في المقال السابق تحدثت عن إلقاء القنبلتين على هيروشيما وناجازاكي عام 1945، كلحظتين أسستا مستقبل البشرية بعد أن أضحت إمكانية فناء الحضارة الإنسانية حقيقة جديدة، ستضع حدودًا لكلِّ خيال وكلِّ عاطفة وكلِّ سلوك.
امتلك العالم قدرةً غير محدودة على إفناء نفسه وأصبح رهنًا لهذا الهاجس والمصير الذي رافقته مستويات غير مسبوقة من العسكرة والتسلح، جعلت السلطات أكثر شراسةً وتحكمًا فى مصائر الإنسان فردًا والبشر جماعةً، ولا يمكن النظر إلى حدود الفكر والتفلسف والخيال، وكذا إمكانات الفعل السياسي والعسكري في عالمنا المعاصر، بدون الانطلاق من الهلع النووي كمحدد مركزي.
تغول الرعب وارتهان السلاح
"يجب أن نحترس من استحواذ المجمع الصناعي العسكري على نفوذ غير مبرر، سواء كان استحواذه هذا عن عمد أو غير عمد. إن احتمال الصعود الكارثي للقوة في غير موضعها احتمال موجود وسيستمر. ويجب ألا ندع ثقل هذا المركب يهدد حرياتنا أو عملياتنا الديمقراطية، لا يجب أن نأخذه كأمر مسلم به. لا يمكن إلا للمواطنين اليقظين والمطلعين فقط إخضاع آلة الدفاع الصناعية والعسكرية الضخمة لأساليبنا وأهدافنا السلمية، حتى يزدهر الأمن والحرية معًا".
ربما يظن بعض القراء أن صاحب هذه الجمل الحماسية ناشط سلام أو حقوقي معاصر، ولكن يؤسفني القول إن صاحبها هو الرئيس الأمريكي الأسبق الجنرال دوايت أيزنهاور، ألقاها ضمن خطاب وداعه للشعب الأمريكي بعد انتهاء فترتي رئاسته عام 1960.
تجب التذكرة هنا بأن أيزنهاور لم يكن سياسيًا مدنيًا أو ليبراليًا، بل عسكريًا جمهوريًا محافظًا. فهو القائد المظفر للقوات الأمريكية في أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية، ورئيس الأركان المشتركة الأمريكية بين عامي 1945 و1948، وبعدها بأربع سنوات رئيسًا لمدّتين.
وعليه فإن المؤسسة الصناعية العسكرية تلك التي حذر من تغول نفوذها ليست إلا فردًا من أفراد أسرته، أشرف بنفسه على تربيته، وحين يُحذِّر منها شخص بوزن أيزنهاور وبنبرة شديدة اللهجة بلغت حدَّ إعلان التخوف من تهديدها وتقويضها تقاليد الديمقراطية الأمريكية، وفي هذا التوقيت بالذات، فهو أمر ينبغي الوقوف أمامه.
في 1963، نشرت "واشنطن بوست" مقالًا يطالب بحماية الرئيس والمؤسسات الديمقراطية من تضليل أجهزة المخابرات أو إساءة التوجيه، وبوجوب إعادة النظر بشأن دور وحدود أعمال وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.
كاتب هذا المقال الناري لم يكن إلا الرئيس السابق على أيزنهاور؛ هارى ترومان، الرجل الذي اتخذ قرار إلقاء القنبلتين النوويتين على اليابان بنفسه، ومؤسس ومهندس أدوار ونفوذ وكالة الاستخبارات المركزية والبنتاجون اللذين توسعا فى عهده كما لم يتوسعا من قبل!
اخترت الأمثلة السابقة لأن من عبر عنها كانوا قادة العالم بـ"أل" التعريف في هذا الوقت، راسمي خرائطه السياسية، وواضعي أسس مستقبله، وبسلطات كبيرة واستثنائية فى زمن الحرب، حددوا وقتها مستقبل السياسة بحكم موقعهم في مقدمة المعسكر الأقوى والأغنى في بداية الحرب العالمية الثالثة.
هؤلاء وبينما كانت أقدامهم تُوحل في طين الأزمة، أدركوا أن أنظمتهم السياسية وقواعدها القيمية والأخلاقية باتت هي نفسها مهددة، وأن القيم والتقاليد التي تأسست عليها أصبحت مهددة من جذورها، وأن العسكرة الدولية والارتهان النووي المتبادل لم يعودا فقط لردع الحالمين بالتغيير الراديكالي نحو الأفضل، بل أصبحا كذلك سيفين مسلطين على رقبة الأنظمة التي تريد الحفاظ على الحد الأدنى مما اعتبرته قانونًا طبيعيًا لاجتماعهم المشترك.
تكلس الخيال وازدهار فنون الإنكار
أنتج العالم المرتهن نوويًا تياراته الفكرية وسقوفه السياسية، اليمين فيه جوهر ونزوع خلاصي مسيحاني بتنوعات إسلامية ومسيحية بالأساس، تنتظر لحظة فناء البشرية بل وتبشر به أحيانًا كلحظة عقاب واجب ومستحق، عشرات الأفلام الهوليوودية المهووسة بنهاية العالم وعالم ما بعد نهاية العالم، سنجد مسيحيين يسعون لبناء هيكل سليمان استعدادًا لخرابه الجديد، ومسلمين خرجوا توًا من تجربة استعمارهم لا ليؤسسوا حياة كريمة بل ليعلنوا أنهم ليسوا من أهل الدنيا.
نعيش في عالمٍ عالق في قوميات استمرارها يعني فناءه الحتمي
أما اليسار المرتهن نوويًا فأعلن في المقابل نهاية كل السرديات الكبرى، وأن لا حقيقة ممكنة أو مرجوة بعد أن تم نزع السحر والخيال من روحه، فأصبحت حدود إيمانه في الإنسان ومستقبله لا يتجاوز جيلين على الأكثر، وغرق في جدالات فلسفية ممسوسة لغايات الاستهلاك والمتعة، لم يعد بإمكان عقل يقظ أن يطمح في تغيير العالم طالما أنَّ هذا العالم يوجه سلاحه النووي لبعضه البعض ولذاته في الوقت نفسه.
ورغم الانهيار المسالم للاتحاد السوفيتي أعطى أملًا في أنه ليس ضروريًا أن تفضي التحولات الكبرى إلى كوارث كونية، سارع المنتصرون بإعلان نهاية التاريخ، مستبطنين في الإعلان مزيجًا من النبوءة الخلاصية المسيحية المستولية على وجدان اليمين مع الواقعية المادية منخفضة السقف التي باتت تصيغ خيال اليسار.
السلاح النووي ليس مجرد فيل في غرفة، لأنه مسعور يُخدَّر لحظة بلحظة أملًا في تأجيل لحظة الدعس المذعورة، وتحت الذعر نسي العالم أولويات حرياته وأنَّ التحرر من الخوف هو أصل باقي الحريات طالما كان خوفًا من الفناء الكامل، ليس مجرد خوف نظري، بل خوف مستند إلى إمكانية مادية لا يجب أن يتم المخاطرة باختبارها.
في هذه الأثناء، استغل لصوص رأس المال الأنانيون رعب البشرية من نفسها ليكسبوا من متعة التملك في ساعات حياتهم القصيرة أولوية على من عاداهم. سينتهي العالم على كل حال في لحظة ما، ولكن علينا أن نكون بكامل أناقتنا في لحظة إسدال الستار. إنهم يستغلون ارتهان الدول القومية بعضها البعض بالرعب النووي ليتربحوا ربحًا اسميًا عابرًا للدول، ويراهنوا على عجز الجيوش والشعوب على مواجهتهم خوفًا من انهيار اللعبة برمتها على رؤوس الجميع.
نعيش في عالمٍ عالق في قوميات استمرارها يعني فناءه الحتمي، فيما رأسماليوه يعبرون فوق حدوده مستغلين تعلقه المأزوم هذا. صنع رأس المال الدولة القومية في البداية والعكس صحيح، ثم صنعته الدولة القومية في منتصف الرحلة والعكس صحيح، أما الآن فعلى الاثنين الرحيل، وأتمنى ألا نتعلم الدرس عبر تجربة تكلف البشرية نسبة مئوية من سكانها في أسابيع قليلة في أحسن التقديرات.