في مقالين سابقين، تطرقت إلى كيف أن رجب طيب إردوغان هو في الإجمال ابن شرعي لمشروع الجمهورية التركية التي أسسها مصطفى كمال قبل مئة عام. والأمر لا ينطبق على إردوغان وحده، فكل المكونات السياسية التركية المعاصرة تتشارك في الملامح نفسها، جميعها ناتجة عن تفاعلات الحركة الوطنية القومية التركية منذ بدايات القرن العشرين؛ فهي إما مستولدة من مبادئها أو ناشئة من داخل عالمها.
والقوى القومية الفاشية، والكمالية الدولتية، والاشتراكية الديمقراطية، والمحافظة القومية الدينية، والليبرالية، جميعها بصيغة أو بأخرى نتاج أو انشقاق من داخل تجربة حزب الشعب الجمهوري الأول، الذي تأسس في العشرينيات.
أما القوى الأكثر راديكالية، مثل الإسلاميين والشيوعيين، وكذا باقي القوى التي لها موقف جذري من تجربة أتاتورك بالمجمل، فهم أيضًا أبناء لذلك العالم الكمالي وأسرى لحدوده وتخوم رؤيته، لأنهم نشأوا من داخل شروطه المادية والواقع الذي أرساه بكل تفاعلاته ونتائجه.
تزامن تأسيس الجمهورية التركية مع امتلاك مصطفى كمال لشرعية الفاتح وغلظة قبضته في الوقت ذاته. لم يستغرق الأمر سوى أعوام قليلة حتى أصبح حزب الشعب الجمهوري هو الحزب الوحيد في البلاد. خاصة بعد القمع الدموي لانتفاضة الشيخ سعيد الكردية عام 1925، التي رافقها حظر واجتثاث الحزب الشيوعي التركي، الذي عانى قبلها بسنوات قليلة من تصفية قائده مصطفى صبحي، هو وعدد من رفاقه. وكذلك حظر الحزب الجمهوري التقدمي، وكان أبرز أحزاب المعارضة وذو توجهات ليبرالية، بعد اتهامه بأنه أداه في يد الرجعية الإسلامية السلطانية!
يحتاج استيعاب مستوى القمع السياسي في المرحلة الأولى من الكمالية إلى ضرب أمثلة إيضاحية فجة، فشخصية محورية في تاريخ الأدب والثقافة العالمية بوزن ناظم حكمت، وهو رجل بمكانة ومقام نجيب محفوظ عندنا، حُكم عليه بالسجن ثمانية وعشرين سنةً عقابًا له على قناعاته الشيوعية وجرأته السياسية والحركية، قضى منها ثلاثة عشر في السجن، وبقية حياته في المنفى.
الكماليون ينقسمون
تأسست الجمهورية في مطلع العشرينيات بصيغة حكم الحزب الواحد، وتطلب الأمر قرابة ربع القرن لحلحلة الوضع السياسي نحو قدر محسوب من التعددية، اتسم بالتدريجية والبطء، وارتبطت ملابساته بعدد من التطورات المرحلية الناتجة عن عدة شروط، بعضها داخلي والآخر خارجي.
مع انحياز تركيا للمعسكر الأمريكي بعد الحرب، أصبح عليها الالتزام ببعض الإصلاحات الديموقراطية
أحد أهم الشروط الداخلية كان سياسات وممارسات مرحلة حكم عصمت أينونو، خليفة مصطفى كمال، التي اتسمت بتكلس بيروقراطية ورأسمالية الدولة ذات الملامح العسكرية، واستقرار مصالحها لحدود الفساد الممنهج. وتزامن معها تراجع في المكون الاجتماعي والخطاب المساواتي للدولة لصالح المزيد من نعرات القومية إلى حدود الهوس. في هذه الفترة ازدهرت النزعة الطورانية، وخطابات تعتبر تركيا أصل البشرية كلها، وذلك على الرغم من ترجيح البعض أن عصمت باشا نفسه أصوله كردية.
استمرار واستمراء هذا الوضع تحت السلطة المنفردة لحزب الشعب الجمهوري عزز من ضيق وتململ قطاعات من البرجوازية التركية وقطاعات أوسع من الشعب البسيط، مما فتح الباب تدريجيًا للمطالبة بالتعددية من داخل الحزب نفسه.
لكن العامل الدولي كان له الأثر الواضح في عملية التحول التدريجي. في عالم عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين لم تكن صيغة حكم الحزب الواحد استثناءـ فهذا عالم إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية وإسبانيا العسكرية وروسيا السوفيتية. لم يكن في ذلك العالم ديموقراطيات بالمعنى المتعارف عليه حاليًا إلا الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بشكل نسبي.
خلال هذه الفترة، وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، ورغم ارتباط مصالح تركيا بالمعسكر الغربي، فهذا الارتباط لم يكن كاملًا أو رسميًا، مما مكَّن تركيا مثلًا من اتخاذ موقف الحياد في الحرب ضد ألمانيا، وهو موقف نادر جدًا وحساس في ضوء الأهمية الاستراتيجية والمركزية لجغرافيا تركيا.
لكن الأمر اختلف مع نهاية الحرب، وبداية الحرب الباردة بين الأمريكان والسوفيت. وخلافًا للرؤية الوفدية المصرية التي كانت تكافح الاستعمار البريطاني وتسعى للاستقلال الكامل بشكل كوّن لديها حساسية شديدة ضد الأحلاف الدولية، وهي الحساسية التي استمرت مع العهد الناصري، كانت الرؤية التركية الرسمية على النقيض.
فتركيا دولة حدود مع الاتحاد السوفيتي، وكانت تعتبر تمدد الشيوعية خطًا أحمر. لذا كان عليها الانضمام للمعسكر الأمريكي بحسم ووضوح بعد الحرب، فلم يمر على إعلان تأسيس حلف شمال الأطلنطي عامين حتى أصبحت عضوًا كاملًا فيه عام 1952.
مع انحياز تركيا للمعسكر الأمريكي مباشرة بعد نهاية الحرب، أصبح عليها الالتزام ببعض الإصلاحات الديموقراطية، وبقدر من التعددية المحسوبة. وهذا ما فهمه بعض قادة حزب الشعب الجمهوري أنفسهم.
تقدم أربعة من قادة الحزب وأعضاء البرلمان، أبرزهم عدنان مندريس وجلال بايار بطلب إلى الجمعية الوطنية عام 1945 للسماح بالتعددية الحزبية. ومع رفض طلبهم فقد انشقوا بعد عام، وأسسوا الحزب الديموقراطي التركي ذو النزعة الليبرالية اقتصاديًا والمحافظة اجتماعيًا.
اليمين المحافظ يرسم ملامح المشهد
ولأن تركيا كانت غير معتادة على الممارسات التعددية، كانت النتائج الأولى للانفتاح الديموقراطي مفاجئة للجميع. نجح الحزب الديموقراطي الجديد في قلب الطاولة عام 1950، والفور بـ 55% من أصوات الأتراك في أول انتخابات حرة. ولكن المفاجأة الأكبر كانت في تسليمهم السلطة سلميًا من قبل الرئيس القوي، ذو الخلفية العسكرية وأحد مؤسسي الدولة، عصمت أينونو، الذي قبل بموقع زعيم المعارضة في البرلمان.
عشر سنوات حكمها الحزب الديموقراطي التركي، انتهت بالانقلاب العسكري الأول عام 1960، الذي كان أكثر تداعياته عنفًا هو إعدام رئيس الوزراء عدنان مندريس نفسه. خلالها، بدأت ملامح الحياة السياسية البدائية تتشكل في تركيا.
كان انقلاب 1960 بداية لتشكيل حياة سياسية جديدة أكثر تنوعًا وانفتاحًا
قام الكماليون اليمينيون بتنظيم أنفسهم أولًا، وتشكيل صيغة ليبرالية اقتصاديًا محافظة اجتماعيًا، جذبوا بها البرجوازية التركية الساخطة على سيادة المكون الدولتي العسكري على الاقتصاد، وعلى أصوات الكتل المحافظة اجتماعيًا في الأناضول. وهي الصيغة التي شكلت يمين الوسط التركي، والتي سيشغلها لاحقًا، بعد عقود، رجب طيب إردوغان بذكاء شديد، بعد أن أضاف إليها كتلًا اجتماعية وثقافية أكثر تنوعًا.
لكن لأن مرحلة مندريس كانت في مهد التحول التعددي، كانت ممارسات مندريس نفسه في أواخر سنين حكمه، قبل الانقلاب، ذات ملامح سلطوية وعصبية الطابع. حيث أفضى الاستثمار في الخطابات القومية والعدائية الثقافية إلى مذبحة كبيرة ضد ما تبقى من الأقلية اليونانية في إسطنبول. وهي المذبحة التي اتُخذت ذريعة لإدانة مندريس لاحقًا وإعدامه.
كذلك كانت سياساته الاقتصادية في سنواته الأخيرة غير عابئة بأثرها الاجتماعي على فقراء المدن الكبيرة، ولا سيما إسطنبول، ووصلت إلى حد إزالة أحياء فقيرة بكاملها دون أي تعويض لسكانها بعد تشريدهم. كل هذا تم اتخاذه تكئة من بعض المركبات العسكرية للقيام بالانقلاب الأول عام 1960، الذي انقسم الناس بشأنه، وقبل بنتائجه حزب الشعب الجمهوري المعارض في خيانة للعملية الديموقراطية.
لكن هذا الانقلاب ذاته كان بداية لتشكيل حياة سياسية جديدة أكثر تنوعًا وانفتاحًا، إذ فتح الباب لقوى أكثر يمينية ويسارية للحضور على المشهد السياسي، سواء كان ذلك بشكل شرعي وحزبي أو كأمر واقع، بحكم الثقل الجماهيري الذي استفاد من الانفتاح الحرياتي النسبي مع بداية الستينيات.
بزوغ القوى الراديكالية المسلحة
أنتج المشهد الستيني التركي عدة تموضعات سياسية وسطية وراديكالية، فأعادت الرموز والقوى الاجتماعية التي كان يعبر عنها الحزب الديموقراطي التركي المنحل صياغته بشكل جديد واسم جديد بعد الانقلاب؛ وهو حزب العدالة. ولمع في قيادته سليمان ديميريل، أحد أبرز الساسة الأتراك في القرن العشرين، الذي شكَّل الحكومة عدة مرات خلال عقود الستينيات والسبعينيات والتسعينيات.
في المقابل، ونتيجة قدرة يمين الوسط التركي على إعادة تشكيل نفسه وتصدر المشهد السياسي رغم الانقلاب العسكري ضده، أعاد حزب الشعب الجمهوري موضعة نفسه في موقع يسار الوسط، خاصة تحت القيادة الشابة لـ بولنت أجاويد الذي انضم إلى الاشتراكية الدولية، واعتبر أن الحزب الكمالي المؤسس انحرف عن خطه الاجتماعي الشعبي تحت قيادة عصمت إينونو.
كان ذلك هو المشهد الوسطي الرسمي ذو العقيدة الكمالية، والمنبثق من داخل حزب الشعب الجمهوري نفسه وكوادره، في أعقاب انقلاب 1960.
لكن المشهد الراديكالي كان أكثر ازدهارًا، ففي مطلع الستينيات أسس ألب أرسلان توركش حزب الحركة القومية الفاشي، وتزعم بشكل غير رسمي ميليشا "الذئاب الرمادية" المسلحة، والمعادية للشيوعية والمدعومة أمريكيًا.
وفي المقابل، بدأ اليسار اتخاذ تكتيكات أكثر راديكالية وعنفًا، فأسس تنظيم جيش التحرير الشعبي بقيادة رموز مثل دينيز جيشمش وماهر كايان، واتخذ اليسار خطا معاديا لوجود حلف شمال الأطلنطي في تركيا، واعتبر أن تركيا فى مرحلة تحرر وطني ضد رأسمالية تابعة وعميلة للاستعمار الأمريكي.
وبين تلك القوى الراديكالية المسلحة التي شكلت طرفي النقيض للمشهد السياسي الشعبي، خاصة في السبعينيات، برز الإخوان المسلمون كقوى صاعدة أقل تطرفًا وأقرب إلى المؤسسة الرسمية.
بزغ اسم نجم الدين أربكان، الذي يشتهر عندنا بكونه زعيم إخوان تركيا، ولكنه كان أيضًا رئيسًا لاتحاد الغرف الصناعية، وممثلًا للبرجوازية المتوسطة في الأناضول تحديدًا، وقام بتشكيل حزب النظام الوطني، ثم حزب السلامة الوطني الذي شارك حزب الشعب الجمهوري في تشكيل الحكومة عام 1974. وكان أربكان فيها نائبًا لرئيس الوزراء بولنت أجاويد.
بمعنى من المعاني، أنتج انقلاب 1960 انفتاحًا سياسيًا أسهم في تشكيل ملامح القوى السياسية التركية، التي كانت أغلبها قبل هذا التاريخ مجرد أصوات داخل حزب الشعب الجمهوري. إلا أن ذلك المشهد أنتج كذلك فوضى سياسية لافتة في الوقت ذاته. لأن القوى الراديكالية غير المؤمنة بالديموقراطية كان لها نصيب كبير من الشعبية في الشارع، فكانت صاحبة الكلمة العليا في تشكيل الحالة السياسية التركية، حتى ولو من خارجها.
وهو الأمر الذي استمر حتى انقلاب 1980 العسكري، الذي كان الأكثر دموية وبشاعة وأثرًا، على النحو الذي أسس لعالم جديد، تم استئصال اليسار التركي منه بمنتهى العنف، وأعاد تشكيل صيغة ومعنى وجود القوى الإسلامية بشكل جديد يستجيب لهذا الاجتثاث التاريخي لليسار.