أتوقف اليوم عن سلسلة مقالات العمران؛ فالنار مشتعلة بالجوار وفي القلب؛ بسبب جرائم ليس بوسعنا وقفها ولا التنبؤ بنتائجها.
وفي زعمي أنَّ الطرف الذي تأكدت هزيمته في حرب غزة قبل أن تنتهي هو الإعلام الغربي، الذي بدا من اللحظة الأولى عاريًا من كل المعايير الأخلاقية. حتى اغتيال إسرائيل 11 من الصحفيين، بما يرفع رصيدها إلى أكثر من ستين صحفيًا في عقدين ونيِّف، لم ينجح في هزِّ الانحياز الإعلامي غير المشروط للدولة المحاربة.
الانحياز الغربي ليس جديدًا؛ فقد اعتادت نخب الحكم الغربية بما فيها الإعلام ممارسة التضليل العميق طوال عقود الصراع، بتبنيها الدائم للرواية الإسرائيلية للأحداث، والتزامها بالاستراتيجية الصهيونية الدائمة التي تقوم على تغييب الرواية الأصلية، والاكتفاء بإغراق المتابعين في الخبر الجديد لحظة وقوعه، ثم توجيه الاتهامات الأخلاقية للفلسطينيين.
قصة تبدأ اليوم
"لا تصدعونا بالتاريخ، من الذي بدأ بالضرب اليوم؟". هكذا يصبح طعن مستوطنٍ أو تفجير انتحاريٍّ نفسه في نقطة تفتيش، مبررًا لحرب إبادة وعقاب جماعي للفلسطينيين. وهكذا يتم تمرير جرائم الحرب التي تمارسها إسرائيل في غزة مرة بعد مرة.
لا يدع ذلك الإعلام المنحاز المتلقي الغربي يسأل عن قانونية وجود المستوطن في الضفة الغربية وغزة، أو يدعه يعرف أن نقطة التفتيش مقامة في أرض محتلة، وتمارس أقسى أنواع الإهانة والإذلال لأصحاب الأرض، كلما أرادوا الانتقال من شارع لشارع ومن بلدة إلى أخرى في وطنهم.
وفوق كل هذا يجري تغييب حق الفلسطيني في تحرير أرضه بكل الوسائل، وهو الحق الذي يملكه الأوكراني اليوم ويصطف الغرب وراءه، مثلما امتلكه الفرنسي في مواجهة الاحتلال النازي إبان الحرب العالمية الثانية، دون أسئلة عن أيديولوجيا المقاومين، ومن دون أن يدينهم أحد أو يسأل إن كان بينهم من يدافع عن عقيدة دينية.
حتى الهوية الدينية لحماس لها قصة أصلية محجوبة، تضمنت بعض فصولها تصفية رموز المقاومة العلمانية، والتضييق على فصائل منظمة التحرير، وحصارها حتى قبول أوسلو والاعتراف بإسرائيل، وبعد ذلك حصار السلطة وإهانتها بالاعتداء الدائم على الفلسطينيين، والتهام المستوطنات للأراضي الفلسطينية، فماذا كانت إسرائيل تنتظر بعد كسر هيبة شريكها في السلام؟
عادة ما يمرر الإعلام الغربي وجهة النظر الصهيونية بهدوء، لكن هجوم حماس الكاسح جعل ذلك الإعلام عصبيًا
هذه الرواية المحجوبة تؤكد أن إسرائيل هي التي جعلت من وجود حماس ضرورة فلسطينية، إنها سعيدة بهذا البديل. بمعنىً أوضح؛ اختارت إسرائيل عدوَّها لتكتسب منه شرعية وجودها كدولة دينية عنصرية. وإسرائيل لا غيرها هي التي تجعل من حزب الله ضرورة لبنانية كعنصر مقاوم قيَّد عربدتها في لبنان، وبهذا تتحمل ليس فقط نتائج احتلال الضفة وغزة والجولان، بل ضعف الدولة في لبنان وارتباكها الدائم، وكلَّ أشكال عدم الاستقرار في المنطقة.
يواصل الإعلام الغربي حجب حقيقة إسرائيل كدولة فصل عنصري، نشأت بإجرام عصابات استيطان يهودية، أقرها قرار أممي بتأسيس دولة لليهود على قسم من أرض فلسطين، ولا تريد الدولة اليهودية الالتزام بحدودها في قرار التقسيم 181 لعام 1947.
يساهم الانحياز الغربي في تمسك الإسرائيليين بالمعادلة الصفرية؛ كل شيء لإسرائيل ولا شيء للفلسطينيين. وهذا جنون انتحاريٌّ يمينيٌّ له معارضوه بين الإسرائيليين أنفسهم، ولكن يتبناه الإعلام الغربي، ويثير سحابات من الدخان لتمويه الواقع بشعارات مثل "حق إسرائيل في الوجود". فهل يمكن لضمير حي أن يقول إنَّ حقَّ إسرائيل في الوجود؛ يشمل حقها في احتلال أراضي الفلسطينيين، ومصادرة أملاكهم، وتقييد حريتهم في الانتقال، وتبديد أمانهم الشخصي؟!
انحياز دون عقل
عادة ما يمرر الإعلام الغربي وجهة النظر الصهيونية بهدوء، لكن هجوم حماس الكاسح يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول جعل ذلك الإعلام عصبيًا؛ فظهرت فجاجته التي يستطيع تجميلها عادة، وارتكب كل أنواع التضليل والانحياز، من فبركة الرعب كما حدث في شريط CNN المنتشر على السوشيال ميديا، ويظهر فيه صوت من المحطة يوجه المراسلة بالارتماء على الأرض وافتعال الخطر، إلى سرعة تبني الإعلام الغربي للأخبار الزائفة بشأن الوحشية الفلسطينية في التعامل مع الأسرى، كمثال شائعة ذبح الفلسطينيين لأربعين رضيعًا.
كل ذلك بلغة منحازة تُسبغ صفة الإرهاب والداعشية على حماس، وفي المقابل تُسمّي الأسرى الإسرائيليين "رهائن" بكل ما في ذلك من نفي لطبيعة المواجهة كحرب، ونفي الحق في مقاومة الاحتلال، وتأكيد صفة حماس كجماعة إرهابية.
عدد المتحدثين الإسرائيليين للإعلام الغربي مهول. وكان من شأن التغييب الكامل للصوت الفلسطيني أن يصبح فضيحة، لهذا سُمِح لعدد محدود جدًا من الفلسطينيين بالظهور، مع وضعهم تحت حصار مرير. ورغم ذلك، نجحوا في تجريد ذلك الإعلام من ورقة التوت خلال الدقائق القليلة التي ظهروا فيها، ببساطة لأن روايتهم متماسكة وقضيتهم عادلة.
الحد الأقصى من فجور الانحياز ظهر في الـ BBC وقد صار سؤال مذيعها "هل تؤيد حماس؟" مدعاة للتندر المرير بين مستخدمي السوشيال ميديا. فرض المذيع حصاره على حسام زملط، رئيس البعثة الدبلوماسية الفلسطينية في لندن، بالسؤال وأخذ يُكرره بشتى الصيغ، دون الاستماع إلى ما يقوله، بما يتجاوز حق الإعلامي في السؤال ويتعداه لمستوى الاستجواب البوليسي في بلد استبداديٍّ ينتزع الاعترافات بممارسة العنف تجاه المتهم!
جانب من لقاء السفير الفلسطيني في لندن حسام زملط مع BBC
لماذا على الفلسطيني أن يدين نفسه؟ بهذا السؤال واجه حسام زملط المذيع المنحاز ردًا على تكراره المستفز للسؤال عن حماس. لماذا يُجبر الفلسطيني على التغاضي عن مبدأ حق المقاومة؟!
ما جرى لزملط تكرر مع سفيرة فلسطين في باريس هالة أبو حصيرة، والهدف من جهة حصر الحديث عن حماس، وما فعلته حماس لتأكيد مزاعم داعشيتها، وتبرير جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، ومن جهة ثانية الحفاظ على استراتيجية دفن القصة الأصلية، وحصر الصراع في اللحظة الساخنة.
بذلك يثبت الإعلام الغربي، على اختلاف مصادر تمويله، مطابقته للسياسة الغربية التي لم تزل تنتهج أساليب الاستعمار القديم في عالم جديد يتشكل على الصعيد الديموغرافي وتعدد وسائل الاتصال.
الغرب ليس غربيًا تمامًا
نستخدم كلمة "الغرب" للإشارة إلى الولايات المتحدة وكندا وأوروبا. هذا هو الغرب الذي تسلمت الولايات المتحدة قيادته عقب الحرب العالمية الثانية، ولم يزل قائمًا في ممارسات النخب الحاكمة، كما بدا في تصريحات رؤسائها وفي ممارسات إعلامها في الأزمة الأخيرة.
لا تريد أوروبا إدراك أن مصالحها في جنوب المتوسط أكبر مما يجمعها مع الولايات المتحدة
لكن على الأرض هناك واقع جديد لم يعد فيه الغرب غربًا خالصًا؛ بوجود المهاجرين من المغاربة إلى الأفغان والصينيين والهنود والأتراك، وقد رأينا تصدُّر الشرقيين المظاهرات المنددة بإسرائيل في لندن وباريس ونيويورك وغيرها. ولا يمكن للإصرار على تجاهل الحل العادل للقضية الفلسطينية أن يساهم في اندماج هؤلاء المهاجرين في أوطانهم الجديدة، أو يخدم السلم الاجتماعي في أوروبا التي لم تعد غربية ولا مسيحية تمامًا.
يلعب القرب الجغرافي دوره في جعل المهاجرين العرب والمسلمين أكثر التصاقًا بقضايا بلادهم الأم. وكل افتقاد للأمل جنوب المتوسط يدفع بموجات من الهجرة إلى أوروبا، وموجات جديدة من الغضب في دماء المهاجرين القدامى والجدد.
لهذا يمكن لرئيس الولايات المتحدة أن يمنح بركته دون تفكير لجرائم الحرب الإسرائيلية، ويمكن لوزير خارجيته أن يجعل جولته تضامنًا مع إسرائيل، فيما كان على ماكرون أن يتروى قبل أن يصف حق تحرير الأرض بـ"الإرهاب". لكنها لغة الاستعمار القديم، أطلقها الفرنسيون من قبل على مجاهدي الجزائر، ولم تتغير اللغة الرسمية الفرنسية، رغم أن فرنسا ذاقت مرارة الاحتلال، ورغم تراجع نفوذها الشنيع في إفريقيا بسبب التكلس السياسي على الرؤية الاستعمارية التقليدية.
لا تريد فرنسا، وكل أوروبا؛ الجارة العجوز، إدراك أن ما يجمعها من مصالح مع دول جنوب المتوسط أكبر مما يجمعها مع الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا القدر من الانحياز غير الأخلاقي لإسرائيل لا يمكن أن يساهم في خدمة السلام العالمي، أو حتى المصالح الأوروبية.