ليس المقصود بخلجنة مصر سيطرة رأس المال الخليجي على أصولها وإملاء إرادته السياسية عليها، بل أن تتحول مصر، دولًة وشعبًا، إلى مشيخة خليجية على مستوى علاقات السلطة بالسكان وعلاقة السكان بوجودهم، وما يترتب على ذلك من ترتيبات سياسية وعلاقات اقتصادية واجتماعية.
أقول السكان، وليس الشعب أو المواطنين، لأن النموذج الخليجي الأصل فيه؛ هو أن الشعب والمواطنين أقلية من بين عموم السكان، الذين يتشكل أغلبهم من عمالة وافدة، مؤقتة الوجود، يمكن نظريًا وعمليًا استبدالها أو "تفنيشها" بقرار سياسي وإرادة أمنية وبوليسية.
تشكل هذه البلدان في اجتماعها السياسي الحديث حالة أكثر قهرًا من إسرائيل نفسها. فالسكان وقوى الإنتاج المادي فيها عمالة مؤقتة، وبلدان الخليج هي الوحيدة من بين دول العالم الغني التي لا تكفل إقامات دائمة للعاملين الشرعيين فيها. وهي أيضًا ليس لديها قوانين للجنسية على غرار دول العالم المتقدم، التي تمنح الجنسية للمقيمين فيها بعد عدد معين من سنوات الإقامة المنتظمة والعمل ودفع الضرائب.
ليس صدفة إذن أن تسعى بعض هذه الدول، وفي مقدمتها الإمارات، إلى توثيق العلاقة بإسرائيل، وربما بشغف يفوق شغف إسرائيل نفسها. فالأخيرة قدمت نموذجًا ناجحًا في الهيمنة على السكان الفلسطينيين، بسياسات عسكرية وأمنية وضبطية ناجعة ومتنوعة. وكنت كتبت فى هذا الشأن مقالًا فى المنصة منذ حوالي ثلاثة أعوام.
نمط ريعي متكرر
الخلجنة هي شكل من أشكال الحكم السياسي الذي استند لعقود، وبالأساس، على ريع بيع المواد الخام الوفيرة، وتوزيع عوائدها بشكل أبوي ومحسوب على أقلية محددة، وفقًا لصيغة تعاقد قَبلية وتقليدية. ويلي هذا توزيعًا لبعض الفتات على العمالة الوافدة/الخادمة، وذلك على قاعدة عمل شبه عبودي في علاقاته التعاقدية، ولكنه يظل مقبول القيمة، قياسًا بما هو متاح لهذه العمالة في بلدانها الأصلية، وما يلفها من بؤس معمم.
وليست مشيخات الخليج، والصغيرة منها بالذات، إلا شكلًا من أشكال هذا النمط. قاعدة ضيقة من "المواطنين" تجلس على قمة الهرم السكاني، يعمل لديهم جيوش من الخدم في مراتب متفاوتة على درجات الهرم، نزولًا إلى قاعدته السفلية، حيث الحضور "البنغالي"، المضطر، والمستعد للعمل تحت أي شرط وبأي أجر. ورأينا بعضهم يموتون تحت لظى الصيف في قطر استعدادًا لعرس المونديال العربي.
هل يمكن خلجنة مصر اقتصاديًا ونحن بلد لا يملك وفورات ريعية متراكمة من بيع المواد الخام؟
لكن ليست كل صيغ دول الفوائض المالية الريعية عبارة عن مشيخات عربية محافظة، توزع "الأنصبة" وفقًا لتقاليد وحسابات قبلية. ذلك لأن بعضها، كان و لا يزال، "جمهوريات" أيديولوجية استخدمت هذه الوفورات المالية فى إطلاق فانتازياتها العقائدية والطغيانية على اختلافاتها.
فبين إيران الخمينية، وعراق البعث، وليبيا القذافي، مشترك رئيسي، وهو آبار لا تنضب من النفط، استخدمت عوائدها في استمرار أنظمة فاشلة ومجرمة أبادت شعوبها وأذلتهم، وصنعت مصحات عقلية أيديولوجية أنفقت عليها المليارات.
النموذج الإماراتي
ظاهر لكل ذي عينين أن دبي هي النموذج المثالي للطبقة الحاكمة في مصر، تَصنع المدن على شاكلتها، وحين يُراد الترويج إلى مشروع جديد يتم وصفه افتخارًا بأنه دبي القاهرة، أو دبي في الساحل، على غرار مهرجان العالم علمين الذي يُقام الآن في تبهرج مستفز، بينما يُشقي المصريين ظلام انقطاع الكهرباء، وحر صيف لا يرحم.
ولا يوجد حتى الآن سبب لهذا الانبطاح الذهني للنموذج الإماراتي. ربما هو الجهل ومحدودية الخبرة والمعرفة بأنماط التقدم فى العالم، إلى حد اعتبار مشيخات الصحراء نموذجًا للتقدم العربي، أو ربما هي قناعات ثقافية تؤمن بأنماط الحكم الشرقي المستند إلى شرعية تخلط الدين بالبطش، أو ربما ارتباط المصالح لحدود لا نعرفها حاليًا، ويبدو أنها معقدة ولا يمكن الفكاك منها بسهولة.
لكن ماذا تعني خلجنة مصر؟، سياسيًا هذا معناه أن يتخذ الحكم شكلًا سلطانيًا يستمد شرعيته من نفسه، لا من الشعب. في هذا السيناريو ستتحول الدولة بأجهزتها العسكرية والأمنية والتنفيذية إلى "المواطنين" بألف لام التعريف، ومن دونهم هم العمالة الوافدة بدرجاتها ومستوياتها. يصبح عوام المصريين وافدين في بلادهم، كل بحسب مستواه؛ هناك الأجنبي المدلل والهندي المتعلم المكد والبنغالي البائس، وهناك من هم في مراتب عبيد الإحسان.
محاولات خلجنة مصر وبنغلة سكانها ليست وصفة كارثية فحسب، بل مستقبلًا مظلمًا للمنطقة بأسرها
الخلجنة ستعني أن هناك مجتمعًا على شكل هرم، قمته تتكون من بضعة ملايين قليلة كحد أقصى، يخدمهم باقي السكان، ترفل هذه القمة في نعيم استهلاكي منفر وبذيء ومختال، في صيغة تشبه المستوطنين والمستعمرين الأجانب، ومن تحتهم ينالون من فتات وبقايا ما يتركونه خلفهم، في الحالة المصرية لا يمكن لعامة المصريين أن يكونوا بنغالًا في بلادهم. الأكثر منطقية أن يصبح سادتهم على قمة الهرم من المستوطنين الـEgyptians.. فهل هذا ممكن؟
هل يمكن خلجنة مصر اقتصاديًا، ونحن بلد لا يملك وفورات ريعية متراكمة من بيع المواد الخام التي يتم توجيهها في البهرجة والإبهار والاستهلاك، كي تجذب أنواعًا معينة من الاستثمار المشابه لبهرجتها وفجاجتها؟
خلجنة مصر جريمة
أعتقد أن مصر بلد قَدره الإنتاج المستمر، والخدمات المبدعة، والعمل والتعليم، ووعد مخلص بالمساواة والحرية. قدَرنا الحداثة التي تتأسس على أمة وشعب من الأحرار، لا من العبيد المجلوبين لخدمة أجولة المال المنثور، ولو أصرّت مصر على اعتماد النمذجة الخليجية في التنمية، سيعني هذا أنها ستأكل من لحمها الحي. وربما هذا ما نراه الآن في انهيارنا الاقتصادي إلى حدود الإفلاس. فمن قال إذن خلجتنا ممكنة؟ في الحقيقة خلجنة مصر جريمة، سيدفع ثمنها من أسس لها وتكسّب منها، إن عاجلا أم آجلًا.
الأنكى هو تخيل إمكانية خلجنة مصر اجتماعيًا، والذي في حالة مجتمعنا البائس أغلب سكانه، وهذا سيعني تحميل أجهزة الشرطة والأمن مسؤولية قهر القطاع الأوسع من السكان الفقراء إلى حدود لا يمكن تصورها أو تخيلها. صيغة تعني الاشتباه الدائم المستمر والتدوير العقابي لنسبة مئوية معتبرة من السكان، ستصبح قيد حالة مطاردة أبدية، ويترافق مع هذا تسامح شرير ومؤذٍ مع إغراق المجتمع بالمخدرات، كي يسهل السيطرة عليه بالغيبوبة والإدانة في نفس الوقت.
أمر يشبه وكأنك تحول أغلبية المصريين إلى أقلية سوداء في أمريكا. ليس صدفة أن عالم الراب، المرتبط ببيئات القهر والقسوة والتهميش، التي يعاني منها الأمريكيون السود، قد تحول إلى نمط سائد وتيار رئيسي في المشهد المصري.
محاولات خلجنة مصر وبنغلة سكانها ليست وصفة كارثية فحسب، بل مستقبلًا مظلمًا للمنطقة بأسرها، لأن الخلجنة هذه سيأتي يومًا وتترسخ في أذهان المصريين كعنوان للمذلة والقهر، ووقتها ستتشكل سردية لن يدفع ثمنها مَن خلجننا داخليًا، بل كل الأشقاء في الخليج، بمالهم وما كسبوا.