ناقشت في المقال السابق كيف أسهمت الأزمة المالية الكبرى في 2008 وما تلاها من خطط إنقاذ ومسكنات في خلق مسار ينتهي بالإفقار البطيء الممتد لأغلب سكان العالم وجعلهم من الكادحين، بمن فيهم مواطنو دول الغرب الغنية نفسها.
لكن هل مرت هذه العملية دون مقاومة؟ سواء مقاومة واعية لأسباب الأزمة وللعلاقات التي ولدتها، أو متزامنة مع الحدث وتبنت قضايا وشعارات غير ذات صلة بصلب الإشكال، وإن كانت في الوقت نفسه تعبيرًا عن الشرط المادي الجديد الذي أنتجته الأزمة؟
في ظني المتواضع، جاءت المقاومة المشتبكة مباشرة وبوعي مع أصول الأزمة المالية هامشية ومشوشة بشكل محبط، لا يتناسب بالمرة مع جلل الحدث. وهذا أحد دوافع كتابة هذا المقال، كتعبير شخصي عن همٍّ حقيقي ومؤرق، بشأن تقادم التنظيم والفعل السياسي بمعناه الكلاسيكي من دون خلق آخر جديد، قادر على الاشتباك مع الأسئلة والتحديات المعاصرة.
كشفت الأزمة المالية، والتعاطي السياسي معها، عن تآكل البنية السياسية والعمليات المتولدة منها، خصوصًا في الغرب، لدرجة حولت المجال السياسي مع الوقت إلى ساحة كرنفالية للتسلية والإثارة الإعلامية، أو مُكوِّن ترفيهي على هامش عملية حكم حقيقية، أضحت تستهزئ بالشعوب ولا ترى في مكوناتها وتنظيماتها أطرافًا ذات حيثية، تستحق المشاركة في تقرير مصيرها ولو بقدر محدود.
بالطبع أنتجت الشروط المادية لما بعد الأزمة المالية موجات من الاضطرابات السياسية المهمة حول العالم، بعضها صاغ شكل عالمنا الجديد وخياله، وأغلبها أنهى يقينيات سياسية مغرورة عند الدول الغربية بالذات، بشأن نجاعة وميكانيكة سياسات التحول الديمقراطي كحل سحري لكل مشكلات الكوكب.
بعد شهور قليلة من انفجار الأزمة المالية، وصلت توابعها التسونامية إلى سواحل اليونان، لتندلع اضطرابات سياسية واجتماعية عنيفة. وفي نفس الفترة صعد بسرعة الصاروخ نجم باراك أوباما ليصبح أول رئيس أسود في تاريخ الولايات المتحدة، تحت شعارات شديدة الغموض والديماجوجية عن الشباب والأمل والاستطاعة.
وبعد عامين، انفجر الربيع العربي بالتتابع في ست دول، ليفتح معه باب الاحتمالات السياسية بين الثورة الديمقراطية الملونة والثورة الوطنية الديمقراطية والحروب الأهلية. لقد وجد العالم نفسه فجأة أمام اضطرابات سياسية جادة، لم يكن مستعدًا لها.
وفي كل محطة من هذه المحطات أثبتت الأطر السياسية وأدواتها عجزًا لافتًا في التعامل مع الأزمات التي تواجهها، بشكل جعل مصائر كل تلك التجارب تتفاوت بين الفوضى، الشاملة أو المحتواة، وبين أنماط عسكرية وسلطوية غاشمة للحكم.
أفول السياسة كمناورة وتوسط
لست في معرض الحديث عن الممارسة السياسية من أسفل، التي تجسد ديمقراطية مباشرة وتمكينًا حقيقيًا لسلطة الشعب، بل عن ممارسة السياسة من أعلى، كدور للطبقات الحاكمة والمهيمنة، وحيث الأصل أن مهمة السياسيين هي المناورة بين مكونات قوى المجتمع البرجوازي النافذ والقطاعات الأوسع من الشعب، تارة باسم السلام الاجتماعي، وأخرى باسم الصالح العام.
ففي لحظات معينة، يستطيع بعض السياسيين تقوية مركزهم وفرض إرادتهم من خلال عملية التوسط والتمثيل والتشبيك تلك، فيجبرون بعض مكونات القوة والنفوذ داخل الكتل المهيمنة على التنازل والرضوخ، بالتوازي مع امتصاص غضب واحتجاجات القطاعات العاملة من السكان، إما بالقمع أو بتقديم بعض التنازلات.
لكن في كل الأحوال، كان للسياسيين أهليةُ التمثيل والقيادة، كانوا تعبيرًا عن توازنات حية في المجتمع ومن داخل تلك التوازنات امتلكوا قوتهم، كفئة تمتلك قدرة اللعب على حبال التناقضات أو كممثلين أمناء لمصالح واضحة.
أثبت بعض السياسيين قدرةً وكفاءةً على إحداث تحولات تاريخية كانوا على موعد معها، فالرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت مثلًا قاد تحولًا اقتصاديًا عملاقًا في الولايات المتحدة في أعقاب الكساد الكبير، تحول لم يكن لينجز إلا تحت وطأة زلزال اقتصادي أرعب الجميع، فضلًا عن قدراته كقيادي امتلك قوة وثباتًا مكناه من إجبار أوساط المال والأعمال على القبول بدور أكبر للدولة في إدارة الاقتصاد، بالتوازي مع تحييد واحتواء الحركة العمالية، قبل أن يقمعها بشدة لاحقًا.
ومن السياسيين الذين تمكنوا من قيادة تحولات كبرى، هناك أيضًا الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان ومعه رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر، آخر السياسيين المهمين والحقيقيين في العالم. ورغم أنهما يمينيان، لم يبذلا أي جهد لإدارة صراع اجتماعي والتوسط فيه، بل انحازا، وبإجرام، لرأس المال الكبير والاحتكارات العملاقة، إلا أنهما كانا على الأقل قادرين على إنفاذ تحول تاريخى مهم اسمه "النيوليبرالية الشرسة"، في ظل تحطيم واحتواء مدروس للتنظيمات العمالية والنقابية.
وما بعد الريجانية والتاتشرية، لم يسطع الكثير من النجوم في مضمار الإدارة السياسية الحذقة التي تدير صراعًا اجتماعيًا ومصالح متلاطمة، ربما لولا دي سيلفا في البرازيل يسارًا، وإلى حد كبير رجب طيب إردوغان في تركيا، وإن بصيغة أكثر يمينية وبهلوانية، وبالطبع فلاديمير بوتين، كمدير مافيوي أمني لعصابة دولة اسمها روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي.
الاستحالة السياسية سابقة ولكن الأزمة عمَّدتها
سيكون من الظلم تعيين لحظة الأزمة المالية في 2008 وما تلاها كنقطة تحول حاسمة في مسيرة تهميش الفعل السياسى العالمي وأثره على عملية الحكم الحقيقية، فالأمر يعود إلى قبل ذلك بعشرين عامًا على الأقل، عندما أضحت الديمقراطية الليبرالية في صيغتها الأمريكية نموذجًا واحدًا أوحدَ للممارسة السياسية الناجعة.
خلال تلك السنوات، وبمزيج من البقرطة والكوكبة ونزعة التأبيد، ضاقت حلقات الممارسة السياسية لتصبح موسمية السمات، في كرنفالات انتخابية دورية بين قوى سياسية تتشابه برامجها أكثر مما تتمايز.
وفي نفس الوقت، تم تسييد تصورات عن عالمية القيم السياسية التي ستتم رعاياتها وضبط أدائها عبر مؤسسات عابرة للقومية، سواء كانت في شكل هيئات أممية رسمية، أو منظمات مجتمع مدني دولية تتفق في أجنداتها على ما هو صالح للعالم كله من أقصاه إلى أقصاه، الأمر الذي جعل حدود الاحتجاج الراديكالي في مواجهة تلك الصيغ هو التظاهر العنيف خلال مؤتمرات منظمة التجارة العالمية وقمة العشرين، كما حدث في سياتل 1999 وتورنتو 2010.
كانت تلك بعض من تصورات أنطونيو نيجرى في كتابه الإمبراطورية، التي طرح في مقابلها مفهومًا غامضًا اسمه "الجموع"، التي ستلعب دور المقاومة لهذه البنية. لكن في الحقيقة، لم يسِر العالم في هذا الطريق، بل راح رأس المال يتملص من السياسة بالمجمل، وأصبح السياسيون عاجزين عن التعامل معه إلى حدود محرجة.
ففي خريف 2008، لم تولِّد الأزمة المالية وتبعاتها احتجاجات سياسية تشتبك مع نواتجها بشكل مباشر، بل أصيبت السياسة العالمية بالشلل والخرس. ولم تُناقش في حينه القرارات الاقتصادية التي غيرت مصير العالم، ولم تدخل في صلب الجدل السياسي أو على أولوية قواه المتنافسة. في الواقع، تم التعامل مع الأزمة وكأنها مسألة منفصلة عن الطقسية السياسية المعتادة، وكأنَّ كل القوى التي تشكّل المشاهد السياسية في الديمقراطيات الغربية استسلمت للقرارات والخيارات التي تم اتخاذها.
تحولت المجالات السياسية في أوروبا والولايات المتحدة إلى ساحات للتسلية والإثارة السياسية لا يعول عليها المواطن
صحيح أن أصواتًا خافتةً بدأت تتعالى تدريجيًا بالحديث عن هيمنة بيروقراطية بروكسل على القرار السياسي في الاتحاد الأوروبي، وسيطرة الساسة الألمان على القارة العجوز، ولكنّ ذلك بدا وكأن هناك رهانًا على الروح القومية في مواجهة الجامعة الأوروبية. وعلى الجانب الآخر من الأطلنطي، دخلت الوطنية الأمريكية البيضاء في مواجهة أمريكا الإمبراطورية المتعولمة، وهو ما يمثله دونالد ترامب وشعبويته ذات الطراز الجديد.
كان المدخل اليميني هذا هو الأساس الذي صعدت عليه القوى التي تتصدر المشهد الحالي، ولكنه كان صعودًا كاريكاتيريًا هو الآخر، ذلك أنه لا يشتبك مع الحقيقة المتعولمة للطور الحالي من الرأسمالية المتأخرة، وكأنه يدفع الحصان من رأسه، ومن خلفه العجلة، في الاتجاه المضاد. وهو موضوع تطرقت إليه بالتفصيل مقال سابق بعنوان حيث لا عولمة ولا قومية.
خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بأغلبية بسيطة جدًا، وبشعارات شعبوية لا تنطلي على أحد، ولا يمكن لها الاستدامة لو امتد الجدل العام وتعمق. وحتى الآن ليس من الواضح ما هي الدوافع الحقيقية لبعض الكتل الحاكمة في بريطانيا من وراء تحفيز هذا الخيار، لكن من المؤكد أن الدعاية السياسية التي صاحبت دعوات البريكسيت لا تعبر عنها.
استمر التخويف لسنوات من احتمال صعود يمينيات فاشية أوروبية إلى السلطة، ولكن عندما حانت اللحظة لم يحدث شيء. تحكم إيطاليا اليوم رئيسة وزراء تلوح بالتحية الفاشية، وفي هولندا هناك تحالف هو الأكثر يمينية في تاريخها، ولو صعدت مارين لوبان إلى سدة الحكم في فرنسا لن يترتب على ذلك أي تحول جدي في ظني.
جرى تحويل المجالات السياسية في أوروبا والولايات المتحدة إلى ساحات للتسلية والإثارة السياسية، يعرف المواطن العادي في داخله أنه لا يستطيع التعويل عليها. يتحدث كل رئيس أمريكي منذ زمن كلينتون بحماس في حملاته عن أنه بصدد فعل شيء ما كبير في مواجهة احتكارات صناعة الدواء العملاقة، ليتمخض كل وعد، كبيرًا كان أم صغيرًا، عن لا شيء.
يعرف الأمريكيون الآن أن لا أحد في قوة البيج فارما أو لوبي السلاح، أو لوبي زراعة محاصيل الحبوب. بل لا أحد في قوة اللوبي الصهيوني، وما دام لا أحد في قوة أي شيء فلماذا إذن لا نخوض رحلة تسلية طويلة مع دونالد ترامب، يختلط فيها تليفزيون الواقع مع السياسة مع خفة الظل؟
اعتُمدت أجندات للجدل السياسي الأمني المسلي، كعنوان وحيد لاستمرار المجالات السياسية في الديمقراطيات الغربية، مثل التعبئة حول سؤال المهاجرين ومستقبلهم، وهم في التحليل الأخير لا يشكلون إلا نسبة بسيطة من قوة العمل الحالية أو في المستقبل القريب، أو سؤال دورات المياه المخصصة للعابرين والعابرات جنسيًا، كتجلٍّ فجٍّ للسخف الليبرالي الأمريكي، وأمثلة أخرى كثيرة لا تصلح إلا كسرد ممل على هامش واقع خطير.
اتساع هامشية وأراجوزية المجالات السياسية في الديمقراطيات الغربية، بالتزامن مع تزايد أدوات السيطرة الأمنية والرقابة والتأثير السيبراني، جعل "العالم الديمقراطي" مستعدًا أكثر فأكثر للتخلي عن تقاليده السياسية لو كان ثمن ذلك منع انفجارات حقيقية لم تُفصح عن عناوينها بعد، فكما قلنا سابقًا؛ نحن في زمن الجدالات الآمنة التي جل مهمتها ألَّا تشتبك مع الكابوس الحالي للطور المتأخر للرأسمالية.
لا أريد أن أكون متشائمًا، ولكنَّ الصين الناجحة اقتصاديًا اليوم لا تعد العالم بشيء، أو بنموذج ملهم للكوكب كله. الصين تبنى الصين، والحزب الشيوعى يحكم الصين، ومن خلفه جيش التحرير الشعبى. وأصبح نموذج الدولة/ الشركة الصغيرة والأوتوقراطيات الأمنية تجهر بوضوح في مديح الديكتاتورية باعتبارها هي الأنسب لرأس المال والاستقرار ونجاح الأعمال، كما فعل رجل الأعمال الإماراتي خلف الحبتور مهنئًا أمير الكويت بحل البرلمان عنده.
إن مزيدًا من فشل وإفشال السياسة بمعناها الكلاسيكي من دون اجتراح آلية جديدة لممارستها، سيجعل من العسكرة الكونية خيارًا واردًا بشدة، لتصبح حتى الفاشيات المتحمسة سياسيًا، رجاءً شعبيًا صعب التحقق.
وإذا كان ياسين الحاج صالح عبر بشكل يحمل الكثير من الشعرية عن أنَّ سوريا المحطمة بإبادة الأسد هي مصير العالم، مصيره بمعنى أنَّ الوجود الإنساني المعاصر ستُبخس قيمته ليعاد تقويمه سوريًّا، ثم فلسطينيًا، فربما يمكننا القول بشكل أقل شعرية إن مصر قد تصبح هي مستقبل العالم كتعبير عن استحالة السياسة مع ضرورة ضمان مصالح الكتل المهيمنة بالمال والسلاح، في ظل فقدان بوصلات الاتصال والتوسط والمناورة، وبحيث تصبح البندقية بيد الحكم العسكري هي وحدها الضامن الحاسم لاستمرار النظام الاجتماعي المهيمن في ظل الرأسمالية المتأخرة.