في صبيحة أحد الأيام الصيفية من شهر يوليو/تموز عام 1945، وعلى أطراف مدينة برلين المحترقة توًا، كان الرئيس الأمريكي هاري ترومان يهم بالذهاب إلى مقر انعقاد مؤتمر بوتسدام، عشية استسلام ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، بمشاركة الاتحاد السوفيتي وبريطانيا. حينها جاء من يهمس في أذنه بالخبر الذي تمنى وصوله قبل لقاء ستالين؛ نجح "مشروع منهاتن" وانتهت العملية "ترينتي" وتمكنت الولايات المتحدة من إجراء التفجير النووي الأول لها في صحراء ولاية نيومكسيكو.
مع بدء انعقاد المحادثات وأمام الكاميرات، مال ترومان ناحية ستالين وقال له نمتلك الآن سلاحًا جديدًا قوته التدميرية غير مسبوقة في التاريخ. لم يبدِ ستالين أيَّ ردّ فعلٍ، لكنه بمجرد انتهاء جولة المحادثات اتجه نحو وزير خارجيته وعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي فياتشيسلاف مولوتوف، الذي سُميّت القنبلة البدائية الشهيرة نسبةً إليه، وطلب منه معرفة قصة القنبلة الأمريكية "لأنَّ علينا أن نطلق مشروعنا النووي في التو".
لم تمر ثلاثة أسابيع على هذا الاجتماع، حتى ألقت الولايات المتحدة قنبلتها النووية الأولى على مدينة هيروشيما، ثم بعدها بثلاثة أيام ألقت القنبلة الثانية على مدينة ناجازاكي.
هيروشيما تنهي حربًا وناجازاكي تبدأ أخرى
أعلنت قنبلة هيروشيما نهاية الحرب العالمية الثانية. بررتها الولايات المتحدة بأنها السبيل الوحيد لإقناع الإمبراطورية اليابانية بالاستسلام، لأنَّ العقيدة العسكرية اليابانية انتحارية السمات، خاصة إذا وصل الأمر إلى تهديد الأراضي اليابانية نفسها، وهي عقيدة تمتزج بالمكون الديني الذي يتصالح مع الموت ويستهين به. لذا، لم تكن هزيمة اليابان عسكريًا واحتلال جزرها الأربعة الرئيسية ممكنة، إلا بالتضحية بخسائر بشرية عالية جدًا لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية مستعدة لتحملها.
كان العنوان الاستراتيجي لجريمة قنبلة ناجازاكي تحويل الهلع البشري من الفناء إلى شرطٍ مؤبد
كان ثمن القرار الأمريكي موت مئات الآلاف في رجفة جفن، هول الصدمة وقتها كان أقوى من قدرة معاصريها على طرح أسئلة منطقية، مثل لماذا لم تُلقَ القنبلة على جزيرة صغيرة غير مأهولة ليفهم اليابانيون أثرها التدميري فيستسلمون طوعًا، من دون تكبد تلك التكلفة البشرية المرعبة؟ وما الجدوى من إلقاء القنبلة الثانية على ناجازاكي بينما رسالة هيروشيما كانت كافية جدًا لجلب الرعب، واستدعائه لعشرات السنوات المقبلة؟
هول العالم وصدمته جعلاه يتخلف عن الولايات المتحدة في سباق الوعي الإجرامي ومداه، بحيث لم يدرك أنَّ قنبلة هيروشيما كان غرضها إنهاء الحرب العالمية الثانية بقسوة، فيما كانت قنبلة ناجازاكي إعلانًا أكثر قسوة عن بدء الحرب العالمية الثالثة الطويلة.
أربعة أعوام فصلت بين النووي الأمريكي في هيروشيما وناجازاكي، وتجربة التفجير النووي السوفيتي الأول في صحراء كازاخستان. خلال تلك السنوات رسمت الولايات المتحدة الملامح الأساسية للنظام العالمي الجديد بقوة الإبادة في ناجازاكي، أو كما حدد جيمي بيرنز مستشار الرئيس ترومان ومعلمه السياسي بأنَّ القنبلة النووية ستكون أداة الولايات المتحدة في إملاء شروطها السياسية بعد الحرب، من دون أن يوضح على من تحديدًا ستُملى تلك الشروط.
في الأغلب كان يعني العالم كله، الأصدقاء قبل الأعداء.
كان العنوان الاستراتيجي لجريمة قنبلة ناجازاكي تحويل الهلع البشرى من الفناء إلى شرطٍ مؤبد، وجعل حدود المناورة أمام خصوم الإمبراطورية الأمريكية لا يبارح مربعات الطاعة أو حتمية الفناء. وما بين هذا وذاك هناك بعض "الديمقراطية"، ومساحة ما للتفاوض على شروط الإذعان.
يخطئ من يظن أنَّ العالم تهدده حرب عالمية ثالثة، فالحقيقة أننا قد نكون مقبلين على حرب عالمية رابعة، فالثالثة انطلقت بالفعل مع نهاية الثانية، ولكنها لم تكن لتعبر عن نفسها من خلال أطرافها الرئيسيين الذين لفوا أحزمتهم النووية الناسفة فوق رؤوسهم. لم يكن هناك بدٌّ من حروب بالوكالة لا تنتهي، تستخدم فيها القوى العظمى الدول الناشئة الجديدة التي "استقلت" بعد انتهاء حقبة الاستعمارين البريطاني والفرنسي.
وبدلًا من أن تنشأ هذه الدول على قيم السلام والاستمرار، راحت القوى العظمى النووية الجديدة تغذي فيها نزعات العسكرة والتسلح؛ إسرائيل تواجهنا في تلك البقعة البائسة من العالم التي أطلق عليها بمجازٍ استعماريٍّ كسول لفظ "الشرق الأوسط". والحال نفسه بالنسبة للهند وباكستان، اللتين كانتا يومًا بلدًا واحدًا اسمه الهندستان، والكوريَّتين، والڤيتنامَيِن. قامت عشرات الحروب بالوكالة بين صغار متكافئين، أو حروب استعراض للقوة الإمبراطورية مثل تدمير الولايات المتحدة للعراق.
حروب ساخنة على أهلها
انتهت حروب الكبار فأضحت النزاعات تنشب إما بين حمقى صغار أو تأديبًا إمبراطوريًا لأحدهم. عشرات الحروب الصغيرة بين صغار الدول في إفريقيا وآسيا لا يلتفت إليها أحد إلا بقدر تصاعد إمكانية تحولها إلى تهديد يمس بتوازن الرعب الدولي، عشرات الحروب الصغيرة وملايين القتلى بسلاح أنتجه اقتصاد حرب أبدي قامت عليه الولايات المتحدة.
في عالم القياصرة الجدد ليست روما وحدها هي المهددة بل كل رقعة على كوكب الأرض
ما سمي بالحرب الباردة كانت سعيرًا ساخنًا لنا ولشعوبنا، نحن ضحايا التهديد المستمر بالانتحار الكوني الذي رضينا تحت وطأته بسردية برودة حرب القطبين، خوفًا من عدم انتظام درجة حرارة الحقيبة النووية وإمكانية انفلاتها في أي لحظة، على رؤوسنا.
هذا الزر النووي الذي كان يخيفنا في الماضي وهو تحت أصابع حكام مثل جون كينيدي ونيكيتا خروتشوف وشارل ديجول، أصبح اليوم في يدِ بشر من عينة دونالد ترامب وفلاديمير بوتين وبنيامين نتنياهو.
امتلك قادة الحزب النازي الألماني قدرة على التصريح الشجاع والبارد بأكثر الأفكار شرًّا وقسوة، وكأنهم أرادوا إعداد العالم لمنطق جديد بالكامل يُحكَم مستقبله بالصدمة والإذعان للقوة. وعلى الرغم من ذلك، لم يجرؤ أيٌّ من رموزهم في أيِّ لحظة على التصريح بأنَّ الضامن لنموٍّ اقتصاديٍّ مثاليٍّ هو اقتصاد حربٍ أبديٍّ، مثلما فعل تشارلز ويلسون رئيس مجلس إدارة شركة جنرال موتورز الأمريكية ورئيس لجنة التصنيع العسكري الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية، ووزير الدفاع لاحقًا، وهو تصريح أشرت إليه في مقال سابق.
بجملته هذه، كان تشارلز ويلسون يدشن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، لأفقه السياسي والعسكري، ولحدود الحرية الحقيقية فيه، ولمستوى جبروت الرأسمالية التي ستحرك وجوده ودوافعه.
تُستدعى قصة حريق روما الكبير وموقع الإمبراطور نيرون منه بكثير من الخوف. حريق روما الكبير في الذاكرة الأوروبية رمز لخراب المدن وفناء سكانها، لكن في الواقع فإنَّ روما فقط هي التي احترقت، ليس كلها ولم يمت جميع سكانها، احترقت المدينة ولم تحترق الحياة وإمكانية استئنافها من جديد.
لكن في عالم القياصرة الجدد، ليست روما وحدها هي المهددة، بل كل رقعة على كوكب الأرض. لقد امتلك الإنسان قدرة على إفناء الحياة والحضارة عشرات المرات في أيام قليلة، لينتهي بعدها الجنس البشري مرة واحدة وللأبد.
فلماذا إذن لا يُصبح هذا التهديد أكبر من كونه فيلًا في الغرفة، بل الحقيقة الوحيدة الجديدة التي ستضع حدودًا لكلِّ خيال وكلِّ عاطفة وكل سلوك؟
هذا هو موضوع المقال القادم.