصرية لهذا العام أو الذي يليه، يحصل عليها زملاء تميزوا في التعاطي مع الحرب؛ الذين تميزوا في تغطيتها خبريًا أو الذين نشروا تحقيقات مهمة عن العدوان وتفاصيله، وأخيرًا تخليد أسماء وصور الصحفيين الذين قتلهم العدوان الإسرائيلي في "لوحة شرف" على جدار مبنى النقابة.
في مواجهة الاحتلال والعدوان سيستمر دور نقابة الصحفيين العريقة، وسيتناقل أجيال الصحفيين المصريين القضية جيلًا بعد جيل حتى يأتي يوم تحرير فلسطين الذي يؤكد التاريخ أنه آتٍ مهما طال الزمن، وأنَّ الاحتلال زائل مهما تمادى في عدوانه وطغيانه.