في عام 1992 لم يتريث المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما قبل أن يطور مقاله الطويل إلى كتاب يعلن فيه "نهاية التاريخ" ـ كل التاريخ. دفعة واحدة، وإلى الأبد. لن يوجد إنسان جديد بعد ذاك الذي صاغته التجربة الأمريكية في النصف الثاني من القرن العشرين. انتصرت الليبرالية الديمقراطية الغربية نصرًا نهائيًا وللأبد بسقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991.
جادل فوكوياما في كتابه أن للتاريخ مسار خطّي، يتطور للأمام. وأن نهاية التاريخ، بهذا المعنى، تعني أن الديمقراطية الليبرالية هي الشكل النهائي للحكم في كل دول العالم. وإنها كنظام، هي الأفضل سياسيًا وأخلاقيًا واقتصاديًا من أي نظام آخر. وبالتالي، لا يمكن أن يُستبدل بها آخر أكثر تقدمًا.
صحيح أن المستقبل ربما يكون مليئًا بالأحداث، لكن هذه الأحداث ستتمحور بالأساس حول انتشار الديمقراطية الليبرالية في العالم، حتى لو ظهرت سلطويات وشموليات هنا وهناك بين الفترة والأخرى. وفي نفس السنوات، كانت مجلتا التايمز ونيوزويك تتحدثان بنشوة عن نهاية التاريخ اقتصاديًا؛ رخاء مستمر ونمو أبدي، وأسواق تزدهر إلى مالا نهاية.
كان هذا في عهد إدارة كلينتون–جور الديمقراطية الليبرالية.
ولكن قبلها بخمسين عامًا، وفى ثقة شبيهة، أعلن الرايخ الثالث الألماني تحت قيادة أدولف هتلر أن انتصاره المؤكد والحتمي في الحرب العالمية الثانية سيمكنه من حكم العالم لألف عام قادمة!
في كتابه القرن العشرين الطويل، أرخ المفكر الإيطالي الراحل جيوفاني أريجي للقرن العشرين كزمن لصعود أمريكا والشيوعية معًا، وسمّاه "القرن الأمريكي/ القرن الماركسي". واعتبر أنه بدأ متأخرًا مع انتهاء الحرب العالمية الأولى 1914-1918، وانتصار الثورة الاشتراكية في روسيا، وانتهى مبكرًا عام 1991 بسقوط الاتحاد السوفيتي والانتصار الأمريكي المظفر.
ولكن ربما كان للقرن العشرين بداية أخرى من زاوية نظر مختلفة، وهي لحظة انتصار اليابان على روسيا في حرب عام 1905. تلك الحرب التي انتصر فيها، لأول مرة في التاريخ، جيش نظامي غير أوروبي على جيش نظامي أوروبي في حرب حديثة. كان هذا حدثًا محوريًا لمثقفي الشرق في مصر وتركيا وإيران والهند، ورأوا فيه محطة فارقة وتاريخية، وأن الانتصار على الإمبرياليات الأوروبية ليس مستحيلًا.
تضافرت في القرن العشرين عوامل جعلته قرن "الشعوب" بألف لام التعريف. لم تعد الشعوب تلك المجاميع السكانية التي تسكن النتوء الشمالي الغربي من قارة أوراسيا، كما لم تعد مجرد فكرة أوروبية حصرية، بل نجحت أربع أخماس البشرية أن تضيف نفسها إلى المعادلة بشكل خلق حجرين لزاوية الصراع طوال القرن القصير.
حجر الزاوية الأول هو الشيوعية والتهديد الداخلي للنظم السياسية الأوروبية من قبل طبقاتها العاملة. والثاني، هو حركات التحرر الوطني لشعوب وجماعات لم تكن موجودة على الخارطة من قبل، ثم صارت لها برجوازيات تتحدث باسمها وتطالب بالاستقلال.
العالم كرهينة في قاعدة عسكرية أمريكية
لكن المؤسف، أنه في أعقاب النهاية المبكرة للقرن العشرين بنهاية الاتحاد السوفيتي، أبدى الطرف الأمريكي المنتصر درجة من "النطاعة الإجرامية" غير العادية حيال كوكب الأرض ومشكلاته. تعاملت الولايات المتحدة مع انتصارها هذا كنهاية للتاريخ فعلًا، ستكف بعدها كل البشرية عن التمرد على ما سيتأسس من نظام إمبراطوري عالمي بقيادتها المنفردة، وهي التي تمتلك فائضًا من القوة والتسلح أضعاف ما لدى بقية العالم مجتمعًا.
ما امتلكته الولايات المتحدة من ترسانات نووية كان قادرًا على إرهاب المواطن في تايلاند وموزمبيق، وداخل الولايات المتحدة نفسها، إذا ما سولت له نفسه التمرد. ولم يكن غزو العراق في 2003 إلا وسيلة إيضاح عالمية، لا هدف منها ولا مغزى سوى أن تكون وسيلة إيضاح عالمية.
في عالم الارتهان النووي تدرك الإمبريالية الأمريكية رغم تسليحها إنها لا تستطيع الدخول في مواجهات مع خصوم جادين
رؤى فى انهيار الاتحاد السوفيتي إجابة شافية لكل أسئلة القرن العشرين ومشكلاته، وكان هذا أمرًا سفيهًا بالطبع. لم تنته الأسئلة، ولم يتم الإجابة إلا عن القليل منها. كل ما في الأمر أن البشرية صارت محكومة بالرعب من إمكانية الإفناء الذاتي بما تحوزه من ترسانات نووية عملاقة. تلك الترسانات التي صاغت في وجودها المستمر حدودًا وأسقفًا شديدة الانخفاض لمخيلة العالم السياسية، الذي أصبح مرتهنًا بالرعب النووي بشكل جعل من فكرة نهاية العالم -وليس التاريخ- فكرة حاضرة بقوة في كل لحظة.
لم يُنه "نهاية التاريخ" سباق التسلح، ولا اقتصاديات العسكرة المستمرة التي تُنفق فيها ملايين التريليونات على تسليح لم تعد مفهومة علة وجوده إلا تهديد وجود البشرية بالكلية. وفي أجواء كهذه أصبحت فكرة التغيير الجوهري للأنظمة في مراكز العالم المتقدمة، مسألة محكومة بالخوف كالسير في حقل ألغام.
ومن الدعابات الهزلية لعالم ما بعد الاتحاد السوفيتي، التي استمرت لخمسة وعشرين عامًا على الأقل، هو صناعة الإسلام كعدو مسلي، تستطيع التعبئة ضده من دون أن يترتب على تلك التعبئة تكاليف توازي المكاسب المتولدة عنها.
باسم الحرب ضد الإرهاب تم عسكرة المجتمعات "الديمقراطية" أكثر وأكثر في مواجهة تحدي الإرهاب والمهاجرين، لمجابهة تهديدات غير وجودية بالمرة بالمقارنة مع مستويات التعبئة. قضى العالم ربع قرن من الزمان "مسحولًا" مع شيء تافه بالمعايير الكونية اسمه "التهديد الإسلامي"، بينما هو تهديد لا يهدد إلا نفسه، ولا يشكل خطرًا وجوديًا إلا على مجتمعاته الفقيرة والهامشية.
في عالم الارتهان النووي، تدرك الإمبريالية الأمريكية، رغم تسليحها، إنها لا تستطيع الدخول في مواجهات مع أنداد أو خصوم جادين، فذلك يمكن أن يكلف البشرية وجودها بالكلية. لذا فضّلت لعقدين من الزمان الاكتفاء بألعاب الفيديو جيم الحربية مع تفاهات الدواعش وأمثالهم، وذلك قبل أن تتراكم الأزمات إلى الحد الذي وصل إلى تأجيج الصراع مع روسيا حاليًا.
ما بعد 2008.. الاستثناء هو الأصل
مرَّ على ما بعد نهاية الاتحاد السوفيتي 32 عامًا ولم ينته التاريخ. ولم يصبح النظام العالمي الذي ادعى إنهاء التاريخ نظامًا مستقرًا وبديهيًا. بل أصبح في الغرفة فيل عملاق يزداد تضخمًا منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية الكبرى في 2008.
لم تُعالج تلك الأزمة حتى الآن، بل صرنا نعيش آثار تفاقم جراحها المتقيحة، وتشهد أيامنا الحالية الأذى الناتج عن محاولات معالجتها، وما نشأ عنها من تدهورات اجتماعية عنيفة على المستوى المادي والرمزي، وما أفرزته من تجليات سياسية مأزومة تظهر لنا بالتدريج عامًا وراء عام.
لم تعد متع الاستهلاك بديهية لمواطني "العالم الأول" ووصلت بعض الفئات إلى حدود التقشف
دعونا ندع انهياراتنا الاقتصادية جانبًا، فنحن دول متخلفة على أية حال، دائمًا ما نجد أنفسنا في مقدمة الغارمين ومؤخرة صفوف المغانم، نعي العالم من داخل أزمات اقتصادية دورية لا تتوقف. إنما الأمر اختلف فعلًا على مستوى معيشة الطبقات الوسطى في العالم الأكثر تقدمًا. صارت الحياة ضاغطة بالفعل وفقًا لمعاييرهم عن الرخاء التي تم نحتها بعد الحرب العالمية الثانية، ثم أصبحت بديهية.
انحسرت أوهام توريث الرفاهة لأبناء الموظفين أو العمال المأجورين. لم تتكدح الطبقات الوسطى بالطبع، لكنها فقدت تلك البحبوحة التي عاشتها لعقود لدرجة ظنت معها أنها بديهية، أوهام بلغت ذروتها في سيادة الدعايات التي تتحدث عن العامل الصناعي الأمريكي الذي يستطيع امتلاك بيت وسيارة وأرصدة بنكية، ومن بعده أولاده، بدون كفاحات مريرة.
أصبح القطاع الأوسع من المواطنين في "العالم الأول" يراجعون بنود إنفاقهم بدقة، لم تعد متع الاستهلاك بديهية فى أيام العطل الأسبوعية، ولبعض الفئات وصلت ضغوطات الحياة إلى حدود التقشف. اكتشفت معها قطاعات من الشعب الأمريكي مؤخرًا ضرورة وجود أنظمة للتأمين الصحي العام، بعد أن أدركت عدم قدرتها على الإنفاق على الصحة من جيبها الخاص بنفس الأريحية السابقة. وحدثت تحولات لا يمكن إغفالها في أنماط السكن لصالح اعتياد السكن التشاركي في المدن الرئيسية، ولحدود جعلته نمطًا اجتماعيًا حاضرًا بقوة نتيجة ارتفاع أسعار الإيجارات قياسًا بالدخول.
هذه الأوضاع جعلت قطاعات معتبرة من مجتمعات العالم الأول تعيد التفكير والنظر في "طبيعية" و"ديمومة" النظام الذي يعيشون تحت مظلته، في وقت أصيب فيه المجال السياسي العالمي بالفقر والتكلس، وأصبح عاجزًا عن مناقشة الوضع بجدية، واستمرأ حلب خطابات الهوية وسياساتها بشكل كسول وبيروقراطي وتعس، أصبحت معه السياسة مسألة "ثقافية" في عالم يئن تحت ضغوطات أسئلة شديدة المادية.
في عام 2019، أطل علينا فرانسيس فوكوياما من جديد عبر صحيفة واشنطن بوست، ليقول "كنت أعتقد أن عام 1989 فجر جديد للحرية، لقد كنت مخطئًا"!!