الحرب تجربة كريهة تصاحبها كل الاحتمالات المرعبة والمقامرات والرهانات غير المضمونة. لذلك، يسعى أغلب البشر إلى إنكار مقدمات اندلاعها باستخدام الوسائل الدفاعية النفسية والحيل الإرادية العقلية. ويزداد تملصهم من أشباحها وإنكار ثقل واقعها، كلما أدركوا أن المآلات المحتملة لطبيعتها المعاصرة قد تفضي إلى فناء الجنس البشري بالكلية.
مطلع عام 1939، سقط في هذا الفخ سياسيون أوروبيون مخضرمون بوزن ليون بلوم في فرنسا ورئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلين، وكلاهما عاصر ويلات الحرب العالمية الأولى، رفضوا الاعتراف بأن حربًا عالميةً جديدةً تلوح في الأفق. بل إن تشامبرلين عقد مع هتلر اتفاقًا قبل شهور قليلة من غزو ألمانيا لبولندا، وافقت بموجبه بريطانيا وفرنسا على ضم ألمانيا لشمال تشيكوسلوفاكيا، وراح يلّوح أمام وسائل الإعلام بورقة الاتفاق بسعادة من نزع للتو فتيل حرب كانت ستقع لولاه.
اليوم، يذهب أغلب المؤرخين إلى أن الحرب العالمية الثانية لم تبدأ عام 1939 بل قبلها بسنتين، عندما اجتاحت اليابانُ الصينَ. لكن في ذلك الوقت، ظلت الحرب تُسمَّى "الحرب في أوروبا"، إلى أن اكتسبت صفتها العالمية مع هجوم اليابان على بيرل هاربر عام 1941. وعلى مستوى أكثر إقليمية، يقول أحدُ من تورطوا حتى الثمالة في الحرب الأهلية اللبنانية، إنه لم يدرك أن لبنان في حرب أهلية إلا بعد بدايتها بعامين.
تصبح الأزمات والنزاعات المسلحة التي يمكن احتواؤها حروبًا قائمةً بالفعل، في اللحظة التي يستقر في وجدان أطرافها، أو أحدهم على الأقل، أن المبادرات والحلول السياسية مشروطة بمسارات الصراع المسلح ونتائجه الميدانية، لا بإرادة السلام والتسوية الساعية إلى وقفه ابتداءً.
وهذا ما نعيشه اليوم، سواء في شرق أوروبا منذ فبراير/شباط 2022، أو في الشرق الأوسط منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ديناميكية الحروب تشكِّل ما بعدها
منذ أعوام، بدأ مصطلح "ما بعد الحقيقة" يتردد وينتشر على نطاق واسع، لوصف المشهد الإعلامي العالمي ووسائطه المختلفة؛ الرصينة والرسمية وتلك التي تنتمي إلى عالم السوشيال ميديا، بطبيعته الحية والآنية.
ولكن ما لم يلتفت إليه الكثيرون، أن هذه السمات هي ما تُميِّز إعلام الحروب في العصر الحديث، سواء كانت حروبًا أهلية أو بين دول. حيث يكتسب الحدثُ الواحد، الذي تنقله نفس العدسة، أكثرَ من قراءة وتفسير، وحيث كل طرف يتحدث إما إلى جمهوره وقواعده للحشد والتعبئة، أو إلى جمهور العدو للإرباك والتضليل. وتزداد الدعاية السوداء ويصبح الأصل هو الكذب والإرباك وترويض الإنسان، ليعتاد المآسي ويتصالح مع يومياتها.
أضحت الحرب تجربةً وديناميكيةً بذاتها، من داخلها تتسارع الاكتشافات والأفكار وتتشكل الانحيازات
قديمًا، ظن المتصارعون أن نتائج الحروب هي التي تصيغ شكل السياسة في المستقبل. ربما كان ذلك صحيحًا في أزمنة معينة وإلى حدود بعينها. لكنَّ الحرب منذ قرن ونصف على الأقل، لم تعد تلك الفترة الزمنية الدموية المكثفة التي تفصل بين فترات الممارسة السلمية للسياسة، وفق مفهوم كارل فون كلاوزفيتز عنها باعتبارها ممارسةً للسياسة لكن بوسائل عنيفة.
ربما كان ذلك صحيحًا عندما صاغ الجنرال البروسي مفاهيمه في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، حيث وعي العالم بالحروب أسير ماضيها، كإرادة حصرية لارستقراطيات حاكمة وجيوش محترفة ناخبة، بينما عموم السكان مجرد غنائم محتملة لا تعرف ما يجرى حولها. كانت الحرب حادثة قصيرة ومكثفة وفي ميادين بعيدة، لا يعرف الناس نتائجها إلا مع مرور الجيوش تحت أقواس النصر أو الهزيمة.
لكن في العصور الحديثة، أصبحت الجيوشُ وطنيةً تُجنِّد الملايين من عوام الناس، وبات الإعلام والرأي العام والجبهة الداخلية جزءًا لا يتجزأ من الحرب ونتائجها. والأهم، أن الحروب استطالت زمنيًا وأصبح ممكنًا أن تمتد لسنوات، ليكون لها اقتصادها السياسي الخاص بها.
أضحت الحرب تجربةً وديناميكيةً بذاتها، من داخلها ومع امتدادها تتسارع الاكتشافات العلمية وتُنتج الأفكار النظرية وتتشكَّل الانحيازات السياسية الجديدة، مثلما طوَّرت الحربان العالميتان وسائل الاتصال، وسبَّبتا طفرات رهيبة في صناعات الأدوية والاكتشافات الطبية، وخرج من رحمهما السلاح النووى والنزعة الأممية، وتسارعت فيهما الاستثمارات العملاقة وضخ الأموال الكثيف.
ولدت الثورة الروسية الاشتراكية عام 1917 من رحم الحرب العالمية الأولى ومآسيها، تحت شعار لا للحرب، باعتبارها محرقةً يضع الرأسماليون والإمبرياليون العمالَ والفلاحين في أفرانها. وجدت هذه الشعارات صداها وسط جنود الجيوش المتحاربة بعد سنوات من حربِ خنادقَ عبثية، واستخدامٍ مكثف لأسلحة كيميائية، وجنود يموتون بالملايين في جنون إبادات لا تتوقف. من داخل تلك المقتلة، ازدهرت شعارات نبذ الحروب القومية التي تبيد الكادحين على جانبي الجبهة.
قال ليون تروتسكي ساخرًا إنه حتى مطلع عام 1916 كان بالإمكان جمع كل المؤمنين بالفكرة الأممية ورافضي الحرب العالمية في عربة قطار واحدة. ولكن ما حدث بعدها بعام ونصف فقط، أن العامة في الحقول والمصانع باتوا يرددون شعار "تسقط الحرب"، بينما الجنود على جانبى الجبهة يهرعون إلى بعضهم بعضًا لتبادل التحية والعناق.
ومثلما انفجرت الثورة الروسية من داخل الحرب العالمية الأولى، وُلد العجز السياسي الممتد إلى يومنا هذا مع نهاية الحرب العالمية الثانية بإلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناجازاكي عام 1945. لأن العالم بعدها أصبح أكثر ارتهانًا لرعبه النووي، وصارت حلوله السياسية أسيرةَ توازن الرعب الدائم. لم يعد من الممكن أن يتصور شعب من شعوب العالم الأول نفسه قادرًا على تغيير منظومة حكمه بشكل حاسم، فالمضمر والمعروف أن السلاح النووي موجه نحو الجميع في اللحظات الأكثر درامية وحسمًا.
حرب الرأسمالية المتأخرة على الإنسان
أصبح العالم قرية صغيرة بالفعل، ولكنها قرية صغيرة مرتهنة ومفخخة من رأس المال وأسلحة الدمار الشامل المزروعة في كل ركن فيه. أضحت السلع في هذه القرية المرتهنة تُصنَّع عبر سلاسل إنتاج عابرة للدول، دون أن تكون هذه القرية الواحدة قادرة على وضع سياسات وأطر قانونية مُرضية للتبادل التجاري بين أطرافها.
تَعرف منازل القرية الصغيرة جيدًا أن هناك أزمة اقتصادية هيكلية تعصف بالجميع منذ 2008 لكن دون إرادة سياسية جامعة بتجاوزها. ثم جاء كوفيد ليؤكد غياب تلك الإرادة. في وقت الجائحة، عجزت القرية عن تبنّي سياسات كونية موحَّدة لمواجهتها، بل راحت ضواحيها المختلفة تتخبط وتتبادل الاتهامات وتنتج كل واحدة لقاحاتها الخاصة وتنفذ سياساتها القومية منفردة تجاه الأزمة. وضعت الجائحة ادعاءات التعولم والكوكبة ووحدة الجنس البشري لمواجهة مخاطر آنية لا تميز بين جماعة وأخرى موضع الاختبار، وكانت النتيجة تعيسة ومحبطة.
وعلى جانب آخر، هناك معطى جديد لا يمكن إغفاله، وهو أن الأزمة الاقتصادية العالمية الممتدة عدَّلت في خريطة مواقع قوة الرأسمال العالمي ومعه نواتج النمو والتنمية، فالآسيويون أصبحوا "بشرًا" بالمعايير الغربية؛ يأكلون اللحم ويستهلكون التكنولوجيا والتعليم، والغرب يشاهد هذا التطور الرأسمالي القدري ويعرف جيدًا أنه سُنَّة من سُنَنِ الحياة، مثلما هجرة المعدمين من جحيم الفقر والعوز والحروب في إفريقيا وغرب آسيا وأمريكا اللاتينية، نحو بلدان الشمال الغنية منخفضة الخصوبة السكانية، أيضًا من سُنَنِ الحياة. ستتغير الديموغرافيا رغم أنف الجميع، وستحل العمالة المهاجرة محل السادة السابقين، والمسألة مسألة وقت.
إزاء كل هذه المعطيات والتحديات، وفي ضوء العجز التام على مواجهتها وفق خطط وتصورات عقلانية، يصبح العنف خيارًا واردًا ومنطقيًا عند البعض، وتصير الحرب إجابة مطروحة لأسئلة الأزمة.
لكن لا يبدو أن للحرب المنفجرة في شرق أوروبا والشرق الأوسط هدفًا واضحًا أو نهائيًا، على الأقل بالنسبة للمُركَّب العسكري السياسي الأمريكي، الذي تقتصر حلوله على الدعم المفتوح حتى النصر مع مقترحات الهدن الإنسانية، لتبدو الحرب وكأنها الهدف في ذاته.
ربما تظن الولايات المتحدة في نفسها القدرة على تفجير حروبِ استنزافٍ دافئةً، محكومةً بإمكانيات الردع المتوفّرة لدى مُركَّبها العسكري، بما يتمتع به من فائض قوة عسكرية وتكنولوجية لم يتوفر لأي إمبراطورية أخرى في التاريخ، يمتلك بفضله يدًا عُليا في ميدانه أضعاف ما لدى المُركَّب الرأسمالي من هيمنة يمكنه فرضها، في ظل توازنات القوة الاقتصادية العالمية حاليًا.
باستخدام هذا الفائض، يستطيع المُركَّب العسكري الرأسمالي الأمريكي إملاء شروط رادعة، بالتدريج، على حلفائه قبل خصومه، من خلال حروب طويلة شديدة الانضباط على مستوى الإيقاع وتوازن الردع وقوة النيران وتوقيتها.
نحن في حرب بالفعل، وهي حرب تخفض سقف تصورات الناس ولا تَعِدُهم بأفضل من البقاء أحياء
ولِمَ لا وللولايات المتحدة تجربة ناجحة في هذا النوع من الحروب؟ بمعنىً من المعاني، يمكن اعتبار الحرب الباردة التي انتهت عام 1991 بسقوط الاتحاد السوفيتي هي الحرب العالمية الثالثة الطويلة، ولكن بقواعد صراع واشتباك اختلفت عن الحربين السابقتين، جَنَّبت دول "العالم الأول" الاشتباك المسلح المباشر، وصدَّرته إلى دول العالم الثالث لتحارب بعضها، أو تتعرض لعدوان من إحدى القوى العظمى أو بدعم منها.
اندلعت الحرب العالمية الثالثة عام 1950 في الكوريتين بعد إعلان السوفيت نجاح تفجيرهم النووى الأول عام 1949. ظهرت حروب الوكالة وقتها ولم تتوقف. كانت حروب مصر وإسرائيل والهند وباكستان حروبًا غير مباشرة بين السوفييت والأمريكيين، فيما كانت الحرب الأمريكية في فيتنام والسوفيتية في أفغانستان نموذجين لتوريط إحدى القوتين الأخرى في استنزاف طويل، تدفع ثمنه شعوب مسكينة بالأساس.
لكن ثمة اختلافًا معاصرًا كبيرًا يمنعنا من مقاربة لحظتنا الحالية بالحرب الباردة، وهي أن الدولة القومية لم تعد بذات السيطرة على رأس المال في وقت الحروب. في الحرب العالمية الثانية، كانت الرأسمالية الأمريكية تخضع سياسيًا وخططيًا لإدارة الرئيس فرانكلين روزفلت. تملَّص بعض الرأسماليين الأمريكيين قليلًا من السيطرة وحافظوا على علاقاتهم وشراكاتهم التجارية مع ألمانيا النازية، لكن ذلك ظل استثناءً، في ظل أن رئيس مجلس إدارة شركة جنرال موتورز كان أيضًا رئيس هيئة التصنيع العسكري الأمريكي في الوقت نفسه.
أما اليوم، ومع نظام التعاقدات وتوريد العمالة/outsourcing، يمكن للتكنولوجيا أن تتطور وتستخدم خارج إرادة الإدارات السياسية وسيادة الدولة القومية. عقود ممتدة من السياسات النيوليبرالية أنتجت وحوشًا شركاتية خارج السيطرة، يمكن لها أن تخترق أجهزة الأمن والسيادة وتخضعها لحساباتها، أو على الأقل لا تضع أولوياتها في الحسبان، في ظل عجز قانوني وسيادي فج عن التعامل مع هذا الوضع.
ونحن هنا نتحدث عن الولايات المتحدة، لا عن بلد مثل مصر.
تفجيرات "البيجر" نموذجًا
يمكننا اعتبار تفجيرات البيجر واللاسلكي التي استهدفت بها إسرائيل لبنان الأسبوع الماضي، واحدةً من أكثر الهجمات إرهابًا وشراسةً في التاريخ. تنفجر آلاف الأجهزة، بالتزامن، أينما كانت، في بيتٍ أو مدرسةٍ أو محطة بنزين أو مستشفى، مستهدفة الكل أينما كانوا، والقوس مفتوح حتى النهاية لكل احتمالات الدمار. ولكن هذه الهجمات أيضًا تصلح مدخلًا للفهم، مثلما أشار الكاتب الفلسطيني محمد مجدلاوي في بوست ذكي ولماح، إلى أن "هناك تكنولوجيا ما متقدمة جدًا ومجهولة لا نعرفها ولا نستطيع حتى تخيلها مستخدمة".
يوضح مجدلاوي أن "إسرائيل قوية وجبارة صحيح، ولكن ليس إلى الحد الذي يمكِّنها من تحقيق ما حققته من ضربات أمنية، فإما أنها شريكة مع أمريكا في ملء خزان معلومات مشترك، ولديها تفويض أمريكي مطلق بالوصول إلى محتوياته واستخدامها كما تشاء من دون العودة إليهم، والأصل أن هذا مستحيل سياسيًا. أو أن طبيعة العلاقة بين إسرائيل والمستويات التشغيلية في مؤسسات الدولة الأمريكية الأمنية تسمح بتمرير معلومات وخدمات بين الطرفين من دون المرور عبر مستويات القيادة السياسية الأولى لهذه المؤسسات والإدارة الأمريكية عمومًا، أو أن كل ما يحدث هو من فعل أمريكا، وإسرائيل ليست سوى واجهة له، وهناك انفصال تام بين ما تفعله وتقوله الإدارة الأمريكية، وفي هذه الحالة فإننا في عالم جديد يتم رسم خرائطه ونمط علاقاته الكونية في رفح وحارة حريك".
أتفق مع مجدلاوي في أن الاحتمال الأول مستحيل، ما يعني أننا نراوح فعلًا بين الاحتمالين الثاني والثالث، بشكل يجعلنا ندرك أننا في حرب بالفعل، لها خصائصها وديناميكيتها الجديدة، وهي حرب تخفض سقف تصورات الناس عن وجودهم ومعناه وقيمته، ولا تَعِدُهم بأفضل من البقاء أحياء.
الحرب الحالية ليست حرب غرب وشرق، وليست حرب الولايات المتحدة ومجالها ضد الصين وروسيا وحلفائهما، بل هي حرب الرأسمالية المتأخرة ضد الإنسان، صيرورة تسعى لإرهابه وتقزيمه وسلب معناه، وإخضاعه للحدود التي تلبي متطلبات وشروط طورها المتأخر، أو ربما إفنائه لو تتطلب الأمر. إنها حرب يطغى فيها الانتحار على القتل، وهذا موضوع يحتاج كتابة أطول.
السلام العالمي لم يعد ترفًا وغايةً حضاريةً أو وعدًا بعالم أفضل، بل شرطًا لبقاء الحضارة الإنسانية نفسها، هذا السلام حالًا والاَن، أضحى مهددًا كما لم يحدث من أزمنة طويلة، بينما تسود العالم حالة من الإنكار والدروشة والخدر.