أوضحت في المقال السابق أن فترة حكم عدنان مندريس بين 1950 و1960 هي التي شكلت الملامح الرئيسية لتيار يمين الوسط التركي. وأن الفترة التي تلت انقلاب 1960، أنتجت نوعًا من الانفتاح السياسي أسهمَ في تشكيل التيارات اليمينية واليسارية الراديكالية على السواء، وأعادت صياغة حزب الشعب الجمهوري كحزب ليسار الوسط.
لكن يظل انقلاب 1980 الدموي هو الأساس الذي شكل، بالعنف وبالتدريج، ملامح عالم السياسة التركية المعاصرة، فبسببه اختفت تيارات سياسية، ومن داخل حكمه أعيد تشكيل المشهد السياسي وأحزابه بصيغ جديدة، تخضع في حركتها لخطوط حمراء مختلفة. ومن داخل تلك المساحات الضيقة، وتعثرها، ظهر رجب طيب إردوغان كسياسي استثنائي في تاريخ تركيا.
سياقات الانقلاب الأعنف
لا يمكن فصل الانقلاب العسكري الدموي، الذي قاده رئيس الأركان التركي كنعان إيفرين، عن مجمل السياق الإقليمي والدولي وقتها، حيث شهد حزام الشرق الأدنى الآسيوي حالة من التغيير السياسي العنيف. وفي ربيع عام 1977 استولى "جناح خلق"، الأكثر تطرفًا داخل حزب الشعب الديمقراطي الشيوعي، على السلطة في أفغانستان بانقلاب عسكري. وتزامن ذلك مع بدء الانتفاضة الشعبية الإيرانية، التي تحولت إلى ثورة كاملة بنهاية عام 1978، وسقوط نظام الشاه محمد رضا بهلوي في فبراير/شباط عام 1979.
خشت الولايات المتحدة من انتقال العدوى الثورية إلى تركيا
وعلى الرغم من أن السياسة "المعلنة" للولايات المتحدة كانت دائمًا ما تُدين الانقلابات العسكرية، فإن أمريكا السبعينيات كانت مفتوحة الشهية لكثير منها. سواء بالاعتراف، أو حتى بالدعم والتخطيط المسبق، كما ظهر جليًا من فضيحة دعم انقلاب الجنرال أوجستو بينوشيه في تشيلي 1973.
وإزاء اتضاح المشهد في أفغانستان من جهة، وضبابتيه الشديدة في إيران من جهة أخرى، خلال السنة الأولى من الثورة تحت حكم تحالف ثوري واسع الطيف بقيادة آية الله الخميني، أعطت الولايات المتحدة ضوءًا أخضر بعدم ممانعتها لقيام انقلابات عسكرية عنيفة في باكستان وتركيا.
وفي يوليو/تموز 1977، وبعد أشهر قليلة من استيلاء الشيوعيين على السلطة في أفغانستان، وقع انقلاب عسكري في جارتها باكستان، بقيادة الجنرال الإسلامي اليميني محمد ضياء الحق، وعلى أثره أُعدم رئيس الوزراء المنتخب ذو الفقار علي بوتو عام 1979.
أما في تركيا، فلم يكن من الممكن التواطؤ على انقلاب عسكري داخل إحدى دول حلف الناتو، إلا في ضوء ارتباك شديد أصاب السياسة الخارجية الأمريكية في أعقاب سقوط شاه إيران، ثاني أهم حلفائها في الشرق الأوسط بعد إسرائيل.
خشت الولايات المتحدة من انتقال العدوى الثورية إلى تركيا، خاصة وأن والمزاج الطلابي والحركي فيها كان أكثر يسارية في ضوء التطورات على الأرض منذ بداية السبعينيات، سواء على مستوى الموقف العدائي من الولايات المتحدة وإسرائيل، أو على مستوى رؤية ذلك اليسار لشكل الحكم في تركيا وسبل تغييره بالعنف.
مسار تبرير الانقلاب
شهد النصف الثاني من السبعينيات عنفًا مفتوحًا في شوارع المدن التركية بين القوى اليسارية المسلحة، التي كان من أبرزها منظمتي الشباب الثوري والطريق الثوري، وبين منظمة الذئاب الرمادية الفاشية المدعومة من الأجهزة الأمنية التركية.
على مدار عقد كامل تم اجتثاث اليسار التركي بعدما ناله النصيب الأكبر من قمع الانقلاب
تجلى الصراع بشكل ملحمي في احتفالات عيد العمال عام 1977، حيث نظّم العمال واليساريون الأتراك مظاهرة كبيرة في ميدان تقسيم، قُدر عددها بنصف مليون مشارك، وانتهت بفوضى عارمة أفضت إلى وفاة 37 شخصًا وإصابة المئات. وتعددت الروايات، فمنها ما عزا الحادث إلى هجوم الفاشيين المسلَّح على ذيل المظاهرة فحدث تدافع ودهس، ومنها ما أرجع الوفيات إلى صدام الشرطة مع المتظاهرين على خلفية سماع إطلاق نار من داخل المنصة الرئيسية للاعتصام.
في تلك الأجواء، كان المجال السياسي الرسمي التركي في حالة من الشلل والشعور بالعجز. حتى أن رئيس الوزراء بولنت أجاويد قال وقتها إنه لا يحكم أجهزة دولته وفقًا لسلطاته الشرعية. وكان ذلك إثر تغلغل عناصر حزب الحركة القومية ومنظمة الذئاب الرمادية الفاشية داخل أجهزة الأمن والشرطة.
ظل الجيش يراقب الوضع منذ بداية عام 1979، ويترقب اللحظة المناسبة للانقضاض. إلى أن قرر في سبتمبر/أيلول من عام 1980 الانقلاب رسميًا، ولمدة ثلاث سنوات، تغيرت خلالها الكثير من توازنات القوى على الأرض.
وعلى مدار عقد كامل تم اجتثاث اليسار التركي بعدما ناله النصيب الأكبر من قمع الانقلاب الذي أفضى إلى اعتقال ما يربو على 650 ألف مواطن، حوكم منهم 230 ألفًا، وحكم بإعدام 517 تم إعدام 50 منهم، فضلًا عن المقتولين خارج القانون، وآلاف المختفين قسريًا، بينما تم تجريد 14 ألف مواطن من الجنسية، إلى جانب تعرض مئات الآلاف للتعذيب. وفي المحصلة النهائية، تم وضع مليون وستمئة ألف مواطن على القوائم السوداء.
مسار نهاية اليسار
في أواخر الستينيات تدرب أعضاء من منظمة الشباب الثوري على العمل المسلح في الأردن على يد منظمة التحرير الفلسطينية، وهاجموا في ديسمبر/كانون الأول عام 1970 السفارة الأمريكية في أنقرة، وبعدها بشهور اختطفوا جنديًا أمريكيًا بالقرب من إحدى قواعد حلف الأطلنطي.
كان ماهر كايان شابًا متبصرًا بشأن ما سوف يُطلق عليه لاحقًا السياسات النيوليبرالية
وترتب على ذلك القبض على القائد الطلابي الشيوعي دينيز جيشمش، والحكم بإعدامه وثلاثة من رفاقه. دفع ذلك منظمة يسارية أخرى بقيادة ماهر كايان، في محاولة منهم لمنع تنفيذ حكم الإعدام في المتهمين، إلى اختطاف ثلاثة فنيين عسكريين أمريكيين، ليُقتل كايان وعدد من رفاقه بصحبة المختطفين بعدها بأيام، ويُنفذ حكم الإعدام في جيشمش ورفاقه، الذين تحولوا إلى أبطال شعبيين في نظر قطاعات من الشعب التركي.
كان ماهر كايان، على الرغم من حداثة سنه، منظّرًا فكريًا لقطاع من اليسار التركي. وكان طوّر نظرية أسماها "التوازن المصطنع"، التي اعتبرت تركيا خاضعة للإمبريالية الأمريكية منذ عام 1946، عبر حكم طغم وعصابات رأسمالية محلية، تحكم تدفق رأس المال وتحوله داخليًا وخارجيًا، على نحو يتوازى فيه اتساع السوق الرأسمالي المحلي مع قدر من الرفاهة النسبية لفئات وسطى محظوظة في المجتمع، بما يجعل تناقض الجماهير مع الاستعمار والسلطة أقل إلحاحًا.
ويبدو هنا أن ماهر كايان، الذي لم يتجاوز الثلاثين في بداية سبعينيات القرن العشرين، كان شابًا متبصرًا بشأن ما سوف يُطلق عليه لاحقًا السياسات النيوليبرالية.
كان اليسار التركي من أكثر تيارات اليسار في المنطقة تطرفًا وجذرية وشعبية في الوقت ذاته، مما جعل استئصاله عملية شديدة العنف، كلّفت الحياة السياسية التركية الكثير من التعطل والجمود لما يقارب الخمسة عشر عامًا.
عادت الحياة السياسية، نظريًا، عام 1983. وكانت مكبلة وموصومة بدعم الانقلاب أو السكوت عنه وعلى نتائجه العنيفة. الأمر الذي حول المجال السياسي التركي، وأحزابه، إلى أحزاب إدارية رموزها من التكنوقراط الفنيين الذين يتحسسون بحذر خطواتهم مع المؤسسة العسكرية.
من وسط القمع وسياسة الاستئصال، تحصن ما تبقى من اليسار الراديكالي التركي بجبال كردستان. وأعلن حزب العمال الكردستاني عن بدء العصيان المسلح الكامل عام 1984، ليحسم في تلك الملابسات سؤالًا كان طُرح منذ بداية السبعينيات، حول الأولويات السياسية لتيارات اليسار التركي، وموقع المسألة الكردية داخل مجمل تصوراته.
وهو السؤال الذي تحول تدريجيًا، وخاصة بعد انقلاب كنعان إيفيرين، إلى القضية المركزية لليسار. فبعدما كانت المسألة الكردية هي إحدى قضايا المساواة والمواطنة على أجندة المجتمع الاشتراكي المنشود في تركيا، تحول اليسار التركي فعليًا إلى غطاء أيديولوجي وأخلاقي للنزعات القومية الكردية.
عملية الاجتثاث الكامل لليسار في تركيا، التي ترافق معها محاصرته داخل مربع دعم القضية الكردية، سهلت إخراجه من العملية السياسية التركية، بالمعنى الاستراتيجي للكلمة. فالأكراد في النهاية أقلية عددية، حتى ولو لهم كتلة وازنة في العملية الانتخابية. وفي الوقت ذاته، عزز وصم اليسار "بالعمالة الكردية" من فرض العزلة عليه من التيارات القومية التركية، وسهل من تشويهه وسط قطاعات من الجماهير الشعبية التركية، التي تشكل العصبية القومية جزءًا من ميلها السياسي.