في دورات تأزم النظام الرأسمالي تظهر أسئلة التغيير الاجتماعي وخطاباته، وبشكل موازٍ تطفح أيضًا ترشحات والتهابات يمينية في جسد المجتمعات المأزومة، ولا سيما تلك التي اعتادت الحصول على امتيازات بديهية توارثتها أجيالًا وراء أجيال. هذه الالتهابات تبحث دائمًا عن كبش فداء ما تبرر به الأزمة، عوضًا عن التعاطي والاشتباك مع جذورها المادية الواضحة الجلية.
في الحالة الأوروبية، والأمريكية بدرجة أقل، تتغير فجأة صفة قطاعات من المواطنين، بعضهم أبناء لجيل ثانٍ وثالثٍ من المهاجرين. وتنتشر خطابات تريد أن تنزع عنهم أحقية مواطنتهم باسم عجزهم عن الاندماج والانصهار في "المجتمع" وقيمه. ويتم التفتيش في انحيازاتهم الثقافية وقياس مدى انحرافها عن أصول ومتون صحيح الحضارة.
هؤلاء، الذين يطلق عليهم الآن اسم مهاجرين، لم يكونوا مهاجرين في زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية ومشروع مارشال العملاق لإعادة إعمار أوروبا الخربة. بل كانوا هم بناة أوروبا الحقيقيين بعد أن حطمت القارة نفسها وكادت أن تفني البشرية كلها بمنتهى البربرية. برلين، بعد عام 1945، أعاد بناءها الأتراك والنساء الألمانيات.
وقتها لم يكن سؤال الاندماج الثقافي حاضرًا ومطروحًا بالهوس الحالي، حين كانت الحاجة إلى قوة العمل هذه حاسمة وماسة، فهل كفت هذه الحاجة عن الوجود الآن؟
فى أصول التواطؤ والنطاعة
تحمل الخطابات الدارجة ضد الهجرة والمهاجرين في دول الشمال الغني عددًا من التناقضات التي في سماتها قدر لا بأس به من النطاعة والشعبوية وغياب الاتساق. فمن زاوية، يتم تصوير المهاجرين، وأغلبهم مواطنين كاملي المواطنة، باعتبارهم ضد الحضارة ونظام الحياة الغربي وقيمه. وعليه، وبالتوازي، ينعتون بالكسل والاعتمادية على نظم الدعم الاجتماعي الحكومية، وضعف الإسهام في تسيير ماكينة العمل الإنتاجي المنتج للحضارة.
لكن، وفي الوقت نفسه، تتوازى مع هذه الخطابات مقولات ترى في ذلك "الآخر" لصًا يسرق أعمال ووظائف "الأصليين" عبر استعداد "اللص الحقير" لتقديم قوة عمله بأجر أقل، تُخفّض من سعر "الأصليين" في السوق. وهذه الحجة بالذات تتناقض مع جذر "التقدير" الطبيعي الملازم لمنطق نظام التبادل السلعي الرأسمالي وطموحاته الدائمة في إيجاد عمالة قادرة على عرض نفسها بسعر أقل مقابل الوفاء بنفس الجهد والخدمة.
التناقض السابق له جذرين؛ الأول يتعلق بتصورات قطاعات من الطبقات العاملة في دول الشمال عن نمط حياتهم "الطبيعي"، التي اتسمت كثير من ملامحها في العقود الثلاثة التي تلت الحرب العالمية الثانية بالرفاهة الاستثنائية، واستقرار اعتقادهم في ديمومة هذه الحقبة ومكتسباتها، من دون القدرة على مواجهة حقيقة كونها استثناءً تاريخيًا، وأن العوامل التي تهدد استقرارها أكثر بكثير من تلك التي تضمن استمرارها.
أما الجذر الثاني، فيأتي من حيث تتموضع التشكيلات الاجتماعية التي تم تسكين قطاعات لا بأس بها من مهاجري المستعمرات السابقة فيها. تلك المواقع التى حصرتهم في زاويا البروليتاريا الرثة في وقت تزامن فيه صعود الطبقة العاملة "الأصلية/البيضاء" إلى مصاف ومراتب الطبقات الوسطى، والتعامل على أن هذه الصيغة والمواقع تعبر عن "قوانين طبيعية" ستتوارثها الأجيال كابر عن كابر، وأنه ليس من حق أحد التعدي على هذه الصيغة ومحاولة تغييرها. وفرنسا نموذج حي وسفيه لذلك.
تصاغ الخطابات والتصورات والرموز لخدمة نتيجة نهائية، وهي ضمان استمرار كل عالم "وضيع" مِلكًا وحكرًا على هؤلاء المهاجرين ونسلهم. وإلا فمَن سيجني الحقول بشكل موسمي، ومَن سينظف المراحيض ويرتدي الياقات البيضاء المتسخة؟
بينما تنزع حركة رأس المال إلى الربحية، فهي تحتاج الأدوار التي تلعبها البروليتاريا الرثة
وعلى مستويات أقل قانونية، مَن الذى سيوفر خدمات الدعارة وحمايتها، ويسهل الحصول على المخدرات؟ عشرات من الأنشطة التي يشار إليها بسبابة الإدانة والتأفف بينما هناك يقين صامت بضرورتها، وضرورة ضمان انخفاض أجورها بالشكل الذي ينخفض معه سعرها للمستهلكين "الأصليين".
ليس كل "المهاجرين" من حثالة البروليتاريا بالطبع، فمنهم برجوازيون صغار وطبقات وسطى. ولكن الحفاظ على "رثاثتهم" يظل هدفًا يلاحق وجودهم، كشرط لازم لبقاء هذه التكوينات الجماعية الاجتماعية والسكنية في وضع يضمن سلامة وأبدية المنطق الخطابي المتناقض بشأنهم، من حيث كونهم أعداء الحضارة عديمي الإنتاجية وفي ذات الوقت لصوص فرص العمل.
كان للمفكر الأمريكي الراحل إيمانويل وليرشتين إسهام مهم في كتاب الرأسمالية التاريخية، تحدث فيه بشرح وافٍ عن الدور المهم الذي تلعبه البروليتاريا الرثة في دفع ماكينة تراكم رأس المال، بشكل بدا للبعض خروجًا عن التقاليد الأرثوذكسية للفكر الماركسي، التي ترى عمل البروليتاريا الرثة عملًا هامشيًا في عملية التراكم الرأسمالي.
أوضح وليرشتين أنه بينما تنزع حركة رأس المال إلى الربحية، فهي أحيانًا تحتاج إلى الأدوار التي تلعبها البروليتاريا الرثة. وفي مواضع كثيرة تعتمد عليها هيكليًا وتنزع إلى توسيع نطاقها، بل وإدامتها، بحيث يمكن ولفترات غض النظر عن التراكم الناتج عن قوة عمل تعمل بشكل غير قانوني ومنظم طالما أن عدم القانونية تلك هي ضمانة لخفض أجور العاملين بشكل كيفي وحاسم. ولم يستثن هنا العمل المنزلي للنساء في الأزمنة التي تلت التحاق النساء بسوق العمل البروليتاري.
العمل والمواطنة كصنوان في عالمنا المعاصر
ربما باستثناء دول الخليج العربي واليابان، أصبح العمل القانوني المنظم هو بوابة المواطنة في عالمنا المعاصر. وتحديدًا في الدول الغنية، يحصل الإنسان على "مواطنته" بعد أربع سنوات أو خمسة من العمل المنتظم القانوني المرافق لإقرار وضعية إقامته الدائمة.
توحَّدت سياسات الهجرة والتوطين في الخمسة عشر عامًا الماضية بشكل عالمي. فبعدما كانت كندا وأستراليا ونيوزيلندا تمنح جنسياتها للمقيمين الدائمين بعد سنتين فقط، وبعدما كانت دول أوروبا تمنح جنسيتها للمقيمين الدائمين بعد فترة قد تصل إلى عشر سنوات، تم تجسير الفجوة الزمنية بين النموذجين لتصبح في المتوسط أربع أو خمس سنوات في أغلب دول العالم الغني، باستثناء اليابان التي لا تزال متمسكة بقوانين عرقية متقادمة تهدد وجود الشعب الياباني نفسه!
يُخطئ من يظن أن عملية "الهجرة" وضبطها والتحكم في إيقاعها خارجة عن السيطرة
أصبح العمل القانوني، وليس أي شيء آخر، هو شرط المواطنة. والمواطنة هنا ستعني أحقية الحصول على حزمة من الخدمات والحقوق المادية والمعنوية، تتضمن الرعاية الصحية والتعليم والحق في السكن والحصول على مظلة حماية اجتماعية ووثائق سفر. وذلك في مقابل دفع الضرائب بشكل منتظم لصالح ذلك الكيان السياسي المسلح المسمى "دولة".
ينطبق هذا على دول مثل أستراليا ونيوزيلندا وكندا، وكذلك الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، وحتى تركيا. ويسري نفس المعيار على الولايات المتحدة مع فارق أن الدولة الأمريكية لا تقدم شبكات الرعاية والأمان الاجتماعي.
بناء على هذه الالتزامات المتبادلة بين العمل والمواطنة، المحددة بشدة وبحسابات باردة، يُخطئ من يظن أن عملية "الهجرة" وضبطها والتحكم في إيقاعها هي عملية خارجة عن السيطرة. فمن يريد منع "الهجرة" فعلًا وبالكلية، سيمنعها من مصدرها، حتى لو اضطر لإبادتها بالقوة المسلحة الغاشمة.
أستراليا مثلًا، لديها من التشريعات ما يسمح لها بإغراق مراكب المهاجرين دون رجفة عين. هي ببساطة لا تحتاج لهذا النوع من المهاجرين ولديها سياسة استقدام عمالة بشكل منظم وكفء وفعال، بل وأكثر ربحية. ربما لا يعرف الكثيرون أن تكاليف التقديم على فرص العمل وتأشيرات الدخول هي أحد مصادر دخل هذه البلدان، فهم حرفيًا يبيعون "الحلم".
وعليه فالسؤال ليس سؤال الهجرة، بل ما سيترتب عليها. فحاجة السوق إلى المهاجرين واللاجئين مؤكدة. ومن أكبر أكاذيب العالم المعاصر هي عجز الأوروبيين عن منع الهجرة غير الشرعية إلى بلدانهم.
الحقيقي هو عجزهم عن ضبط إيقاع تلك الهجرة بالشكل الذي يلائم احتياج سوقهم الداخلية إلى العمل "غير الشرعي" المطلوب دائمًا وبشدة. واحتياجهم لوضع هذه العمالة الجديدة في حالة دائمة من "اللا شرعية" بشكل يضمن التحكم في مستويات أجورهم ومواقعهم الاجتماعية والمعيشية، أي إعادة تدويرهم كبروليتاريا رثة على قوائم انتظار المواطنة، بينما يجنون الأرباح من حاصل فترة الانتظار تلك.
لكي تستغل إنسانًا يجب أن يكون موجودًا
الصيغة المثلى إذن، وفقًا لما سبق، عنوانها النظري المبسط هو "لا أريدك، ولكنني أريد قوة عملك". وأريد قوة عملك بقدر ما أريدك وجودًا شبحيًا مطاردًا، موصومًا بجريمة ما. أنت لست إلا قوة عمل منتجة مشروطة بالإخفاء والمطاردة.
هذه صيغة غير ممكنة، فلكي تستغل إنسانًا يجب أن يكون موجودًا. ربما تستطيع استئجار عامل في الصين ليصنع موبايلك عن بعد، لكن من المستحيل أن تستأجر عن بعد من ينظف خلفك فضلات أمعائك.
تعس هو العالم الذي يُعلن بمنتهى التبجح قدسية انتقال كل السلع بحرية بين الدول، بدون أي جمارك أو رسوم أو عوائق، إلا سلعة واحدة؛ سلعة العمل نفسها، سلعة الإنسان. وبائس هو العالم الذي يعتقد بعض جهلته في بداهة تقويم كل السلع بسعر "عالمي" واحد، باستثناء سلعة واحدة؛ سلعة العمل.
لماذا إذن لا نرد ما يسمونه "عولمة" إلى صفته وطبيعته الأصلية، أى إمبريالية واستعمار، ولكن هذه المرة في عالم واحد موحَّد وفي قلب كل إقليم داخله.