في المقال السابق، كتبت عن إمكانية تعيين لحظة انفجار الأزمة المالية العالمية عام 2008 كبداية حقيقية للقرن الحادي والعشرين، وكبداية سطّرت حقائق وشروطًا ماديةً لعالمنا المعاصر تتجاوز الحالة البرزخية التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفيتي، واستمرت نحو 15 عامًا.
كان العالم الذي سبق أزمة 2008 مباشرةً مغرورًا بأبديته، ولذلك لم يكن مستعدًا للتعامل الجدّي مع ما قد يعكر صفو سرمدية تصوراته شبه الدينية. ورغم أنَّ تعاطيه مع الأزمة، بالذات على المستوى الفني والإجرائي، بدا ناجحًا وفعالًا، فإنه مع مرور الوقت أفصحت تلك الإجراءات عن ارتباك وخطورة كارثية لا تزال تصاحبنا حتى لحظتنا المعاصرة، خاصة على المستويات السياسية والاجتماعية.
كانت السرعة الشديدة أهم ملمح صاحبَ التعامل مع الأزمة المالية لحظة انفجارها، مع انهيار بنك ليمان براذرز الأمريكي في خريف 2008، لأنه كان عالقًا في الأذهان ما سببه التباطؤ السياسي والإجرائي في التعامل مع المقدمات التي أفضت إلى الكساد العالمي الكبير في 1929، وما أعقبه من انفلات أفضى إلى انهيار اقتصادي طال العالم كله، وانتهى بحرب عالمية مدمرة.
تعبيد ممرات الديستوبيا
لم يكن استدعاء تروما الكساد الكبير هو المَرد الوحيد، بل الطور الجديد الأكثر تعقيدًا وتشابكًا للاقتصاد الرأسمالي العالمي المعاصر إذا ما قارنَّاه باقتصاديات القرن العشرين. فاليوم تتشابك رؤوس الأموال وتنصهر وهي تتحرك وتتطاير بسرعات قياسية، وذلك بحكم تطور التواصل التكنولوجي وتوافر المعلومات إلى حد فيضانها، فضلًا عن الزيادة الرهيبة في حجم رأس المال والأدوات المشتقة منه، التي حوّلت السوق العالمية إلى صالة قمار حرجة وسريعة، لا يمكن إيقافها للحظة واحدة، وإلا انهار كل شيء.
سيعاني سكان البلدان النامية من انعدام الأمان وستكتفي سلطاتهم المستبدة بالقول إننا ضحايا أزمة عالمية كبرى
الشرط المعاصر للاقتصاد الرأسمالي العالمي حتَّم على الساسة، تحديدًا في الولايات المتحدة، سرعة اتخاذ إجراءات عاجلة للتعامل مع البوادر التي قد تُفضي إلى أزمة كبرى، لأننا هنا لن نكون إزاء صدمة يعقبها ركود نسبي يتصاعد بالتدريج لينتهى إلى كساد، بل صدمة ستؤدي إلى هلع وانهيار كامل بسرعات قياسية.
كان أول الخاسرين من الاشتباك العاجل مع أزمة 2008 هو الثبات العقائدي المغرور للنظريات النيوليبرالية، التي تؤمن بأنَّ السوق يجب أن تطهر نفسها بنفسها، بآلية عضوية ومن دون تدخل من قبل أي سلطة سياسية، وهو الأمر الذي لم يحدث بالطبع في ظل سياسات الإنقاذ المالي.
ورغم أنَّ حكام العالم كانوا لحظتها، وما زالوا، من النيوليبراليين المتحمسين، فإن التجربة أثبتت أنَّ بإمكان النيوليبرالية خيانة ثوابتها النظرية إذا تعرضت لاختبار يهدد وفاءها الكامل لرأس المال كخالقٍ أسمى لها. ربما تكفر ببعض الطقوس والممارسات، ولكنها لن تكفر بالجوهر الحقيقي لدافعها العقائدي، وهو ليس "الحرية" بالطبع كما تدّعى، بل النمو والتراكم والربح، وهذا هو ما علمنا إياه التاريخ المعاصر، حيث تكون الديكتاتوريات والشموليات أكثر وفاءً لعقيدة التراكم والربحية، وأكثر قدرة على التصرف وقت الأزمات.
كان لمنطق حزمة الإنقاذ المالي وقتها أكثر من وجه، أهمها منع الركود كأولوية لا بد من تحقيقها بأيِّ ثمن، من دون فهم أو محاسبة الأسباب التي أسهمت في خلقه. وذلك عن طريق ضخ تريليونات الدولارات في نفس المشروعات التي تعثرت، وتحت إدارة أغلب الفاشلين والمجرمين والفسدة من نخب رجال الأعمال والتنفيذيين الذين تسببوا في تعثرها، إلى حد غسيل سمعتهم في السنوات اللاحقة، وإعادة تقديمهم كرواد أعمال ونماذج نجاح ملهمة للأجيال القادمة.
سرى نفس الأمر على مؤسسات التقييم المالية أمثال فيتش وموديز وستاندارد آند بورز، التي لا تزال حتى الآن جهة الفصل في تحديد الاقتصادات الناجحة والاقتصادات المتعثرة، بينما لم يفكر أحدٌ للحظة في محاسبة تلك المؤسسات على تقييمها المضلل لأسهم وديون المشروعات التي تعثرت وانهارت فسببت الأزمة من البداية.
الوجه الآخر لمنطق حزمة الإنقاذ والتحفيز المالي كان عدم السماح بالاشتباك مع منطق عمل رأس المال نفسه، بالتالي طرح إمكانية إعادة ترتيب الأولويات البشرية على أسس مختلفة، تعيد النظر إلى حياة الإنسان الفرد والإنسان الجامع بشكل جديد. ولكن كانت هناك ضرورة لعدم إبطاء العجلة ليُحرم البشر من تأمل حيواتهم ومفرداتها وغاياتها.
وهو بالمناسبة نفس المنطق الذي استخدمه اليمين العالمي لتبرير مواقفه الرافضة لإبطاء عجلة الإنتاج وسياسات الإغلاق أثناء جائحة كورونا، لوعيهم الكامل بأنَّ خروج ترس الإنسان من ماكينة العمل قد يفضي إلى إمساكه بوعيٍ مختلف، قد يتفاوت بين مقاومة نمط الإنتاج الرأسمالي بجلاء يساري، أو الإيمان بنظريات المؤامرة كحال ملايين الأمريكيين الذين تبنوا، بمتوالية متصاعدة، مؤامرة QAnon اليمينية.
الوجهان السابقان للصورة، ومعهما وجوه أخرى لا مجال للإحاطة بها في هذا المقال، جعلوا واضعي السياسات في خريف 2008 غير عابئين بالكلفة المستقبلية لقراراتهم؛ لا بالفساد المحتمل الذي سيشوب حتمًا إجراءاتهم المتعجلة، ولا باعوجاج المنطق النظري والأخلاقي المؤسس لها، ولا حتى باحتمالات فشلها وآثار ذلك بالتبعية.
ومن وقتها أضحى هناك قرار رأسمالي عالمي بالاستمرار من أجل الاستمرار، مهما بلغت التكلفة. وهو القرار الذي قبعت في جيناته كلُّ إمكانية للتسلط والاستبداد والاستهانة، وجعل الإنسان ووجوده في حالة تهديد دائم، وهو الأمر الذي أصبح مع الوقت وبالتدريج واقعًا مُعاشًا، يتسرب إلى نفوس البشر سنة تلو الأخرى، عبر سلسلة من تجارب ومحطات مختلفة، ليس الربيع العربي إلا واحدًا منها.
قيمة الفاتورة ومن دفع ثمنها
الاضطراب وعدم الأمان والضآلة هي أشباح تمكث في وعي وروح سكان السواد الأعظم من البلدان النامية والفقيرة، في ظل النظام الرأسمالي العالمي. لذلك ستكتفي سلطاتهم المستبدة بالقول إنَّ هناك أزمة سياسية أو اقتصادية عالمية كبرى نحن ضحية لها، ليتقبل هؤلاء السكان موجات الإفقار وغياب اليقين المعيشي التي ستعاني منها بلدانهم الملقاة على هوامش السوق العالمية، وإلا فالعواقب ستكون أوخم، وربما تصل إلى حدود الإبادة والفناء، ونحن في مصر نعتبر نموذجًا مثاليًا لسيادة هذه السردية التعيسة.
إذا عجز الغرب عن المنافسة في جودة الإنتاج وعلاقته بالتكلفة فسيلجأ للحل الأسهل والأقدم؛ النهب الفج المسلح
لذلك يظل تتبع مسيرة التغيرات المعيشية في البلدان الغربية الغنية، منذ بداية الأزمة في 2008، هو المدخل الأكثر دقةً في تعيين أثر سياسات معالجتها، الممتد على حياة عينة محددة من البشر، حيث تتسم مستويات المعيشة هناك بالاستقرار ووضوح المفردات وتناسق التوقعات.
المادة لا تفنى ولا تُستحدث من عدم، وكذلك القيمة الاسمية والسوقية للثروة. لقد ضخ الاحتياطى الفيدرالي الأمريكي والبنوك المركزية الأوروبية تريليونات الدولارات بغرض تحفيز الاقتصاد وإنقاذ بنوك وشركات، فمن الذي سيسدد هذا الدين؟
تحدث البعض وقتها عن العبث المحتمل بأموال التأمينات والمعاشات، وتحدث آخرون عن تضخم قادم لا محالة، لكنَّ الإجابة الأكثر عقلانيةً وبساطةً في الوقت نفسه هي أن من سيدفع الفاتورة هو المستقبل، طالما هناك قدرة على إدارته لتحقيق هذا الهدف.
والمستقبل هنا قد يعني السيطرة على الاحتياطات النقدية السائلة للدول ذات الوفورات، سواء بالقوة أو الابتزاز. وقد يعني مصادر الطاقة الطبيعية، أو بخس وتكديح سلعة العمل في العالم كله، وكلها مسائل تحتاج إلى سبيكة يمتزج فيها القهر بالتهديد والاستبداد، أشياء تفسر عالمنا المعاصر، حيث يصعد النموذج الصيني الذي يستعبد العمال باسم "الاشتراكية ذات الملامح الصينية"، وحيث يفسر تآكل المجال السياسي والممارسة الديمقراطية للجموع، وصولًا إلى مرحلة صدارة الزعماء السياسيين المهرجين، الأشبه بأبطال برامج تليفزيون الواقع.
لكن لنتأمل قليلًا في حال سكان الولايات المتحدة ودول أوروبا، وكيف تحولوا من بشر تنعم قطاعات واسعة منهم ببحبوحة معيشية تسمح لهم بمساحات آمنة من الادخار والاستثمار والقدرة على تعليم أبنائهم تعليمًا متميزًا يضمن تفوقهم على أقرانهم، وكذلك الشعور بالأمان واليقين ناحية المستقبل، بمعنى أدق "السعي لتحقيق السعادة" التي نص عليها الدستور الأمريكي يومًا ما.
تبخر هذا العالم بالتدريج عبر السنوات التي أعقبت الأزمة. الآن يعمل المواطن الأمريكي بجد واجتهاد شديدين، وهو في حالة من التوتر والضغط طول الوقت لضمان إنجاز عمله بإجادة وتقديم الخدمة بأقصى حرفية وكفاءة. أصبح يلهث للحفاظ على موقعه الاجتماعي دون أي ثقة في المستقبل. لقد تآكل أمانه الاجتماعى إلى حدود غير مسبوقة، وتضاءلت قدرته على الادخار، وصار لزامًا عليه العمل لساعات أطول تحت ضغوط أشد، ليتمكن من الوفاء بالحدود الاستهلاكية المقبولة له، في ظل نظام لا يرحم في سرعته وقسوته.
ورافق هذا التهديد والضغط المستمرين تحدٍّ آخر، يتمثل في بزوغ سلعة العمل، الماهرة نسبيًا في دول مثل الصين والهند وغيرهما من الدول الآسيوية، لدرجة تهدد كفاءة إنتاجية العامل الأمريكي وخدماته عالية الجودة. خاصة وأنَّ سنينًا طويلةً من التدهور النسبي في مستويات المعيشة، سيرافقها أوتوماتيكيًا تدهور جودة الخدمات، لأن تدهور المعيشة سيجلب معه تدهور نفسي جمعي، يجعل دوافع الإجادة أقل. وهو الأمر الذي يمكن أن تلمسه بوضوح في تدهور الخدمات في بلدان الغرب بعد الجائحة.
انخفض مؤشر الرفاهية، والاعتقاد فيها، في نظام نيوليبرالي لا يعد أحدًا بها، ولا يعتبرها أمرًا مستحقًا للجميع. وانخفضت السقوف بتدرج بطيء لدى الأوروبيين والأمريكيين، في حين صعدت لدى الصينيين والهنود، الفقراء من الأصل، والمملوئين بآمال اللحاق والتحقق.
أما نحن، في بلاد مثل مصر، كملحق تابع للمجال الأمريكي، فهوت بنا الآمال من مقام الالتحاق بالسوق العالمية من موقع منافس، إلى حضيض اسمه "أفضل من سوريا والعراق".
بالطبع لن يسكت الغرب، وها هو الآن يشعل مناطق مختلفة في العالم، لأنه إذا عجز عن المنافسة في مضمار جودة الإنتاج وعلاقتها بتكاليف سلعة العمل، فسيلجأ للحل الأسهل والأقدم؛ النهب الفج والعاري تحت تهديد ترسانة السلاح فائقة التطور. وهو ما فعلته أمريكا في الأعوام الماضية، وستتوسع فيه في الأعوام المقبلة، من أجل الحفاظ على الحد الأدنى من السلام الاجتماعي داخل الولايات المتحدة نفسها، حتى ولو صاحبه المزيد من التكديح والكآبة.
كل ما سبق يحتاج إلى عالم تصمت فيه السياسة وتتحدث فيه المدافع، وتسود فيه المخدرات والهذيان جنبًا إلى جنب مع زيف الوعي، وانتشار التوقعات التي لا تستند إلى أيِّ أساس ماديٍّ.
جرَّدت سنوات الأزمة الممتدة المجال السياسي العالمي من أهليته وشرعيته في عدة محطات، كان من أبرزها ربيعنا العربي المهزوم. وأسهمت الجريمة والمخدرات تحديدًا في صياغة بعض من ملامح تلك السنين.
ولكن لهذا حديث آخر.