منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين، وبموجب الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة المعروفة باسم الجات، ومع إنشاء منظمة التجارة العالمية عام 1995، عمل النظام الرأسمالي العالمي وبإخلاصٍ شديدٍ على تحرير جميع السلع من القيود التي تعرقل حركتها وانتقالها بين الحدود والأسواق، باستثناء سلعة واحدة هي العمل؛ سلعة الإنسان، أكثر السلع إنتاجًا للقيمة والثروة.
ورغم ما يطال الإنسان من إهانة وتحقير في عالمنا المعاصر، فإنه يظلُّ إنسانًا لا برميل نفط. وتظل سلعة العمل هي أكثر السلع حريةً وأقلها خضوعًا للسيطرة، ويظل المالكون والمستثمرون عاجزين عن التحكم في حركتها وعملية انتقالها بالشكل المُرضي لهم، مقارنةً بباقي السلع والمنتجات.
لذلك، تحتاج هذه السلعة إلى أنماط معقدة ومركبة من الضبط والسيطرة في عملية تبادلها بين الأسواق المفتوحة، تتفاوت بين العصا والجزرة؛ سياسات وخطابات تبدأ بوعود المواطنة والمساواة وتنتهي بإطلاق الرصاص على الحدود وإغراق المراكب قبالة الشواطئ.
هناك تناقضات عديدة تحكم علاقة الرأسمالية بسلعة العمل في زمننا المعاصر، أولها أن الحد من حرية حركة العمال يتناقض مع السعي لتحرير حركة وانتقال باقي السلع. وثانيها، وهو الأهم؛ أن الإنسان، نظريًا، أكبر من مجرد سلعة، وبالتالي فإن حرية حركته يجب أن تكون مقدمةً على حرية حركة وانتقال باقي السلع.
المواطنة مقابل العمل
النظام القيمي والأخلاقي المعلن كوكبيًا، يفترض نظريًا المساواة بين البشر بموجب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ويعطي هذا النظام اللاجئين حقوقًا لكونهم لاجئين، ويضمن للعمال حقوقًا لكونهم عمالًا، وهنا تكمن أزمة الدول الغربية بالتحديد، حيث تتجلى الفجوات وتتجسد بين ما هو معلن كمقومات مركزية للحضارة الغربية من جهة، والمصالح المادية وعبودية الملكية التي تنتهك وتسحق هذه المقومات عند أول منعطف تتناقض معها فيه.
سلعة العمل هي وقود رأس المال لكنها أيضًا النار التي ستحرقه يومًا ما
لذا، سيصبح التحكم في أسعار سلعة العمل وإدارتها بين دول العالم واحدًا من أهم هموم النظام الرأسمالي العالمي في الوقت الراهن إن لم يكن أهمها على الإطلاق. لا يتعلق الأمر فقط بالربح ومراكمة الثروة، قدس أقداس الرأسمالية، ولكن بالانعكاسات السياسية والاجتماعية الناتجة عن النجاح، أو الفشل، في هذه المهمة عبر الكوكب كله، لما لذلك من تأثيرات محتملة على الاستقرار السياسي والاجتماعي والديموغرافي للدول والوحدات السياسية المشكلة للعالم. ففي النهاية سلعة العمل هي وقود رأس المال، لكنها أيضًا النار التي ستحرقه حتمًا في يوم ما.
سيحتاج الأمر إدارةً معقدةً جدًا من سياسات انتقاء وانتخاب عناصر العمل بمسمى احتياجات السوق، ثم عمليات فرز أمني وعرقي وثقافي، واستغلال لاحتياجات الدول وظروفها السياسية والاقتصادية، وفتح مدروس للأبواب أو مواربتها أو إغلاقها أحيانًا، بشكل يجعل للدول الأغنى دائمًا اليد العليا في التحكم، مع مراعاة التوازنات الداخلية لهذه البلدان، وجعل العمالة الوافدة الموعودة بالمواطنة موضوعًا محوريًا في السياسة الداخلية، بين ترحيب بها أو نفور من وجودها.
ومن هنا، أصبح العمل هو مدخل المواطنة في عالمنا المعاصر، فالحصول على جنسية بلد ما صار مرهونًا بالحصول على إقامة شرعية داخلها والعمل داخل أسواقها لعدد محدد من السنوات؛ من أربع إلى ست على الأغلب. يلتزم العامل خلال تلك السنوات بدفع الضرائب ليصبح بعدها مرشحًا لشرف المواطنة والحصول على الجنسية وجواز السفر، وما يترتب على ذلك من حقوق سياسية واجتماعية.
في الولايات المتحدة مثلًا، وعلى مستوى الحقوق والواجبات، لا فرق جوهريًا بين حاملي الجرين كارد/الإقامة الدائمة وبين أصحاب الجواز الأمريكي إلا في حق الانتخاب وغيره من الحقوق السياسية الممنوحة للمواطن.
لكن هناك ثمة فارق آخر لا يقل أهمية؛ فمن حق حامل الجواز الأمريكي البقاء خارج الولايات المتحدة لأكثر من سنة دون أن يترتب على ذلك أي شيء، خلافًا لحاملي الجرين كارد، الذين يسقط حقهم في الإقامة إذا أتوا بالمثل. في التحليل الأخير؛ فإن حقك في الإقامة يظل مرهونًا بالعمل ودفع الضرائب، أو بالعمل الرخيص غير القانوني مقابل التهرب من دفع الضرائب.
قبل منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، كانت هناك فجوة زمنية في اشتراطات الحصول على الجنسية في بلدان ما يُسمى بالعالم الأول. فبينما منحت بلدان العالم الجديد كأستراليا وكندا ونيوزيلندا الجنسية للمقيمين الدائمين بعد سنتين فقط من وصولهم، كانت دول أوروبا تمنحها بعد عدد من السنوات يتفاوت بين 6 إلى 15 عامًا.
لذا احتاج الأمر نوعًا من التنسيق والتوحيد لسياسات الهجرة والجنسية بين دول العالم الأول الغنية أو من يريد الاندماج معها، لتنساب وتتناغم الأسواق واحتياجاتها، بحيث لا يكون هناك فرق بين المقيم الدائم في أستراليا أو تركيا، فكلاهما مرشح للحصول على الجنسية بعد أربع أو خمس سنوات.
وحدها تقف دول الخليج العربى واليابان استثناءً من بين هذه الدول الغنية!!
حياة الماعز وحياتنا
أصبحت حرية الحركة والتنقل بين الدول واحدة من المعايير المهمة التي تميز بين مواطني الدول الغنية والفقيرة. وبشكل عام يمكنك التعرف على دول "العالم الغني" من قوة جوازات السفر، وقدرة حامليها على السفر والتحرك بحرية بينها، ربما باستثناءات بسيطة. يساعد موقع فهرس جوازات السفر على تمييز هذه الفوارق.
وفق هذا المؤشر، فإن جواز السفر الإماراتي هو الأقوى في العالم، ويأتي الإسرائيلي في المركز العشرين، في حين يحتل الجواز المصري المركز 82 بصحبة ساحل العاج وغينيا الاستوائية، خلف السنغال وبوركينا فاسو وأغلب دول إفريقيا التي يظنها كثير من المصريين بلدانًا فقيرة سكانها لاجئون محتملون.
منذ أسابيع بدأت منصة نتفلكس في عرض فيلم حياة الماعز، المأخوذ عن رواية أيام الماعز للروائي الهندي بيني دانيال المشهور باسم "بنيامين"، وهي بدورها مأخوذة عن قصة حقيقية لإنسان هندي يدعى نجيب محمد، تعرض للاستغلال في تجربة صعبة ومريرة، أُجبر خلالها على رعي الأغنام في منطقة صحراوية معزولة داخل السعودية، لتنتهي رحلة عبوديته بنجاحه في الهرب والعودة إلى بلاده.
جاء التجسيد السينمائي لهذه الرواية شديد الميلودرامية والفجاجة فنيًا، لكنه لم يفارق في خطوطه العامة ما يعبر عن قصص آلاف العمال، الآسيويين بالذات، في أغلب بلدان الخليج العربي.
دول الخليج خلافًا لبقية دول العالم "الغنية" لا تعد الوافدين إليها بالمواطنة والجنسية. المعادلة في الخليج مختلفة، فسلعة العمل هناك لا تدفع ضرائب على الدخل، وبالتالي فالأجور هناك أعلى قياسًا بدول العالم الأول الغنية الأخرى، على الأقل بالنسبة لمواطني هذه الدول الذين يعملون في الخليج. سيختار كثير منهم، بجشع، المزيد من الادخار والرفاهية، مقابل التخلي عن المواطنة المحتملة. العمل المأجور في الخليج عملٌ صافٍ بلا أفق سياسي أو اجتماعي لهؤلاء، وهم لا يريدونه من الأصل.
لكن مواطني الدول الغنية ليسوا إلا أقلية في التحليل الأخير. ستظل سلعة العمل الأساسية في بلدان الخليج قادمة من بلدان فقيرة وبائسة، يرضى أبناؤها بأجور بسيطة وظروف عمل مهينة ووجود مؤقت ومهدد طول الوقت، وبلا حقوق. لن تجلب أوروبا فلاحًا من صعيد مصر أو عاملًا من ولاية كيرالا الهندية، لكن السعودية ستفعل.
والمسألة ليست في نظام الكفيل الفرد أو الكفيل المؤسسة، بل في اصطياد العبيد. هؤلاء الذين تعرف كيفية دمجهم في نظام اجتماعي واقتصادي يرتضون فيه بهذه الوضعية، لأنهم قادمون من شروط إنسانية واجتماعية أصعب، تدفعهم دفعًا للقبول بذلك.
السعودية والإمارات وقطر وغيرهم ليسوا في تناقض مع مبادئ لم يعلنوا يومًا تبنيها، لذا فهم أكثر وفاءً لأكثر وجوه الرأسمالية إجرامًا. لا يتجملون، وبعضهم يأخذ بأكثر أسباب الرأسمالية تقدمًا على المستويين التقني والفني. فلا غرابة إذن أن يصبح جواز السفر الإماراتي هو الأقوى عالميًا، فالدولة هي الشركة، هي رأس المال، هي السيد، ومواطنوها حملة أسهم، وعمالها عبيد ولو سكنوا قصورًا.