بعد أشهر من فوز جوزيف بايدن بانتخابات الرئاسة الأمريكية 2020، وصفه الكاتب الصحفي توماس فريدمان، في حوار أجراه مع "سي إن إن"، بأنه قد يكون آخر رئيس موالٍ لإسرائيل من الحزب الديمقراطي.
بالنظر إلى سياسات سلفه دونالد ترامب، لم يتصور العرب والمسلمون الأمريكيون أن يقترب أيَّ رئيس آخر من ممارسته لصالح إسرائيل، ومنها نقل السفارة الأمريكية للقدس، اعترافًا بأنها عاصمة إسرائيل.
لكن لم تمضِ ثلاث سنوات حتى صدمهم بايدن بهذا الولاء الأعمى والدعم المطلق سياسيًا وعسكريًا وماليًا لإسرائيل، في حرب الإبادة التي تشنها على غزة.
جمع الأصوات لا يفسّر الأمر
من الخطأ الاعتقاد بأنَّ بايدن ينتهج هذه السياسة لضمان أصوات اليهود الأمريكيين، أو جماعات الضغط الصهيونية، فقد خسر بسياساته الكثير من الأصوات الانتخابية في حزبه، تفوق تلك التي رجّحت فوزه على ترامب في ست ولايات منقسمة بين الحزبين، تُسمّى الولايات المتأرجحة أي غير المضمونة تقليديًا لأحد الحزبين.
تخلى بايدن عن الجناح التقدمي في حزبه الديمقراطي، وخذله في عدة قضايا للحريات وحقوق الإنسان قبل حرب غزة، جميعها مرتبطة بمصالح إسرائيل وأصدقائها وخصومها. فمثلًا لم يستطع بايدن العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، الذي توصل إليه الرئيس الأسبق باراك أوباما حين كان بايدن نائبه، ثم جاء ترامب بعدهما لينسحب منه منفذًا طلب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
وحتى قضية حقوق الإنسان التي زايد فيها بحملته الانتخابية على ترامب بسبب علاقاته الوثيقة بولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس عبد الفتاح السيسي. فبعد أن توَّعد بايدن بجعل السعودية بلدًا منبوذًا، ووعد بعدم تقديم "شيك على بياض" لمصر، تغيرت الأمور وزار السعودية ومصر، بدءًا بمكالمته الهاتفية التي تأخرت مع السيسي لإسكات صواريخ حماس التي انطلقت ضد إسرائيل عام 2021، ثم تقارب مع السعودية وما يزال مستعدًا لتلبية كل مطالبها، حتى التي لم تحصل عليها من ترامب، طالما ستوقع معاهدة السلام مع إسرائيل!
من الخطأ أيضًا الاعتقاد بأنَّ هدف بايدن من صفقة التطبيع الإسرائيلي السعودي ضمان إعادة انتخابه. لقد جاء بايدن بعد فترة واحدة لترامب، الذي خسر الانتخابات رغم أنه حقق لإسرائيل أكبر عدد من اتفاقات السلام مع دول عربية في زمن قياسي، إذ امتدت الاتفاقات الإبراهيمية لتشمل المغرب والسودان إلى جانب الإمارات والبحرين.
وقبل هؤلاء جميعًا، خسر الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر عام 1980 الانتخابات الأمريكية لفترة رئاسية ثانية، في العام التالي لإنجازه اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، أول وأهم اتفاقية سلام بين الدولة العبرية وبلد عربي.
مع فوز بايدن بالرئاسة، كانت هناك بعض المخاوف لدى اللوبي الإسرائيلي من فريق وزرائه ومساعديه المحسوب بعضهم على مجموعة أوباما ومواقفها الناقدة لإسرائيل، لم يخففها تواجد مساعد بايدن الأقرب منذ سنوات خدمته في الكونجرس أنتوني بلينكن، أحد أبناء الناجين من المحرقة النازية، وزيرًا للخارجية.
الأمر نفسه أكد عليه الكاتب الصحفي فرانكلين فوير مؤلف كتاب "السياسي الأخير داخل البيت الأبيض لجو بايدن والنضال من أجل مستقبل أمريكا"، إذ يقول "بايدن جاء من جيل مختلف عن فريقه المختص بالسياسة الخارجية.. فقد نشأ في عالم ينظر فيه أغلب الأمريكيين، خصوصا الليبراليين، إلى إسرائيل باعتبارها معجزة ومغلوبة على أمرها بشكل يدعو للشفقة".
العرب والسود يلفظون مرشحهم
لم يسبق للعرب الأمريكيين أن نظموا مظاهرة بضخامة التي شهدتها العاصمة واشنطن السبت الماضي، عندما توافد مئات الآلاف منهم من ولايات الشمال والوسط والجنوب، بسيارات وأوتوبيسات في مواكب منظمة انطلقت من نقاط التقاء عند مساجد الكثير من المدن، مطالبين بوقف إطلاق النار ووقف الإبادة الجماعية، ومحتجين على تحيز الرئيس الذي انتخبه أغلبهم قبل ثلاث سنوات للتخلص من ترامب.
منظمو المظاهرة التي رتَّبوها مع مناهضين للحرب، سواء من اليهود دعاة السلام، أو بعض الشباب التقدمي من الجامعيين وبعض الأمريكيين الأفارقة وغيرهم، فوجئوا بزيادة عشرة أضعاف العدد الذي خططوا له وكان من ثلاثين إلى أربعين ألفًا. وبالتالي كانت المنطقة التي حصلوا على تصريح بإغلاقها لتجمعهم أصغر بكثير من أن تحتويهم، ما حال دون عمل مسيرة لأنه لم يعد هناك مكان للسير من شدة الاكتظاظ.
لقد شعروا أن الرسالة وصلت، حتى وإن أهملت قنوات التليفزيون بما فيها المحلية تغطيتها لأكثر من بضع دقائق في نشراتها، بشكل يتسِّق مع فزع الإعلام الغربي من إبداء أي تعاطف يغطي على المصاب الإسرائيلي قبل شهر مضى. ففي اليوم التالي، بدأت الإدارة الأمريكية تتحدث عن هُدنٍ، وليس وقفًا لإطلاق النار، ردَّ نتنياهو بعد محادثة بايدن الاثنين برفضها، مؤكدًا أنَّ أيَّ هدنة لن تتجاوز ساعة هنا أو اثنتين هناك لإيصال بعض المساعدات.
هذا الانفضاض العربي عن بايدن، وثَّقه استطلاع للرأي أجرته مؤسسة زغبي في الأسبوع الماضي لعيِّنة من العرب الأمريكيين، يُظهِر أنَّ 17% فقط منهم ما زالوا مستعدين للتصويت لصالح بايدن في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، مقارنة بـ59% صوتوا له في انتخابات نوفمبر 2020.
كما انخفضت نسبة تأييد بايدن عمومًا من 74% قبل ثلاث سنوات إلى 29% الآن.
بل ولاحظ الأخوان جيمس وجون زغبي تغيُّرًا مذهلًا في التوجهات الحزبية للجالية بشكل لم يحدث منذ بداية إجرائهما تلك الاستطلاعات الدورية قبل ربع قرن.
فبينما كان عدد المنتمين للحزب الديمقراطي من ذوي الأصول العربية ضعف الناشطين العرب في الحزب الجمهوري حتى 2016، تغيَّر الوضع ليصبح المنتمون أو من يفضلون الحزب الجمهوري 32% من العرب الأمريكيين، أما نسبة تفضيلهم للحزب الديمقراطي فانخفضت إلى 23%.
أحد العوامل المؤثرة في انخفاض التأييد يعود إلى أجندة الديمقراطيين الليبرالية، حتى على المستوى المحلي والإدارات التعليمية، مع تزايد قلق العائلات العربية المحافظة من انحياز الديمقراطيين إلى حقوق المثليين، ومناهج التعليم الأساسي التي يرفضها معهم اليمين الجمهوري.
بالتالي، كان انحياز بايدن لإسرائيل في هذه الحرب القشة التي قصمت ظهور العرب والمسلمين الأمريكيين، الذين رجحت مئات الآلاف من أصواتهم كفة بايدن في ولايات حاسمة وبها كثافة عربية مثل ميتشيجان وأوهايو وبنسلفانيا.
بل يسجل الناشطون السابقون في الحزب الديمقراطي حاليًا مؤسسات مناهضة لبايدن لضمان التصويت العقابي ضده، سواء بالامتناع أو البحث عن أي بديل.
أما أحدث استطلاع لرأي الناخبين السود الأمريكيين، فأجرته صحيفة نيويورك تايمز في ست ولايات متأرجحة وحاسمة في السباق الرئاسي، وأظهر استعداد 22% منهم للتصويت لدونالد ترامب الذي لم يحصل من ناخبيهم من قبل إلا على 8%. بل حتى لم يسبق لمرشح جمهوري على مدى نصف قرن أن حصل على أكثر من 12% من أصوات السود.
يؤيد أغلب الأمريكيين الأكبر من من 65 سنة حرب إسرائيل في غزة، فيما ترفضها الأجيال الشابة بين 18 و34 سنة
واللافت في الاستطلاع الأخير، أنَّ نسبة تأييد بايدن كمرشح ديمقراطي انخفضت بين السود إلى 71%، فيما لم يسبق أن انخفض تأييدهم لمرشح ديمقراطي عن 80%.
معارضو إسرائيل هم ناخبو بايدن
في الأسبوع الرابع من حرب غزة، أجرت جامعة كوينيبياك/Quinnipiac الأمريكية استطلاعًا للرأي العام الأمريكي بشأن الحرب. فكانت نسبة المؤيدين لعمليات إسرائيل العسكرية 50% والمعارضين 35%. حزبيًا جاءت أغلبية المؤيدين من بين الجمهوريين، الذين أيَّد 75% منهم الحرب مقابل 14% رفضوها. أما الديمقراطيون، فكان 49% منهم مع الحرب، و33% ضدها.
من الناحية العمرية، وبغض النظر عن الحزب، سنجد أنَّ كبار السن فوق 65 سنة، جيل بايدن المتعاطف مع إسرائيل "المستضعفة" عند نشأتها، يؤيدون حربها في غزة بنسبة 59% مقابل 27% يرفضون، ولكنَّ الشباب بين 18 و34 سنة، يرفض معظمهم، بنسبة 52%، الحرب الإسرائيلية التي لا يؤيدها إلا 32% منهم.
وبنسب متقاربة جاءت أيضًا مواقف المستطلعة آراؤهم من المسجلين في قوائم الانتخاب بشأن إرسال مزيد من الدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل.
ذلك كله، يجعل مواقف بايدن لا تمثل الكتلة الحرجة التي رجّحت كفّته على ترامب في الانتخابات الماضية.
هل من بديل؟
معضلة الناخبين سواء من المُحبطين من سياسات بايدن، أو غير المقتنعين بقدرته ذهنيًا على بدء فترة رئاسية ثانية وعمره 82 سنة، لا يجدون بديلًا عن مرشحهم الديمقراطي مقارنة بحدة اختلافهم مع أجندة ومزايدات المرشحين الجمهوريين.
ما يزال ترامب يتقدم السباق الرئاسي على بايدن في استطلاعات الرأي، رغم كل القضايا والمحاكمات الجنائية القائمة ضده. ولم يهتم بالدخول في أي مناظرة مع منافسيه لنيل ترشيح الحزب الجمهوري، لأنه يسبقهم بمراحل، ولا ينتظر مفاجآت تمنعه من الفوز بالانتخابات الأوَّلية لحزبه.
أقرب منافسَيْ ترامب من الجمهوريين أصحاب الفرص الضعيفة هما رون ديسانتيس حاكم ولاية فلوريدا، الذي يعادي الفلسطينيين لدرجة رفضه السماح بهجرتهم إلى أمريكا، وبعده نيكي هيلي مندوبة الولايات المتحدة إلى الأمم المتحدة في عهد ترامب، وهي أكثر تشددًا من نتنياهو ذاته تجاه العرب والفلسطينيين!
بدأ حديث خافت في الحزب الديمقراطي عن مدى إمكانية الضغط على بايدن لعدم ترشيح نفسه لفترة ثانية. لكن هناك من يرى أنَّ الوقت تأخَّر لبدء انتخابات أوَّلية بين الديمقراطيين لإنجاح البديل الأقوى، فيما يرى فريق آخر أن لا بديلًا جاهزًا سوى نائبة الرئيس كامالا هاريس، وفرصها في الفوز أقل بكثير من بايدن نفسه.
بالتالي، لن يجد معارضو سياسات بايدن من يصوتون له غيره، والأرجح أن المتضررين من سياساته سيكون عليهم البقاء في منازلهم يوم الانتخابات، عقابًا مزدوجًا له ولأنفسهم، بعد السماح بوصول من هو أسوأ منه عليهم للرئاسة!