تصميم أحمد بلال، المنصة، 2024
منطق جديد تسعى لفرضه الولايات المتحدة يفترض أن العدل يعني تحقيق مصلحة الأقوى

اعتقالات الجنائية الدولية: عدالة تحت النار الأمريكية!

منشور الاثنين 25 نوفمبر 2024

تسبب قرار المحكمة الجنائية الدولية قبل أيام بإصدار مذكرتي توقيف ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف جالانت، في وجود بوادر خلاف بين أوروبا والولايات المتحدة، إذ ترى أوروبا أن الاحتفاظ بنظام دولي متماسك أهم من الحسابات السياسية لأمريكا.

وأعلن عدد من المسؤولين الأوروبيين احترامهم لقرار المحكمة، إذ أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية، كريستوف ليموين، أن بلاده ستتصرف "وفقًا لنظام المحكمة الجنائية الدولية". ومع ذلك، ترك ليموين الأمر غامضًا حول ما إذا كانت فرنسا ستعتقل نتنياهو إذا زارها أو نزل في أراضيها أم لا، مشيرًا إلى أن الأمر "معقد قانونيًا".

في هولندا، حيث يقع مقر المحكمة الدولية، كان وزير الخارجية كاسبار فيلدكامب أكثر حسمًا، إذ أعلن أن بلاده مستعدة لتنفيذ مذكرة التوقيف، كما أكد مفوض السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل أن مذكرات المحكمة الجنائية الدولية ليست سياسية ويجب احترامها وتنفيذها.

عصب أمريكا المكشوف

أما على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، الذي يفصل بين أوروبا والولايات المتحدة، فتبدو النخب الأمريكية كما لو كانت شربت من نهر الجنون. في البيت الأبيض، إذ أعلنت المتحدثة الرسمية، كثيرة الانفعال كالإدارة التي تمثلها، كارين جان بيير، رفض قرار المحكمة مشيرة إلى ما وصفته بـ"أخطاء عملية مقلقة" أدت إلى إصدار مذكرتي التوقيف، لكنها لم تتحدث عن تلك الأخطاء ولم تحدد مصادر القلق فيها أو ربما لم تود التوغل في تفاصيل كاذبة أكثر من ذلك.

دعوات في الكونجرس لمعاقبة المحكمة الدولية بالسلاح الأمريكي

في الكونجرس وصل مس الجنون مداه مع الأعضاء الجمهوريين الداعين إلى فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية والداعين لتدخل عسكري لاجتياح لاهاي والمحكمة نفسها لتجرئها على محاولة إنفاذ بعض العدالة، وحث السيناتور ليندسي جراهام قادة مجلس الشيوخ على تمرير مشروع قانون العقوبات ضد المحكمة بسبب ما أسماه "فعلًا فاضحًا".

كان مجلس النواب الأمريكي وافق على مشروع القانون، لكنه لم يمر بعد في مجلس الشيوخ، ويشترط الدستور الأمريكي موافقة المجلسين على مشروعات القوانين قبل إصدارها رسميًا. وينص المشروع الذي قدمه النواب الجمهوريون وانضم إليهم 42 نائبًا ديمقراطيًا على فرض عقوبات على الأفراد المشاركين في أي جهود للتحقيق أو اعتقال أو احتجاز أو محاكمة أي شخص تحميه الولايات المتحدة وحلفاؤها.

لم يتوقف الأمر عند الدعوة للعقوبات، إذ ذهب السيناتور توم كوتون آخر المدى، بالدعوة لاستخدام القوة العسكرية بموجب قانون حماية الأعضاء العسكريين الأمريكيين الذي صدر في 2002، المعروف بشكل غير رسمي باسم "قانون غزو لاهاي".

تهدد الولايات المتحدة عبر هذا القانون هولندا، والمحكمة الجنائية الدولية، بالقوة العسكرية لوقف مسار العدالة إذا ما طالت عسكريين أو مسؤولين أمريكيين، لكن السيناتور كوتون يقر ضمنًا أن الإسرائيليين، كالأمريكيين، فوق العدالة الدولية ولو بالقوة. تنحرف أمريكا يمينًا كلما تم الضغط على عصبها المكشوف، إسرائيل.

تخريب المعبد من داخله

تستكمل الولايات المتحدة، المدفوعة باندفاعات سياسيين مؤدلجين في مؤسساتها الكبرى، طريق تخريب النظام الدولي الذي جرى تأسيسه منذ عام 1945 لخدمة المصالح الأمريكية وتأكيد زعامة واشنطن للعالم، أو على الأقل ما يسمى بالعالم الليبرالي.

مع نهاية الحرب العالمية الثانية، سعت الولايات المتحدة إلى بناء نظام دولي يعزز هيمنتها ويخدم مصالحها الاقتصادية والسياسية، من خلال إنشاء مؤسسات دولية مثل الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، فتمكنت من فرض قواعد النظام الدولي الليبرالي الذي يضمن أكبر قدر من تدفق التجارة عبر البحار، ويضع قواعد دولية تلتزم بها الدول لمنع اللجوء المنفلت للقوة!

لكن تبدو الولايات المتحدة اليوم كمن بنى صرحًا كبيرًا ثم بدأ في تخريب أعمدته من الداخل، من أجل حماية إسرائيل وقادتها. تسعى واشنطن المدفوعة بأيديولوجيات "أمريكا وإسرائيل" أولًا، أو عقيدة الحفاظ على التفوق الأمريكي؛ إلى تقويض نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية فتستكمل مهمة تفكيكه بنفس حماسها في مرحلة بنائه.

الولايات المتحدة التي ترفض التصديق على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، يهدد نوابها بغزو لاهاي ومقر المحكمة بالقوة وتقويض القوانين التي تتعارض مع مصالح نخبها وعسكرييها وحلفائها المقربين. كما نسقت مع إسرائيل الهجوم السياسي على مؤسسات الأمم المتحدة، بما أضعف فاعلية النظام الدولي الذي بنته مما يشكل خطرًا عليها. 

المصلحة الأمريكية تُصاغ في العقل الجمعي لمواطنيها وفق مصلحة إسرائيل

يشكل عالم بلا نظام خطرًا على القوى العظمى التي لا تريد إهدار  طاقتها في حروب لا تنتهي تشعلها فوضى غياب المعايير. فواشنطن يمكنها الانتصار على الجوعى والمنهكين من النار الأمريكية في غزة، لكن يومًا بعد الآخر يدرك حلفاؤها أن السائق الأمريكي يقود بتهور ملحوظ، وعجلات سيارته تغرس في رمال ودماء الشرق الأوسط وجليد روسيا الذي يستنزف قدراتها دون قدرة على الحسم. 

تبدو الولايات المتحدة مدفوعةً لشرب السم حتى آخره، فالأيديولوجيا أصبحت أقوى من حسابات المصلحة، والقناعات العاطفية أضحت أقوى من الاختيارات العقلانية، ومصلحة إسرائيل في كثير من الأحيان مقدمة على المصلحة الأمريكية، بل إن المصلحة الأمريكية ذاتها يتم صياغتها في العقل الجمعي الأمريكي وفقًا للمصلحة الإسرائيلية.

فقد كشف تحقيق جديد من Mint Press News أن منصات الإعلام وصناعة الرأي العام والرأي السياسي في واشنطن تجاوزت مرحلة مجرد الانحياز القيمي لإسرائيل، فهي مكتوبة ومنتجة من قبل جماعات الضغط الإسرائيلية نفسها بما يعكس تضاربًا فجًا بين المصالح.

فضح التحقيق شبكة من مئات الأعضاء السابقين في جماعات الضغط الإسرائيلية يعملون في بعض أكثر المؤسسات الإخبارية نفوذًا في أمريكا، مما يساعد في تشكيل فهم الجمهور للأحداث في الشرق الأوسط. وفي هذه العملية، تساعد هذه السيطرة المنحازة في تبييض الجرائم الإسرائيلية وتوجيه الإجماع الأمريكي لاستمرار مشاركة الولايات المتحدة في حروب إبادة مثل تلك التي تدور في غزة.

كما كشف التقرير أن العديد من موظفي غرف الأخبار الرئيسيين في الولايات المتحدة أيضًا لهم صلات سابقة مع أجهزة استخبارات إسرائيلية، وأن الصحفيين من أصحاب الآراء المؤيدة للحق الفلسطيني جرى التخلص منهم بشكل موسع منذ أحداث 7 أكتوبر.

هل ينهار الإجماع الغربي؟

يأتي قرار الجنائية الدولية في لحظة حرجة فربما يدعم الانقسامات بين الولايات المتحدة المدفوعة بالأيديولوجيا وأوروبا المدفوعة بالمصلحة، خاصة في لحظة ما قبل وصول الرئيس المنتخب دونالد ترامب الذي سيعود رافعًا شعاره القديم ادفع لتحصل على البركة. يقايض ترامب أوروبا بالمال مقابل القوة العسكرية الأمريكية الجبارة التي تضمن أمنها ورخاءها، فصاحب عقلية التاجر، لا رجل الدولة، يرى التحالف بين أمريكا وأوروبا من منظور تجاري وأنها خدمة يجب أن تكون مدفوعة الأجر نقدًا.

تصاعدت الانقسامات وستتصاعد بين ضفتي الأطلنطي، وتؤسس أمريكا سابقة تاريخية لتشجع آخرين على تدمير قواعد العدالة الدولية لتمنح أعداءها رواية متماسكة. فهم ببساطة يقتفون خطى أمريكا نفسها. فلماذا يتمسكون بقواعد نظام دولي لا يتمسك به من صنعه؟ في عالم تبدو فيه واشنطن نفسها خارجة عن "إجماع واشنطن".

لا أحد يريد أن يظهر ملكيًا أكثر من الملك نفسه. وحكم المحكمة الجنائية الدولية ضد جالانت ونتنياهو قد جعل ذات الملك يَظهر "عاريًا" تمامًا.