"لقد شاهدتُ صور غزة، تبدو وكأنها موقع هائل للأنقاض، هذا المكان ينبغي حقًا إعادة بنائه بشكل مختلف، غزة مثيرة للاهتمام، موقعها مذهل، قرب البحر، طقسها هو الأمثل، كل شيء رائع هناك".
كان هذا تصريحًا للرئيس الأمريكي دونالد ترامب فور تنصيبه، يوم الاثنين الماضي، وهو يحدد مصير ومستقبل قطاع غزة من وجهة نظره. فبعد الإبادة استثمار، أو ربما لا استثمار بدون إبادة، ومن داخل هذا الطور من الرأسمالية المتأخرة، تحول الحلم الصهيو-إماراتي إلى كابوس واقعي.
في المقال السابق، ناقشت حتمية تحالف الصهيونية مع الإماراتية السلطانية، بسبب تناظر المصائر المحتملة لكليهما في مواجهة وحدة مصير الأغلبية الكادحة من الشعوب العربية. لكن هناك عوامل سرَّعت من هذا التحالف وجعلته فجًا ومعلنًا لا يعتذر عن نفسه.
العامل الأول كان أثر الأزمة المالية في 2008 على دبي، وتعثرها المالي الذي أنقذته مشيخة أبوظبي، والعالم الذي أنتجته الأزمة وأثبت أن الجاذبية والنجاعة الاستثمارية وحدهما لا يكفيان لتتحوَّل الإمارات إلى سنغافورة الشرق الأوسط، بل يحتاج الأمر إلى تمدد سياسي موازٍ واختراقات أوسع وأشرس، ستحتاج بدورها إلى شراكة مع أطراف مختلفة في المنطقة، كل بحسب قدرته على الإسهام.
يقول زوهار بالتي، الرئيس السابق لجهاز الموساد، إنه فيما يتعلق باتفاقات أبراهام، وبصفته الرجل الذي وقع على جزئها الأمني، فإن القوة العسكرية كانت آخر ما اهتم به محمد بن زايد، وفي الحقيقة، أجدني متفقًا مع المسؤول الإسرائيلي الرفيع، لأن من يحيا في المعية الأمريكية لن يحتاج إلى الحماية الإسرائيلية تحديدًا، خاصة في ظل احتلال الولايات المتحدة للخليج العربي بامتلاكها أكثر من موقع عسكري مستقر فيه.
وأضاف بالتي أن بن زايد "سعى إلى صداقتنا بسبب قدراتنا التكنولوجية العالية. فهو مهتم بإنجازاتنا في حقل تطوير الذكاء الاصطناعي، وأنظمة استخباراتنا، والعبقرية الإسرائيلية وراء كل هذه البراءات، وليس فقط تلك الأمنية، هذه شراكة استراتيجية متعددة الجوانب".
معاداة الجميع
لكن ما سبق احتاج إلى زلزال سياسي إقليمي لوضعه موضع اختبار حقيقي، وكان الربيع العربي هو شرط التسريع الحاسم لتشكيل الحالة الصهيو-سلطانية بشكل رسمي ومتحمس.
التسريع الذي سببه الربيع العربي لم يكن في اتجاهٍ محددٍ، بل كان دفعًا لعجلة التاريخ نحو سيناريوهات عديدة بل ومتناقضة كانت كلها رهينة تفاعلات ونتائج الصراع، لكن كل السيناريوهات على تناقضاتها كانت في مواجهة الحالة الصهيو إماراتية التي عبّرت عن نفسها بوضوح في أعقاب الربيع.
الربيع العربي كان عليه أن يذهب إلى مرفأ ما، وكل المرافئ المطروحة كانت خطرًا على الصهيو-إماراتية، لأن أي انتصار لأي حالة سيادية في المشرق العربي ومصر، من أي نوع، طالما لها ظهير شعبي حقيقي ينصرها وتنصره، كانت ستترجم نفسها وفي سنوات قليلة في مواجهة هذا التحالف.
فشل الربيع العربي لا اندلاعه هو سبب التمدد الصهيو-إماراتي
لنتخيل أن الربيع العربي انتهى إلى مآل ديمقراطي تقدمي أو سلطوي إسلامي أو شعبوي ثوري. أي خيار من هذه كان سيطرح أسئلة الثروة والسيادة والمكانة في الإقليم، توزيعها وترتيبها، بل حتى خيار التطبيع والتسوية على أسس شاملة كان سيطرح السؤال نفسه في النهاية طالما أن الشعوب وإرادتها ليست مغيبة تمامًا عن المعادلة.
لن نحتاج إلى جهد كبير لندرك أن الصهيو-إماراتية لا تؤيد مشروعًا سياسيًا بعينه على حساب آخر، بل إنها تعادي القوة من حيث كونها قوة، مثلما ترى في نفسها قوة لمجرد أنها قوة.
من هنا يمكن فهم موقف الإمارات من "الإسلام السياسي" و"الإخوان المسلمين" عمومًا، فادعاء محاربة الإسلام السياسي يأتي من كونه قوة منظمة مناهضة تطمح لفرض حالة سيادية مناوئة، لا لأنه قوة غير ديمقراطية أو غير ليبرالية أو ما شابه.
حين سيطرت طالبان على السلطة في أفغانستان عام 1996 لم يَعترف بنظامها في ربوع كوكب الأرض سوى باكستان والسعودية. لكن مهلًا، كانت هناك دولة ثالثة، وهي الإمارات العربية المتحدة!
أما الصهيونية فلا يمكن القياس عليها، فهي تدعى ابتداءً أنها حالة تنظيم وإنقاذ لشعب الله المختار، وشعب الله المختار لا يمكن محاكاته أو استنساخ نموذجه إلا من موقع الآخر التابع الذليل.
في الحقيقة، فإن الصهيو-إماراتية تحارب كلَّ وأي اتجاه يرمي في النهاية إلى صيغة تفضي إلى وحدة مصير الشعوب العربية، وذلك في مقابل دعم وتأييد الكيميتيين والآشوريين والفينيقيين والكوشيين، وكل هذه المجهوليات المجردة والهويات الكاريكاتورية.
فَشِلَ الربيع العربي فشلًا ذريعًا، وكان فشله لا اندلاعه هو سبب التمدد الصهيو-إماراتي. بالطبع كان لهذا التحالف دورٌ في إفشال الربيع العربي، ثم الانتقام منه لاحقًا، ولكنه كان دورًا تاليًا على عوامل وشروط فشله الذاتية، وما أكثرها.
ولو استعرنا الأدبيات القومية القرن عشرينية، التي طالما اتهمت الصهيونية بالسعي إلى تفتيت وتجزئة الوطن العربي إلى دويلات صغيرة تستطيع مقارعتها وهضمها، فالحقيقة أن لدى الطور الصهيو-إماراتي طموحًا أكثر شراسة، وهو إخضاع الوطن العربي وإعادة فك وتركيب الدول الوطنية على أسس سلطانية غير تعاقدية بالمرة بين الحكام والمحكومين، وفي ظل شروط أسوأ من الاحتلال بكثير، لأن الخيارات ليست بين العصا والجزرة، بل بين العصا والرصاصة.
وعليه يمكن فهم "نموذج السلطة الوطنية الفلسطينية" كسلطة حكم ذاتي، وشرطة محلية تابعة للمُركّب الإقليمي المُسيْطِر، المُركّب الذي سيتحول إلى باب عالٍ جديد؛ مركز الثروة وملجأ وملاذ النخب والمدللين والمرفهين وبلاط لأصحاب الحظوة من داخل الأقاليم المستنزفة، انظر هنا علاقة الـEgyptians بـDubai وستستطيع الربط بسهولة.
ماذا سنفعل بالشعوب؟
لكن كل ما سبق لا يعنى قدرة الصهيو-إماراتية على السيطرة في الحقيقة على مقدرات وشعوب المنطقة، فلدى هذا التحالف نقطة ضعف مركزية، وهي افتقاره للقوة المادية القادرة على حكم "المستعمرات" على الأرض بشكل مباشر، لأن إسرائيل في النهاية دمرت غزة فوق رؤوس أبنائها من غير قدرة على إعادة حكمهم مرة أخرى.
وإذا كانت غزة ذات المليوني نسمة والمحاصرة تمامًا على هذه الحال، فكيف يمكن تصور لبنان أو السودان أو سوريا، أو مصر بالتأكيد.
لا تمتلك الصهيو-إماراتية إلا ميليشيا شركاتية قدرتها على الحكم وصياغة التعاقد مع السكان تكاد تؤول إلى الصفر، لذا لا توجد مقومات للانتصار ثم الاستمرار وفرض السيادة. ميليشيا الدعم السريع في السودان على سبيل المثال كان باستطاعتها تقديم نفسها بديلًا سياديًا سياسيًا على أسس مختلفة في ضوء حالة السيولة التي أنتجتها الثورة السودانية بعد الإطاحة بعمر البشير، ولكن الجنجويد فعلًا ميليشيا إبادية من المرتزقة، مهما أنفقت عليها الإمارات وحيَّاها نجيب ساويرس، فستظل ميليشيا مجرمة لا يعول عليها.
ربما أتمت الصهيو-إماراتية بنجاح تدشين مرحلتها الأولى في الهيمنة عبر تسييد تصوراتها عن الاقتصاد والرخاء واعتماد نموذج الدولة الشركة ومدينة البذخ الاستيطاني كعنوان للمستقبل، لكن كيف لهذا التحالف ومنطقه أن يحكما بلدًا بحجم مصر؟ هل يمكنه حكم مصر فعلًا، بسكانها وتياراتها وشبابها وتراثها؟ هل تتحول الدولة في مصر بكافة هيئاتها، أو ما تبقى منها حتى، إلى محض حالة مملوكية لدى الباب العالي الجديد؟
هذا ما أود مناقشته لاحقًا.