"شبح يجول في أوروبا، إنه شبح الشيوعية"، هكذا استهل كارل ماركس البيان الشيوعي عام 1848، وقتها كان ربيع الأمم يُشعِل القارة، وتنتفض الشعوب من أجل تغيير كبير، لم تستطع بلورته خلال تلك الثورات. بشّر ماركس بالشيوعية وبثورة الطبقات العاملة التي ستُنهي الرأسمالية، لكنها لم تنتهِ بعد، لأن التحولات التاريخية الكبرى لا تتحقق بالضربة القاضية.
مر أكثر من 175 عامًا على بيان ماركس الأول، صحيح أنه لم تحل الشيوعية محلَّ الرأسمالية، لكن الرأسمالية نفسها دخلت في طورها المتأخر. أما شبح الشيوعية فلم يعد يسكن أوروبا أو يطاردها، ذلك أن الطبقات العاملة المنتجة للقيمة وفائضها لم تعد في القارة العجوز كما كانت قبل قرن ونصف القرن، بل أصبحت في الصين والهند وبنجلاديش وغيرها من دول آسيا، حيث مصانع العالم الحقيقية.
بالطبع هناك الكثير ممن يؤمنون بأننا نعيش ما بعد الحداثة وما بعد الرأسمالية وما بعد الإنسان وما قبل الموت والنهاية الحتمية لمشروع الجنس البشري، وأغلب هؤلاء يسكنون أوروبا، بعد أن صارت عجوزًا بحق. عجوز يؤمن كثير من مثقفيها المغرورين أن الإنتاج ينتج نفسه بنفسه، وأن الآلة في طريقها لتحل محل الإنسان بالكلية، وأنهم آخر إنسان يستحق أن يوجد بدافع الموت الذي صار عند كثير منهم حقًا على الحضارة الإنسانية.
هذا الغرور الضجر الكئيب هو ما يصوغ الوجدان الأوروبي المعاصر بمظاهره السياسية والثقافية، لم تعد الشيوعية الآملة في مصير يوتوبي للإنسان هي الشبح، بل صارت في أوروبا أشباح عدة تطارد جسدًا يشيخ يلاحقه الموت.
لقد صبر العالم كثيرًا على المركزية الأوروبية وفاءً لما قدمته لتاريخ الحداثة، أما وقد مرت عقود وعقود من الكسل السياسي والخيال الفقير والروح الآسنة، فثمة انكشاف حتمي للحم السادة السابقين، حيث لم يعد ممكنًا التعويل عليهم في إجابة أسئلة إنسان القرن الحادي والعشرين وتحدياته.
أشباح أوروبا الحالية هي أشباح من يريد البقاء بشروط لم تعد صالحةً للاستمرار، بينما ترى الزمن يمر فوق وجودها باستهانة تعاقب ذهنية الاستحقاق المدللة.
لم تعد لأوروبا القدرة الاستراتيجية للحفاظ على رفاهها المكتسب من بعد مشروع مارشال في أعقاب الحرب العالمية الثانية، الأجيال الحالية في أوروبا تتعامل مع هذا الرفاه ببداهة الحق الطبيعي الموروث، بينما يتغير العالم من حولهم ويتحول مئات الملايين في آسيا إلى عمال مهرة ومهنيين متفوقين قادرين على اكتساحهم في السوق المُعولم، ولأن المسألة مسألة وقت، يغرق الأوروبيون في عدمية نهاية الإنسانية باعتبارهم مركزها وتمثلها النهائي.
عجزٌ تاريخيٌ يمينيُّ الوجدان
في ظل أزمة اقتصادية عالمية ممتدة، أصبحت أوروبا بيمينها ويسارها في حيرة حقيقية، والمفتاح هو عجزها عن الحفاظ على رفاهها وسط شروط عالمية وداخلية متغيرة، تتنامى فيها مراكز رأسمالية جديدة تصعد من داخلها طبقات عاملة ومتوسطة تنافسهم بأسعار أقل. يحدث هذا في ظل مشاركة عمالة وافدة ومهاجرة للطبقات العاملة والوسطى الأوروبية في هذا الرفاه المتآكل باضطراد، وبالتزامن مع فقدان القارة العجوز تدريجيًا سطوتها الإمبريالية التي تسمح لها بضمان فوائض تعيد توزيعها بشكل يضمن استمرار صيغة عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، بشروطها السياسية الاقتصادية الاجتماعية.
ليس العرب أو المسلمون بل البولنديون هم من غيّروا خريطة سوق عمل الطبقة العاملة في بريطانيا
اليمين الأوروبي تافه وعاجز وأحمق، لا يملك في جعبته إلا صب اللعنات على اللاجئين والعمالة المهاجرة، تلك التي لا يستطيع البقاء بدونها لأنه يحتاج إلى رخص سلعة عملها وإلى شبابها وفتوتها.
الرأسمالية لا ترحم حتى سحرتها الأوائل المؤسسين، لقد كان أحد أهم مرتكزات خطاب اليمين الشعبوي في بريطانيا لدعوات الخروج من الاتحاد الأوروبي هو استيلاء العمالة البولندية الماهرة تحديدًا على قطاعات حرفية وصناعية، واستعدادها القبول بأجور أدنى من نظيرتها البريطانية، مقابل الكفاءة نفسها. ليس العرب أو المسلمون أو الأفارقة، بل البولنديون والشرق أوروبيون هم من غيّروا خريطة سوق عمل الطبقة العاملة البيضاء في بريطانيا.
الورقة الثانية عند اليمين الأوروبي ورقة تدمير ذاتي، تتمثل في الرهان على القوميات القُطرية وإعادة إحيائها في مواجهة المشروع الأوروبي بوصفه صيغة سيطرة ألمانية على القارة. تصف مارين لوبان، إيمانويل ماكرون، بأنه تابع لأنجيلا ميركل، ويراوح فاشيّو إيطاليا وهولندا بين سب المهاجرين وسب أوروبا كلها كوحدة، وكأن البريكست كان صيغة ناجحة جلبت الرخاء لبريطانيا. اليمين الأوروبي في الحقيقة لا يشكل خطرًا إلا على أوروبا نفسها، وعلى نفسه.
أما اليسار الأوروبي، فمشكلته عويصة، لأن لديه عقيدةً تتبلور سنة وراء سنة في عالم ما بعد أزمة 2008 المالية العالمية، عنوانها أولوية وقف زحف اليمين الفاشي، حتى ولو بالتحالف من موقع الذيل مع المؤسسات الرسمية التي سببت الأزمة التي صعد معها ذاك اليمين الفاشي.
هذه العقيدة عبّر عنها قولًا وضمنًا الطيف الأوسع من اليسار الأوروبي، بدءًا من انتهازيي يسار الوسط في كل بلد وحتى راديكاليون مخلصون مثل يانيس فاروفاكيس، ويرفع هذا التيار شعار الحفاظ على الديمقراطية من خطر يمين يريد تقويضها.
علمني الراحل محمد السيد سعيد أن الديمقراطية الأوروبية، كما نراها الآن، هي ابنة عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية ورفاهه وانضباطه المحكوم أمريكيًا بقوة الناتو، وأن ديمقراطية ما قبل الحرب شابتها خروقات وتجاوزات تصل إلى حد التزوير الفاضح في الانتخابات. فليس من المؤكد مثلًا النسبة التي حصل عليها الحزب النازي فعلًا في الجولات الانتخابية المختلفة التي انتهت بحكمه في الثلاثينيات، ونحن هنا نتكلم عن بلد عريق ومؤسسي بالفعل، فيما كانت بقية القارة تحت أشكال من الحكم الديكتاتوري المباشر وغير المباشر.
يسار أوروبي مأزوم باستحقاقات عقيدته
ما لا يدركه اليسار الأوروبي أن شرط الحفاظ على الديمقراطية كما يريدونها هو الحفاظ على الرفاه والاستقرار الاقتصادي والبحبوحة المعيشية. أما ما يدركه ويرفض الاعتراف به، أن ماكينة النيوليبرالية العالمية لا يمكن مقاومتها إلا عالميًا، وفي إطار حركة أممية ستستفيد منها أولًا دول الجنوب وطبقاتها العاملة. أممية يجب أن تعيد الحسابات والأنصبة التنموية على نحو أكثر عدالة، على نحو يُفقِد أوروبا نفسها كثيرًا من الامتيازات التي تحوزها بحكم موقعها في الطوابق الإمبريالية العليا من ناطحة السحاب الرأسمالية.
المراوحة اليائسة وأنماط التصويت العقابي العصبي أصبحا سمة التعبير السياسي الشعبي عبر صناديق الاقتراع
يدرك اليسار الأوروبي هذه الأزمة جيدًا، لذا ليس لديه ما يقوله إلا التخويف المستمر من زحف اليمين الحتمي على مواقع السلطة الأوروبية. يعرف الجميع في فرنسا مثلًا أن كل هزيمة لليمين الفاشي بغرض وقف زحفه هي انتصار مؤجل له، فاليمين الأوروبي أكثر تعبيرًا عن الأزمة البنيوية الأوروبية من يساره. أوروبا المحكومة بدافع الموت في تصورات يسارها ما بعد الحداثي لا يمكن لها إلا أن تُعبِّر عن نفسها يمينيًا، فاليمين هو الأكثر إخلاصًا في تنفيذ هذه المهمة، أما اليسار فعليه مواجهة تناقضات موقعه التاريخي في دول تقتات على استغلال البشر، وهو يواجه حتمية الحل الأممي الذي سينتقص وبشدة من مفردات الحياة التي يعرفها.
الديمقراطية التمثيلية التي تحاول قطاعات من اليسار الأوروبي الحفاظ عليها تُعبِّر عن أزمتها في كل استحقاق سياسي مهم. تصعد حركات شعبوية إعلامية مثل النجوم الخمسة في إيطاليا وتحصل على أكثرية لتختفي بعد عدة أعوام، أما بريطانيا العريقة فيخسر فيها حزب العمال مقاعده في مجلس العموم في الانتخابات الماضية ويحقق نتيجة هي الأقل خلال قرن من الزمان، وفي الانتخابات التالية يحقق حزب المحافظين أقل مقاعد في تاريخه.
هذه المراوحة اليائسة وأنماط التصويت العقابي العصبي أصبحا سمة التعبير السياسي الشعبي عبر صناديق الاقتراع. لا أحد يملك حلولًا، يأتي يمين ليحل محله يسار، وكل الأجندات تتشابه في جوهر ممارساتها، بشكل سينتهي إلى ممارسة سياسية غير مؤسساتية عنوانها هو الصدام الأهلي الذي سينتهي حتمًا إلى صيغة راديكالية ما. وهنا على اليسار الأوروبي أن يدرك أنه لن يتمكن عمليًا وموضوعيًا من الحفاظ على ما يريد الحفاظ عليه، طالما أن حدود مشروعه هو إبقاء الوضع على ما هو عليه.
تستيقظ أوروبا كل يوم وفي رأسها صرير يذكرها بأنها لم تعد بهذه الأهمية، لم تعد مركز الكون التي إن اندلعت فيها حرب ستصبح حربًا عالميةً. فقدت أوروبا إلهامها الفكري وتجبّرها الاستعماري، والعناصر التي تُشكِّل في امتزاجها سبيكة العقل والقوة والتقدم والإبادة.
تفقد فرنسا مجالها الاستعماري في إفريقيا دون أن تدرك أن ثمن إمبرياليتها الإدماجية هو مشاركة سكان تلك المستعمرات للفرنسيين فرنسيتهم، طال الزمان أو قصر. وتتحول بريطانيا إلى قوّاد مالي عالمي يؤطّر الجرائم المالية في الوقت الذي تفقد فيه عقلانيتها وبرودها الأنجلوساكسوني الذي طالما ميزها. في حين لا تزال ألمانيا عالقةً في كوابيس وترومات هتلريتها، ومنها حلم السيطرة على القارة وإدارتها بالسلم بعد أن حاولت حكمها بالقوة في حربين عالميتين، انتهت الأولى بهزيمة مذلة، والثانية باحتلالها عسكريًا.
لذا فلا اليسار الأوروبي يمتلك حلولًا لنا أو لنفسه، ولا اليمين الأوروبي يمتلك أبعد من القدرة على إيذاء نفسه، ولو نظرنا إلى العالم بمنظور يحتقر المركزية الأوروبية ويتجاوزها، لربما أدركنا أن اليمين الهندي أكثر خطورةً على البشرية والكوكب من كل أشكال جنون اليمين الأوروبي مجتمعة إذا ما تمكنت. فحكم مودي وبهاراتيا جاناتا في الهند، النيوليبرالي القومي الإبادي، يحتاج مزيدًا من الاهتمام من تُفَّهٍ مثل جورجيا ميلوني في إيطاليا أو خيرت فيلدرز في هولندا.
لسنا في ثلاثينيات القرن العشرين، وأوروبا لم تعد مركز العالم.