حين يقول البعض، وأنا منهم، إن المنظومة الليبرالية الغربية أعلنت رسميًا عن انهيارها بعد 7 أكتوبر 2023، فهذا مجرد رصد وتقرير لواقع يفرض نفسه في السنوات العشر الأخيرة، لا بشرى أزفها أو نبوءة أتشفى بتحققها.
هذا خبر سيئ جدًا، لأنَّ هذه المنظومة التي تنهار بنيتها القيمية أمام أعيننا هذه الأيام، تترك خلفها فراغًا موحشًا ينذر بسيناريوهات كابوسية. لأن العولمة النيوليبرالية، إذا لم تنهَر لصالح عولمة بديلة؛ إنسانية وأممية واشتراكية وجامعة بالفعل، فهي فقط تفتح الطريق أمام صيغ أكثر أنانية وعصابية من المشروعات القومية والحماسات الهوياتية، التي في تطورها لن تُخلف إلا نهاية مشؤومة لعالمنا المعاصر؛ النهاية النووية.
أما المبشرون بـ"شرقٍ ما" وما أجهلهم وأكثرهم، فيتحدثون عن أقطاب بديلة؛ انتقامية أكثر منها تأسيسية، كما لو أنَّ العالم ومستقبله ليسا إلا مروية غضب من رجل أبيض، صار مريضًا بالفعل.
فالصين المعاصرة ليست إلا تيهًا يراوح بين أساسه النظري الماركسي، ورأسمالية دولة تناقض هذا الأساس يومًا تلو الآخر، لتفتح الباب أمام صراعات سياسية من نوع مختلف، وهي تهرب من هذه الأزمة بالاستثمار المحسوب جدًا في نزعة قومية قد لا تحتمل البشرية انفلات عقالها حال انفلتت. فالصين حتى الآن هي أمة "اشتراكية إنسانية"، وهذا عالم لا يعرف ولا يفهم ثمن أن تتحول إلى تنين قومي يريد الانتقام من الغرب الذي أذله لقرنين من الزمان وأغرقه في الأفيون والكآبة.
أما الهند، فتخلت عن ديمقراطية التحرر الوطني "النهروية" وراحت تستثمر في القومية الهندوسية حتى الثمالة، وأضحت تلهو باللعبة الطائفية الخطرة عبر حكم يميني أرعن، يدفع بمركباتها، لا سيما المسلمة، إلى حواف الصدام الكامل. الهند الآن تقدم إلى العالم نموذجًا للنمو الخطر وإدارة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية باستمراء واعتياد الكراهية والإبادة.
في حين أنَّ روسيا، حيث الدببة تقتل أصحابها أولًا، مع مجالها السوفيتي السابق، ليست إلا أممًا متعثرة التأسيس ترزح تحت حكم الأمر الواقع لعصابات مافيوية أمنية موروثة من العهد السوفيتي، أصبحت تهدد باستخدام السلاح النووي في كل لحظة ارتباك، وليس لديها مشروع سياسي له أفق معين على المستوى الداخلي أو العالمي، سوى استمرار حكم طغمها الأمنية وعصاباتها المحلية والدولية.
أزمة "الليبرالية الغربية" أزمة عالمية لا يمكن النظر إليها باعتبارها إشكالًا يعاني منه "الآخر"
المكونات الشرقية الكبرى الثلاثة تمتطي التنانين والدببة والأفيال، في مجاز عن شعوبهم الخاضعة، بحكمٍ لا يعدُ العالم بأيِّ نماذج قابلة للاستنساخ أو الاسترشاد. هذه الدول الشرقية الكبرى ليست إلا أزمات تقفز إلى الأمام هي الأخرى، وهي ليست استثناءً عن بقية مكونات الطور المعاصر من الرأسمالية.
ومن هنا فأزمة "الليبرالية الغربية" هي أزمة عالمية، لا يمكن النظر إليها باعتبارها إشكالًا يعاني منه "الآخر"، فالغرب لا يزال هو عقل وقلب هذا العالم، ولكنه قلب بلا روح وعقل بلا ضمير.
خيانة الليبرالية الغربية
غادر عالمنا منذ أيام المفكر والمناضل الماركسي الإيطالي أنطونيو نيجري (1933 - 2023)، مؤلف كتابي الإمبراطورية والجمهور، وهما أشهر أعماله، ألَّفهما بالمشاركة مع الماركسي الأمريكي مايكل هاردت عام 2000، وقدّما فيهما نقدًا مبكرًا للمنظومة النيوليبرالية المتعولمة ووضعا ما يُصوِّرانه أساسًا نظريًا لعالم يتجاوز الإمبريالية لطور جديد، أسموه الإمبراطورية.
كان نيجري واحدًا من المعاصرين القلائل الذين جمعوا بين العمل الفكري الجاد والممارسة السياسية الشجاعة؛ قائدًا ومفكرًا وبرلمانيًا، إذ أسس حركات مثل "قوة العمال" و"العامل المستقل". كانت له علاقة مفصلية بمنظمة الألوية الحمراء المسلحة، واتُّهم من قبل السلطات الإيطالية بأنه "Cattivo Maestro"، وهو مصطلح إيطالي يعني "المعلم السيئ"، في إشارة إلى دوره في صياغة غطاء فكري وأيديولوجي لحركات اليسار المسلح في إيطاليا.
لا أعلم الحالة الصحية والذهنية لنيجري في أيامه الأخيرة وقد تجاوز التسعين، وما إذا كان في حالة من الوعي والتركيز تسمح له بمتابعة ما يجري الآن في فلسطين أم لا. الحقيقة، كنت أتمنى معرفة رأيه في هذا المنعطف التاريخي الذي كشف عالمًا شديد الهشاشة، لم يحتمل رؤية سجن صغير اسمه غزة وهو يتمرد، فتحالف الكل لعقابه.
كلما كانت القوى أكثر جبروتًا كانت أكثر خوفًا وعصبية ورغبة في التنكيل بهذا السجن المتمرد، الذي أصاب نرجسيتهم بجروح نازفة، فشرعوا في الإبادة وفخخوا المجال الرقمي، وسمحوا لأنيابهم بالبروز العلني، وتورطوا مع ذيلهم الاستعماري حتى الثمالة.
ما تجهله الليبرالية الغربية في طور تآكلها، أنَّ الأصل في جاذبيتها لبعض مكونات شعوب العالم الثالث هو طبيعتها الإدماجية، التي تَعِدُ بعض المكونات والفئات الاجتماعية في هذه الدول بالالتحاق والعمل من خلال القطاعات المُدولة في اقتصادياتها الوطنية، وما يرافق ذلك من معايير وقيم ومفاهيم ذات طابع "عالمي".
نجح أيضًا "التعولم النيوليبرالي" في استيعاب اليسار عالميًا، وتجفيف منابعه الحركية والثقافية وحواضنه وحواريه، حيث تحل حضانات الأكاديميا ومؤسسات البحث محل مثقفي العموم المشتبكين، وتحل المنظمات الأهلية محل التنظيمات السياسية والنقابية. إحلالٌ لكل ما هو ثقافي محل كل ما هو سياسي، واعتبار جذرية التفكير جريمة ذهنية تُعرِّض صاحبها للإصابة بمرض السرطان الشمولي.
وفي هذا الصدد، وعلى مدى عقدين من الزمن، لم تقدم "الليبرالية الغربية" سوى خيانات تلو الأخرى لهذه القطاعات التي وثقت فيها وآمنت بمشروعها؛ من ليبراليين محليين يُتهمون الآن بمعاداة السامية، وشيوعيين سابقين اكتشفوا فجأة أنهم ديمقراطيون اجتماعيون، أو إسلاميون معتدلون يأملون أن يصبحوا عابرًا ثقافيًا داخل منظومة نيوليبرالية تتجاوز الدولة القومية.
البيجماليون ضد التنانين والدببة
جزءٌ رئيسيٌّ من "بجاحة" الليبرالية الغربية هو إعلان نفسها لكل هؤلاء في عالم ما بعد الاتحاد السوفيتي، بديلًا واحدًا وحيدًا لمستقبل البشرية. وفي هذه الواحدية، لم تبذل جهدًا لتطوير نفسها أو مراجعة تصوراتها، أو التصدي للأزمات الناتجة عن حكمها العالمي. بل على العكس، قدمت نفسها على أنها الجميل الذي يسعى إلى الأجمل والعظيم الذي سينجز الأعظم. بيجماليون، لكن بنسخة أكثر سوقية وابتذالًا؛ تحمل ألف رأس نووي، وتعطيك عروضًا لا يمكن رفضها لأنَّ البديل هو ما نراه الآن في غزة.
لم تسقط الليبرالية الغربية فقط بل أصبحت بيروقراطية وباهتة ومملة وبليدة
هذا البيجماليون الليبرالي مثلًا راح يناصر قضايا المرأة والمثليين والأقليات، وهو يستبطن بداهة حسم باقي أسئلة البشرية باعتبارها مجابة سلفًا بقوة انتصاره على الجثة السوفيتية. وراح يتعامل مع ما اعتبره إشكاليات معاصرة باعتبارها عناصر في قائمة تدقيق يظللها واحدة تلو الأخرى. هو لم يتعامل مع تلك القضايا إلا باعتبارها تعبيرًا عن الظفر والنصر التام لسياساته الاقتصادية والاجتماعية، التي لم تعد محل مساءلة أو نقد.
مثلًا، طُرح سؤال "تحرير المرأة" باعتباره سؤالًا تكميليًا لواقع افترض إنجاز تحرر الكتلة الأكبر من النساء بالفعل، وعليه فعلينا الانتقال إلى مهمة تمكين المثليين، التي بالتبعية سنتمكن في غضون سنتين أو ثلاثة من إنجازها لنقفز بعدها للعنصر التالي في قائمة التدقيق، فنرفع أعلام العابرين جنسيًا فوق المؤسسات الحكومية باعتبارهم الفئة الأكثر عرضة للاضطهاد من داخل المثليين.
وبينما تحتفل الليبرالية الغربية بحالة تمكين مستمر لمن تراهم عناصر مهمشة بغية الوصول إلى "اكتمال الحضارة"، راحت وهي تشاهد إبادة جماعية على الهواء مباشرة، تسأل نفسها ما إذا كان كل البشر متساوين أم أنَّ بعضهم أكثر مساواة من غيره.
لم تسقط الليبرالية الغربية فقط، بل أصبحت بيروقراطية وباهتة ومملة وبليدة. لم يبقَ لها سوى وعد من بعض "المطورين" بعالم ما بعد الإنسان، عالم يحل للإنسان مشكلة اغترابه عن عمله وعالمه، بمزيدٍ من العزلة والفردية والمخدرات والصوابية والخوف والخوارزمية.
أما الإشكال الكبير الذي يظل، فهو أنَّ الحرب تجري على جبهتين؛ واحدة ضد بيجماليون الليبرالي، والأخرى ضد التنانين والدببة.