يركز باحثو الاقتصاد على اختلاف أيديولوجياتهم على التبادل التجاري بين البلدان كمدخل لفهم أحوال الاقتصاد في كل بلد والسبيل لتحسين أدائه، فنجد مؤسسات نيوليبرالية مثل صندوق النقد الدولي تحفز الدول على زيادة صادراتها لسد عجوزات التجارة وميزان المدفوعات وبالتالي علاج مشاكل اقتصادها الكلي، وعلى النقيض تطالب تيارات اشتراكية، مثل مدرسة "التبعية"، بإرساء قواعد حمائية لإضفاء بعض التوازن على العلاقات التجارية مع العوالم الخارجية.
المشكلة أن الشائع بين الاقتصاديين هو الاعتماد على النقود كأداة لقياس هذا النمط من العلاقات، فإذا صدَّر بلد ما منتجات بأموال أقل مما استورد فهو في علاقة تبادل "لامتكافئة سلبية" بنفس قدر الفارق النقدي بين صادراته ووارداته، وإذا حقق بلد ما توازنًا بين صادراته ووارداته فهو في "علاقة متكافئة" مع العالم الخارجي بغض النظر عن ماهية ما تم تبادله.
إذا اعتمدنا على هذه الرؤية، سنشعر بالسعادة ونحن نقرأ تقارير أخيرة عن أن مصر صدَّرت أكبر كمية من المنتجات الزراعية في تاريخها عام 2020، وأنها أصبحت خلال العام ذاته أكبر مُصدِّر للبرتقال في العالم، وهو ما حدث بالفعل عند انتشار الخبر السنة الماضية.
ولكن في ظل أزمة النقد الأجنبي الهيكلية التي تعيشها مصر منذ عقود طويلة وتزداد حدتها هذه الأيام، وهي الأزمة الناشئة بالأساس نتيجة لذلك التبادل اللامتكافئ مع العالم الخارجي، فمن الضروري إعادة التفكير في هذا الأمر وتبني زوايا رؤية بديلة وتاريخية للإشكالية.
التبادل غير المتكافئ بين المادي والمحاسبي
يرفض تيار من الباحثين النظر للتبادل التجاري من زاوية النقد/ الأسعار الضيقة لفهم علاقات التبادل اللامتكافئ، بافتراض أن الأسعار ليست بالضرورة عادلة ولا تعبر عن القيمة "الحقيقية" للمنتجات (ما تستهلكه من موارد وعدد ساعات عمل، الخ).
على سبيل المثال، يجادل لاوسين وكوب بأن الأسعار ليست عادةً مقياسًا جيدًا للقيمة نظرًا لأن الأسعار في كثير من الحالات هي مؤشر القيمة التي نحاول تفسيره، لا سيما كآلية لنقل القيمة.
وعندما حاولت دراسة صدرت مؤخرُا بقيادة جاسون هيكيل، الباحث الأنثروبولوجي والأستاذ في معهد العلوم البيئية والتكنولوجيا التابع لجامعة برشلونة المستقلة، أن تحسب مستوى التبادل التجاري على أساس ساعات العمل المبذولة والموارد المستهلَكة في إنتاج السلع التي يتم المتاجرة فيها، توصلت إلى أنه في عام 2015 بلغ صافي واردات الشمال العالمي من الجنوب في هذه السنة 392 مليار ساعة من العمل و12 مليار طنا من المواد الخام، و 3.4 مليار برميل من النفط، ومساحة 822 مليون هكتار من الأراضي. ويؤكد المؤلفون أن هذه الحسابات تعبر عن قيم "صافية"، ما يعني أن الجنوب يقدم للشمال هذه الموارد وساعات العمل ولا يحصل على شيء في مقابلها.
يبدو ذلك على عكس الصورة التي تظهر لنا في موازين التجارة المحسوبة بالنقود، التي يبدو منها أن العلاقة متكافئة بين الشمال والجنوب، بحسب الدراسة فإن العجز التجاري النقدي بين الشمال والجنوب ضئيل للغاية، ما يعادل 1% فقط من عائدات التجارة العالمية، ويتأرجح بين الشمال والجنوب.
تكشف مقايس التجارة الجديدة التي يقدمها الباحثون أن الشمال يحصل على صافي واردات ضخم من الموارد والعمالة دون مقابل. ويشدد مؤلفو الدراسة على أن هذا الاعتماد ليس ضئيلًا في الحجم، وأنه يشتمل على حوالي ربع إجمالي استهلاك بلدان الشمال، وأطلقوا على هذه الطريقة في قياس التبادل "البعد المادي للتبادل غير المتكافئ"، بينما يسميها باحث اقتصاديات التنمية الألماني هانز سينجر "شروط المقايضة التجارية".
إذا ما استخدمنا هذه المقاييس لتقييم صادرات مصر من البرتقال، سنجد أننا مع كل كيلوجرام نُصدر نحو 550 لتر من المياه التي نستخدمها في زراعته، يعني هذا أن مصر تصدر نحو 880 مليار لتر من مواردها المائية لكي تحظى بلقب أكبر مصدر في العالم للبرتقال.
ولو اعتبرنا أن المنتجات الزراعية على اختلاف أنواعها تستهلك في المتوسط 550 لترًا من المياه لزراعة كل كيلوجرام سنجد أننا نُصدِّر سنويًا ما يقارب 3 تريليونات لتر ، أي حوالي 3 مليار متر مكعب من المياه، مما يزيد عن 5% من حصتنا من مياه النيل. هذا طبعًا بالإضافة للطاقة والمياه المستخدمة في جميع مراحل الإنتاج الأخرى من نقل وتغليف، إلخ.
يضاف إلى ماسبق أننا حتى لو أخذنا المقاييس النقدية في تقييم علاقة مصر بالعالم، سنجد أن صادرتنا من البرتقال أو المنتجات الزراعية ككل على قدر أهميتها تجلب لنا موارد دولارية محدودة بالقياس لحاجاتنا من الاستيراد. حيث بلغ إجمالي صادراتنا الزراعية في 2020 2.2 مليار دولار وإجمالي قيمة صادرات مصر من البرتقال حوالي 650 مليون دولار. ولوضع هذا الرقم في سياقه الأوسع فمصر تستورد قمحًا بقيمة 5.2 مليار دولار سنويًا، أي أكثر من ضعف قيمة إجمالي الصادرات الزراعية وليس البرتقال فقط. وإذا نظرنا لما تستنزفه الديون الخارجية من مواردنا الدولارية سنجد أن صادرات البرتقال مجرد نقطة في بحر، فقد وصلت قيمة ديوننا الخارجية لأكثر من 145 مليار دولار خلال الأشهر الأخيرة.
وحتى هذا الرقم المتواضع نسبيًا من الصادرات الزراعية غالبًا لا يدخل كله الاقتصاد المصري بسبب بعض التلاعب المحاسبي الذي يؤدي إلى تحويل الأموال من الخارج بدون دخول الاقتصاديات المصدرة من الأساس. تبرز هذه الأرقام مدى محدودية العائد النقدي من الصادرات الزراعية، كما تكشف الطرق الجديدة في قياس التجارة حجم ما نهدره من موارد في سبيل هذه المكاسب النقدية المتواضعة.
وتفسر فرضية بريبش-سينجر الشهيرة المكاسب النقدية المتواضعة التي تجنيها مصر، والعالم النامي بصفة عامة، من صادرات المواد الخام، حيث تجادل بأن أسعار السلع الأولية (مثل البرتقال) تقل نسبة إلى السلع الثانوية (مثل المنتجات الصناعية) وذلك لأن السلع الثانوية تتمتع بمرونة أعلى من الدخل للطلب income elasticity of demand، أي كلما زادت الدخول كلما زاد الطلب على السلع الثانوية أكثر من السلع الأولية. ووجدت دراسة لصندوق النقد الدولي صادرة سنة 2013 تختبر فرضية بريبيش-سينجر عن طريق قياس أسعار 25 سلعة أولية على مدار عدة قرون، أن في أغلب الحالات وبالنسبة لأغلب السلع، لا يمكن دحض الفرضية.
الجانب الآخر من التبادل: حقنة رشيد
وبقدر ما تجسد اقتصاديات تصدير المواد الخام جزءًا مهمًا من العلاقة التجارية اللامتكافئة للجنوب مع الشمال، فإن "الملكية الفكرية" على النقيض تمثل واحدة من أدوات الشمال في استنزاف الجنوب، وهي الأداة التي نشعر بحضورها الطاغي في العديد من المجالات بمصر.
انتفضت وسائل التواصل الاجتماعي السنة الماضية لإنقاذ حياة الطفل رشيد المصاب بمرض نادر وهو ضمور العضلات الشوكي الذي يتطلب علاجه حقنة واحدة من دواء يسمى زولجنسما ثمنها أكثر من مليوني دولار من إنتاج شركة نوفارتيس العالمية للأدوية، وهو ما يعد أغلى علاج عرفته البشرية حتى هذه اللحظة. ونجحت بالفعل والدة رشيد في جمع المبلغ بعد قيادتها لحملة تبرعات ناجحة. تمثل قيمة الحقنة نحو ستة ملايين كيلو برتقال ما يستهلك نحو ثلاثة مليارات لتر من المياه؛ علاقة التبادل هذه متكافئة تمامًا من وجهة النظر المحاسبية.
تسمح قوانين الملكية الفكرية بشكلها الحالي بمثل هذه الممارسات التسعيرية المتطرفة، بحيث تسمح باحتكار شركات لإنتاج نوعية معينة من المنتجات عادة لمدة 20 عامًا بدون فرض أي قيود تنظيمية على التسعير. بالطبع حالة دواء زولجنسما هي حالة متطرفة لتوضيح النقطة، لكن بشكل عام تعتمد أسعار أغلب صادرات دول الشمال على مكون الملكية الفكرية وليس على مكون العمل أو الموارد، وتسمح منظومة حماية الملكية الفكرية القانونية بالممارسات الاحتكارية وبالتالي الحرية المطلقة في التسعير، على العكس من منتجات الجنوب التي عادة ما تكون تنافسية وغالبًا ما تواجه ضغوطًا كبيرة على السعر من قبل احتكارات التصنيع والتوزيع وبيع التجزئة.
وفقًا لبيانات مكتب براءات الاختراع الأوروبي، تعتمد 96% من صادرات الاتحاد الأوروبي في عام 2016 على حقوق الملكية الفكرية بشكل مكثف، في حين بلغ الفائض التجاري للمنتجات كثيفة الاستخدام لحقوق الملكية الفكرية IPR-intensive في الاتحاد الأوروبي 182 مليار يورو في العام ذاته رغم أن الاتحاد الأوروبي يعاني من عجز تجاري للمنتجات غير كثيفة الاستخدام لحقوق الملكية الفكرية، مثل المواد الخام.
أما في الولايات المتحدة، ففي عام 2018، فبلغ إجمالي عائدات الملكية الفكرية من حقوق استخدام العلامات التجارية royalties ورسوم التراخيص عبر الحدود 129 مليار دولار، في حين بلغت مدفوعات الولايات المتحدة إلى البلدان الأجنبية 56 مليار دولار، محققة فائض تجاري في هذا البند قدره 73 مليار دولار.
بعد عقود من معدلات مرتفعة من العجز التجاري المزمن، علمتنا النظرة المحاسبية النقدية أننا شعب مستهلك لا ينتج، والواقع يكاد يكون عكس ذلك تمامًا، فمعدلات الاستهلاك في مصر ضعيفة على الأقل مقارنة بدول الشمال. وصحيح أن معدلات الإنتاجية بالمقارنة بدول الشمال ضعيفة محاسبيًا، لكن جزءًا كبيرًا من هذا سببه الأنظمة القانونية وموازين القوة المرتبطة بالتسعير، كما أوضحنا فالإنتاجية تحسب بسعر ما أنتجه العامل وليس بكميته، وتخلق عالمًا نجد فيه طن البرتقال يساوي ثمن حذاءين رياضيين تقريبًا، تكمن أغلب قيمته في جوانب غير ملموسة مثل العلامة التجارية، وهي العملية التي حتى لو تم تعميتها بالإغراق والاستغراق في التعابير المحاسبية، تترجم لتبادل تجاري مادي شديد الاختلال.