تصميم: أحمد بلال- المنصة

ما هي الصهيو-إماراتية؟

مقدمة افتتاحية

منشور الخميس 16 يناير 2025

الصهيو-إماراتية حالة سياسية واقتصادية وسيادية تسعى إلى بسط هيمنتها على المنطقة بأكملها وإخضاعها لمنطق حكمها، بعقيدتي الصدمة والإبادة. وهي تمثل الطور المعاصر من تطور الرأسمالية أو تدهورها بمعنى أدق، ومصدر قوتها الأول هو أنها تسبق الجميع بأميال في إدراك اللحظة التاريخية الراهنة. هي نموذج مريح وناجز يفرض نفسه كممثل طبيعي للمصالح الاستعمارية الأمريكية في المنطقة، في ظل أزمة اقتصادية عالمية مستحكمة.

لكننا إذا أردنا وصفها بشكل نظري أكثر تجريدًا، فيمكننا تسميتها بالصهيو-سلطانية. فما هو الصهيو، وما هي الإماراتية/السلطانية؟

الصهيونية، واقعيًا وماديًا، هي قاعدة عسكرية متقدمة للاستعمار الأمريكي، ولكنها قاعدة بشرية بالأساس، وبشريتها هذه تُشرعن وجودها الذاتي بقدسية دينية، قادرة على اختراق وابتزاز وتحييد قطاع معتبر من سكان البلدان الغربية، وتستكمل نفاذها باستخدام جريمة الهولوكوست التي ارتكبها أقصى اليمين الأوروبي بحق اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، كلحظة تُحصِّن كل تصرف أيًا كان لأحفاد "الشعب المشوي" في الجحيم النازي.

مجموعة من المستوطنين اليهود (يشوڤ) يأخذون استراحة من بناء الكيبوتز، فلسطين، 1920 - 1930

هذه القاعدة العسكرية البشرية، وفقًا للخصائص السابقة، مطلقة اليد في ممارسة الجنون وخرق الأعراف بدعوى تروماتها التاريخية وبشكل يعطيها الحق في سنِّ سُننٍ وقواعدَ جديدةٍ ما أمكن. وفي ذلك ميزة مهمة، إذ يستطيع الاستعمار الأمريكي من خلالها تسويغ ما يصعب تبريره وتسويقه على مستوى الفعل العسكري والسيادي المستند وفقط على علاقات القوة المحضة. فمن خلال إسرائيل فقط يمكن للولايات المتحدة أن تُجرِّب عمليات التفجير التي تشبه استهداف هواتف أعضاء حزب الله.

أما السلطانية ونموذجها الإقليمي المتقدم، فهي كيان الإمارات. والإمارة شكل من أشكال السلطنة، أي المجال الاقتصادي والسيادي في بنية وشاكلة الشركات، شعبه العامل من الأجانب المحرومين من التجنس وفقًا لمعايير وقواعد العمل المقيم الدائم في البلدان الغنية. قاعدة السكان قوامها قوى عاملة يمكن استبدالها، وهذه هي الصيغة التعاقدية للعلاقة معهم.

وعلى هذه القاعدة، يكون العمل في المؤسسات الوطنية في الدولة الشركة حالة ارتزاق وكسب تعاقدي، في بيئة تتمرس في إنشاء جيوش المرتزقة الأمنية والعسكرية.

تتحرر "الإمارة" من وطأة وعبء فكرة "الشعب"، وهي هنا أكثر مرونة من إسرائيل نفسها، خاصة وأن لديها، أي الإمارة، القدرة على توظيف فوائض الريع المهول وتحويلها إلى حالة تراكم ونمو وربحية، أو بمعنى أصح رسملته بشكل أكثر تقدمًا، ومن موضع الشريك الذي تخلص من دور العربي الجاهل الأحمق في الدراما الأمريكية.

سيصبح أصحاب المال الآن قوامين عليه وشركاء في السلطة المتولدة عن ملكيته، وفي امتداد هذه الفوائض التي تبحث عن أسواق تعيد تشكيلها على شاكلتها، ستسعى الشركات السلطانية الإماراتية إلى تعميم نموذج سياسي يسهل من عمل رساميلهم، ولا يعترف بالشعوب إلا كعدو ومادة للسحق. هذه النموذج استعماري وإبادي ومعادٍ للفقراء والكادحين بشكل عاطفي وجذري.

مرونة الحالة الإماراتية السلطانية تسمح لها بالقيام بأدوار تعجز عنها إسرائيل، فهي عربية ومسلمة وشقيقة وغنية. الإماراتية السلطانية حالة نفهمها جيدًا، فجميعنا عرب، صدمتنا من هذا الاستعمار الجديد ليست في كونه قوة غاشمة غريبة نحاول فهمها بينما تكيل إلينا ضرباتها، بل هي صدمة الشعور بخيانة "ذوي القربى الأشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند"، ففي التحليل الأخير يظلُّ العرب عربًا؛ عاطفيون ودراميون بما يكفي لألفِ عامٍ قادمة.

تسعى الإمارة وشبيهاتها إلى احتكار الفضاء الإعلامي والرمزي، واختراق البنى الدولتية والأمنية بدعوى حماية استثماراتها وصناعة تشكيلات من المرتزقة في صورة شركات أمنية، وأخيرًا إثبات السيادة من خلال استعراض قدرتها على ممارسة القمع العابر للحدود، كما حدث في ترحيل الشاعر المصرى عبد الرحمن يوسف القرضاوى إلى الإمارات من لبنان حيث قُبض عليه، بدعوى العيب في الذات السلطانية الإماراتية الحاكمة.

تحالف الصهيونية مع الإماراتية السلطانية منطقي بل حتمي، كلاهما يدرك ضعفه وقوة الآخر، وكلاهما يصارع من أجل البقاء حفاظًا على أوضاع وعلاقات شاذة لا تستقيم، في مواجهة السواد الأعظم من سكان المنطقة، في كل الأقطار سواء.

شرط مادي وليس شرًا محضًا

مبنى بلدية تل أبيب يضيئ بألوان علم الإمارات. الصورة: صفحة إسرائل تتكلم بالعربية

وجود الحالة الإماراتية السلطانية له منطق يبرره؛ ناتج عن مخاوف سبكتها خبرات مرت بها دول الخليج الصغيرة الغنية، يجب علينا أن نتذكرها ونتفهم تطوراتها، وينطبق بالأساس على الإمارات ثم قطر بعد أن كانت الكويت هي المعمل الأول للتجربة.

وما نحن بصدد الحديث عنه لا ينطبق بالتأكيد على السعودية. صحيح أن الرياض تدعم في التحليل الأخير المنطق الصهيو-إماراتي كحالة حكم إقليمية للشعوب الفقيرة، ولكنها تملك أكثر من خطِّ رجعةٍ؛ لأن المملكة أصبحت عبر عقود طويلة من التطور أكبر من أن تُعرَّف بكونها العلة السياسية لشركة أرامكو.

فخلال قرن من الزمان، تحولت السعودية من دولة ريع الشركة إلى شعب يتكون في ظل حكم ملكي مطلق، شعب ينتمى إلى طبقات ومناطق وتيارات وميول وأمزجة، ولكل التفاعلات الناتجة عن هذه العناصر بينهم جميعًا.

وعليه، لا يمكن الحديث عن السعودية كوحدة صماء أو حالة استاتيكية، بل لم يعد خافيًا على أحد الآن أن الرجعية السعودية في بنيتها وسياقها أضحت أكثر تقدمية بمراحل من الرجعية المصرية في علاقاتها بقدرات مصر وإمكاناتها المهدرة.

الأمر نفسه ينطبق على البحرين، التي رغم حصارها في ثنائيتها المذهبية المُدارة بقبضة عسكرية سعودية غاشمة عبَّرت عن نفسها بوضوح في 2011، لا يمكن النظر إليها كواحدة من من دول الفوائض الغنية، وهي التي كانت يومًا بؤرة التقدمية في الخليج العربي، وشهدت نمو وتنظيم قاعدة عمالية محلية مناضلة وحركة نقابية شجاعة منذ منتصف القرن العشرين. 

في بداية سبعينيات القرن الماضي، تخلت بريطانيا عن سيادتها على إمارات ساحل عمان أو ما كان يسمى بإمارات الساحل المهادن، ونتج عن ذلك تأسيس الإمارات العربية المتحدة ومعها قطر والبحرين.

لكنَّ عشرين عامًا فقط فصلت إعلان استقلال هذه الدويلات عن قرار صدام حسين بغزو الكويت عام 1990 وإنهاء وجودها كدولة ذات سيادة بعد أيام قليلة من السيطرة عليها، وهي الخطيئة التي أفضت إلى عودة الاستعمار مجددًا إلى الخليج، على شكل تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة.

سنوات قليلة تحولت خلالها الكويت تحت وقع صدمة الغزو العراقي من دولة داعمة للخط العروبي ثقافيًا وحضاريًا، وداعمة للقضية الفلسطينية بحماس منذ تأسيسها في الستينيات، إلى دولة منكفئة تشكل قاعدة للانطلاق البرى للقوات الأمريكية في المنطقة، وتبعتها قطر بعدها بسنوات حين سمحت بتأسيس قاعدة العديد الجوية الأمريكية.

كانت الإمارات والمشايخ الصغيرة في اختبار حقيقي، فأما أن تلتحق بالنظام الإقليمي العربي الرسمي، الذي يمكن أن يُنهي وجودها السياسي في لحظة غضب كما حدث مع الكويت، أو أن ترضى بعودة الاحتلال الأمريكي وفقًا لقواعد وشروط جديدة تؤدي في ظلها أدوارًا مختلفة، بعد أن تأكدت من أنها لا تأمن جانب جيرانها الأقوى الذين تداعبهم بين اللحظة والأخرى شهوات الطمع في ثروتها التي لا تملك قوة تحميها.

وبينما اكتفت الكويت بالانكفاء، راحت قطر والإمارات تلعبان أدوارًا سياسية واقتصادية في المنطقة أشبه بسياسات تصدير الأزمات، استخدمت فيها قطر السياسة والإعلام والاختراق الدبلوماسي واللعب على محاورة الأضداد جميعًا، فيما لجأت الإمارات إلى المال والبزنس مرتديةً ثياب الحكمة والحداثة والفاعلية.

لكنَّ السؤال هنا؛ ما الذي سرَّع من التحالف الصهيو-إماراتي خلال العقد الماضي، وما الذي حوَّل الإمارات من موقع حكيم العرب إلى موقع توني سوبرانو العرب. حتمية التحالف الصهيو-إماراتي كامنة في جينات الكيانين كما أسلفت، لكنها لا تعني أن تتحول إلى ما هو كائن الآن وبفجاجة لا تعتذر عن نفسها في ظرف سنوات قليلة.

فما هي نقاط ضعف هذا التحالف الجديد، وكيف يمكن له سد ثغراته الذاتية؟ هذا ما سأناقشه في المقال القادم، مع دور الدور القوى الإقليمية الكبرى في ذلك والأهم، أين الشعوب؟

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.