أشرت في المقال السابق إلى أن الصهيو-إماراتية لا تؤيد مشروعًا سياسيًا بعينه على حساب آخر، بل تعادي القوة من حيث كونها قوة، طالما حاولت تشكيل قطب مضاد. فالصهيو-إماراتية ترى في نفسها قوة لمجرد امتلاكها أسباب السيطرة، بدون استعلاء مجرد أو فكري.
لكن ولأنها لا تمتلك أسباب الهيمنة السياسية الرضائية على سكان المنطقة، وفقًا لصيغٍ تعاقديةٍ حديثةٍ، وتؤمن في الوقت نفسه بوضاعة الشعوب العربية وعدم أهليتها لامتلاك الحد الأدنى من القوامة على مصيرها، تسعى الصهيو-إماراتية إلى دفع عجلة الردة العربية وتسريعها لتصل بغالبية سكان المنطقة إلى موقع "ما دون الشعوب"، ليتأسس بعدها عصر "ما بعد الشعوب"، حيث المواطنين الإقليميين هم حاملي الإقامات الذهبية أو المرشحين المحتملين لها، ومَن دونهم هم رعايا أو أهل ذمة أو عبيد، ولكنهم ليسوا مواطنين بالتأكيد.
نموذج "ما بعد الشعوب" السياسي والاجتماعي، تحكمه رؤوس أموال عابرة للمسؤولية وللمحاسبة التي قد تمتلك القوة العسكرية والأمنية ولكنها متملصة من المسؤولية ومن علانية الحضور، لأنها في حضورها المعلن قد تفجر صراعات تستدعي السياسة من جديد. لذا فمن الأنسب لها أن تُدير مصالحها عبر وكلاء شركاتيين، فتُصبح ميليشيات مثل Blackwater ثم فاجنر نماذج ريادية يسترشد بها المماليك المحليون المحتملون في كل بلد.
كتبت منذ أكثر من عام ونصف مقالَ خلجنة مصر وبنغلة الأفندية، وفيه أناقش عملية الهندسة الاجتماعية العنيفة التي يمر بها المجتمع المصري على نحو يعيد تشكيله بتقسيم الشعب إلى شطرين، يتكون فيه الشطر الأول من أقلية تشبه مشايخ العرب، وأغلبية تشبه البنغال والهنود في دول الخليج.
ما الذي تُنتجه هذه الصيغة على مستوى النظام السياسي والأمني؟ وما أثرها على جهاز الدولة المحلية الحليفة للصهيو-إماراتية؟
لا يبدو أن الطبقات الوسطى التي أضحت أبراج دبي في نظرها باريس العصر قادرة على المقاومة
الحالة الشركاتية العابرة التي تمثلها الصهيو-إماراتية لا تعترف بالسياسة بالمعنى التمثيلي الذي يجعل السكان طرفًا في اتخاذ القرار، فالأصل في العلاقة بالشعوب العربية هو الإخضاع التام، لذا فهي في حاجة إلى علاقة سلسة ومباشرة مع الجهاز الإداري الوكيل في الدولة الحليفة، يُسهِّل مأمورية عمل رساميلها، وتحتاج أيضًا إلى وكيل أمني محلي من القطاع الخاص يضمن لها أمان استثماراتها وعدم تعدي جهاز الحكم المركزي عليها.
وفي المقابل، فإن نجاح هذه الصيغة مرهون بتوجيه جزء كبير من مالية الدولة الحليفة نحو نفقات الأمن والسيطرة والتتبع، بل وإنشاء هيئات خاصة تساعد في إتمام وتمكين هذه الأدوار، وتأسيس طبقة تابعة للقائمين بهذه المهمات، تُشكِّل رديفًا مدنيًا خدميًا لها، لأن الضامن الحقيقى لاستمرار هذا الوضع هو حالة يومية ومستدامة من القمع والمراقبة الكابوسية لا يمكن لها أن تسهو أو تتلفت للحظة.
عادة لا أحب المقاربات التاريخية البعيدة لإيماني الشديد بأننا أبناء تجربة الدولة الحديثة التي لا يتجاوز عمرها قرنين من الزمان. لكن بكثير من الإفراط في المجاز، ومع تسييد حالة سُلطانية عسكرية ترتد عن الحداثة وتستدعي معها ثقافة أنماط الإنتاج الإقطاعية والخراجية في مصر المعاصرة، تصلح مقاربة مصر للعصر العباسي الثاني، أو لحكم المماليك المصرية في ظل السلطنة العثمانية. أي حالة مماليك الدولة التابعة في تركيبة علاقات القوة الإقليمية النهائية، ولكنها سيّدة على سكانها وإن كانت وكيلًا عن آخرين، وفقًا لقاعدة حاكم مصر له مصر ولنا منه خراجها.
ولنا منه أيضًا سكونها وسكوتها، ضعغها وإخضاع أهلها، وله علينا تثبيت ولايته وضمان رواتب جنده وضمان حظوة كريمة له في بلاط السلاطين الكبار كما لو كان ندًا لنا. أما نحن المصريين، فليس لنا من الباب العالي ومماليكه إلا السوط والمذلة، أو البنغلة.
السؤال هو، هل هذا مستحيل في مصر؟ والإجابة هي أن لا شيء مستحيل على الإطلاق.
كل شيء مرهون بالصراع ومساراته، وبتشكل القوى المناوئة لهذا النوع من المشاريع الاستعمارية الجديدة. وفي ظل أن البرجوازيات المحلية من الإمّعات، على استعداد تام للعب دور الشريك التابع للقوة المهيمنة الجديدة، بل وستسعى لأن تتقرب منها لتحصل على حمايتها من تغول المركب الأمني العسكري الجاثم على صدور الجميع بحكم غلظته البنيوية.
ويجب ألا ننسى أيضًا أن الصهيو-إماراتية هي الشفيع صاحب الحظوة عند داوئر صنع القرار الحقيقي والفعّال في نيويورك وواشنطن.
لذا لا يبدو أن برجوازية الإمّعات والطبقات الوسطى التي أضحت أبراج دبي في نظرها باريس العصر، قادرة على تشكيل قوى مقاومة الصهيو-إماراتية. فهؤلاء هم من الأصل أحد الأسباب الجوهرية في تغول الصهيو-إماراتية وامتدادها على مدى العقد الماضى.
الصهيو-إماراتية حالة إمبريالية إقليمية، المربك فيها هو المكون العربي الذي يفسد التصورات الهوياتية، العروبية، والإسلامية منها بالذات، التي اعتادت رؤية الاستعمار من منظار قوميته الأوروبية وديانته المسيحية، لا من حيث طبيعته كتوسعٍ لنمط الانتاج الرأسمالي في العالم. الطبيعة المُربكة هذه هي ما سهّلت قدرتها على الاختراق، ولا سيّما اختراق الطبقات الوسطى المصرية العاملة لديها.
لكن الصهيو-إماراتية في الوقت نفسه حالة إمبريالية بامتياز، حتى إنها تحاول محاكاة نماذج القرن السادس عشر والسابع عشر الشركاتية، كحالة شركة الهند الشرقية وغيرها. ولكنها في هذه المرة تمتلك ظهيرًا محليًا قويًا، داخل السلطة وخارجها، وله امتدادات اجتماعية معتبرة داخل الطبقات الوسطى "الناجية" وبرجوازية الإمّعات.
هذا الحال يضع الصراع في دائرته البسيطة والبديهية، وهي أن الطبقات الشعبية والكادحة هي المسؤولة عن مهمة التصدي لهذا التحالف. تبدو الكلمات غريبة أو قديمة، أو غير ممكنة في اللحظة الراهنة، ولكن تكديح وإفقار قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى المتعلمة قد يُسرِّع من هذه المهمة العاجلة جدًا!