التعليق السياسي على الشأن التركي أمر شديد الصعوبة قياسًا بقوى إقليمية أخرى غير عربية، مثل إيران أو إسرائيل. المسألة التركية في وعينا الحديث كانت، ولا تزال، محمولة على جملة من الالتباسات والصور النمطية المتوارثة عبر مئة عام ويزيد، ومشحونة بكتل متراكمة من العواطف السلبية والإيجابية أغلبها متطرف.
ويمكننا المجازفة بالقول إن جزءًا أساسيًا من صياغة التصورات الحديثة لدولنا العربية، ولتركيا نفسها، تم تأسيسه استنادًا إلى تلك الالتباسات، على نحو خلق قطيعة طويلة راكمت تلالًا من سوء الفهم المتبادل وجروحًا عميقة وقديمة لم تُداوَ حتى الآن.
صاحب عملية التأسيس العربي والتركي قرارًا متبادلًا بقطيعة أشبه بالطلاق العاطفي
تأسست الجمهورية التركية ومعها معظم الدول العربية، مَلكية كانت أم جمهورية، على ركام الدولة العثمانية التي ظلت تتآكل على مدى قرن من الزمان، بدءًا من عشرينيات القرن التاسع عشر وحتى عشرينيات القرن العشرين. أما الغوص في تفاصيل التاريخ العثماني الذي أفضى إلى تلك النتيجة، فليس مجال هذا المقال لأنه يحتاج إلى جهود و كتابات أكثر تفصيلًا.
طلاق شرقي أصيل
كان الطرفان نتاجًا لكارثة جيو استراتيجية كبيرة واستثنائية، فالدولة العثمانية على ضعفها وبؤسها كانت ركنًا أساسيًا في مصفوفة توازنات القوى العالمية. ولم يكن عالم القرن العشرين، الذى تأسس على نتائج الحرب العالمية الأولى، إلا عالمًا زال من على وجهه كيانان إمبراطوريان كبيران، وهما الدولة العثمانية والدولة النمساوية–المجرية.
وبالكاد نجت الإمبراطورية الروسية بعد تأسيس الاتحاد السوفيتي، الذى أعاد صياغة الوجود الإمبراطوري الروسي في قالب جديد حفظ له وجودًا امتد حتى أواخر القرن العشرين. أما الإمبراطورية الألمانية، فسقطت لتفتح الباب إلى جمهورية فايمار، ثم العهد النازى، نهاية بالاحتلال التام بعد الحرب العالمية الثانية.
وفي خضم تلك التحولات الكبرى، صاحب عملية التأسيس العربي والتركي قرارًا متبادلًا بقطيعة أشبه بالطلاق العاطفي. وكحال أي طلاق شرقي، كان تمزيق الملابس واللكمات والشتائم جزء لا يتجزأ من مفردات أحداثه.
لكن بعد الصراع القاسي والمحتدم الذي يصاحب الطلاق، يقرر الطرفان نسيان بعضهما بعضًا لفترة كي يؤسس كل منهما لاحقًا روايته الخاصة عن العلاقة وعن الانفصال وسياقه. وسيؤكد كل منهما مظلوميته، وظلم الآخر، ومسؤولية ذلك الآخر عن تدهور العلاقة، وعدم سلامة مسارها، وربما عدم صحة الارتباط من الأصل.
رأى العرب أن الأتراك، كورثة موضوعيين للعثمانيين، هم المسؤولون عن تخلفهم المديد، وأنهم السبب في مجيء الاستعمار الأوروبي وأن استبدادهم واستعلائهم واستغلالهم الجائر لثروات العرب هو مفتاح تأخر المنطقة كلها عن ركب التقدم.
على الجانب الآخر، قرر الأتراك أن العرب متخلفون من الأصل، ولا أمل أو رجاء فيهم، وهم محض عبء حضاري يجب التخلص من إرثه وحمولاته، بل وأنهم أيضًا خونة طعنوهم في الظهر مرتين: مرة حين غزاهم إبراهيم باشا بقيادة جيش الفلاحين المصريين المدعوم تقنيًا من الفرنسيين، ومرة أخرى حين تحالف الشريف حسين حاكم الحجاز مع الإنجليز أثناء الحرب العالمية الأولى.
من هذا المدخل اتخذ الطرفان قرارًا بالقطيعة منذ أواخر الربع الأول من القرن العشرين. وهي قطيعة رافقتها رغبة مشتركة في عدم الفهم المتبادل، وتأسيس أساطير تعزز وتعمق من عدم الفهم هذا، لدرجة رهنت معها وجود واستمرار الكيانات العربية والتركية على السواء. التأسيس إذن كان نتاجًا للقطيعة، وكذلك الاستمرار ، أو هكذا يظن البعض.
ليست صدفة أن كثيرًا من العرب لديهم مخاوف من الأطماع العثمانية الحديثة، بينما كثير من الأتراك لديهم تخوف جدي من إحلال عربي لوجودهم التركي فى بلادهم، وهو أمر يمكن أن نلمحه بسهولة في خطابات معظم الطيف السياسي التركي الحالي، والقومي منه تحديدًا.
ما زاد الالتباس التباسًا
لا يعني ما سبق أن القطيعة كانت تامة بين كل الأطراف التي شكلت المكونات العربية والتركية المعاصرة، فقد لعبت تيارات التقليد الإسلامي، المقاومة للحداثة، وسط العرب والأتراك دورًا كبيرًا في محاولة وصل ما انقطع، ولكن على طريقتهم ووفقًا لزاوية نظرهم، وهو ما زاد الأمر التباسًا وتعقيدًا.
انحصرت التصورات عن الشأن التركي في ثنائيات مبسترة كما لو كانت تركيا ليست سوى صراع بين الطربوش والقبعة، أو بين الحجاب والمايوه
اعتبرت تيارات التقليد الإسلامي، وسط العرب بالأساس، أن ما تأسس بعد نهاية الدولة العثمانية هو خطيئة تاريخية في حد ذاته. وراح معظم أبناء تلك التيارات يؤسسون لسردية تعتبر الوجود العربي والتركي المعاصر نتاج لمؤامرة قام بها الغرب لتفكيك وحدة المسلمين وصيغة حكمهم القائم على شرعية الخلافة.
ومن هذا المبتدأ، تبنت تلك القوى صورة عن مصطفى كمال، مؤسس الجمهورية التركية، تعده الشيطان الرجيم وليس أقل. وهي صورة كاريكاتورية لمخلوق علماني، ليس له هدف إلا محاربة الإسلام، ولا تصمد بالطبع أمام زيارة واحدة لتركيا والحديث مع أي مواطن عادي في الشارع. بل لا تصمد حتى أمام حوار قصير مع أغلب المحافظين والمتدينين الأتراك أنفسهم.
أنكرت تلك السردية تاريخًا كاملًا من الأحداث والملابسات، وجعلت من قصة الجمهورية التركية الحديثة مجرد مسارًا من مسارات محاربة الإسلام، فهي تنكر، أو لا تكترث بمائة عام من الصراع المدني العسكري على السلطة والقرار، وتنكر معه صراعًا مريرًا دار على النفوذ والموارد والشرعية، وقصة تمكين الشعب وقهره، والتأسيس الحداثي لجمهورية، لم تصل حتى الآن إلى طور الاكتمال، شهدت مسيرتها جملة من الصراعات الاجتماعية والثقافية شديدة التركيب والتعقيد.
كل ذلك تم تهميشه لصالح تسييد تصورات عن الشأن التركي، انحصرت في ثنائيات مبسترة وشائهة، إن صدق بعضها وأصاب، فهي لا تشكل غير زاوية من إحدى زوايا المشهد الكلي. كما لو كانت تركيا ليست سوى صراع بين الطربوش والقبعة، أو بين الحجاب والمايوه.
أمثلة بسيطة على الالتباسات
قد يتصور البعض أن تاريخ تركيا السياسي الحديث يتمحور بالأساس حول الصراع بين إحياء التقليد الإسلامي وتجذير العلمانية. حسنًا، ربما يريد علمانيو وإسلاميو العرب تصور ذلك على حد سواء.
لكن قد لا يعرف الكثيرون أن الأطراف الأكثر تطرفًا وراديكالية داخل الطيف السياسي التركي كانت، ولا تزال، القوميون الفاشيست على اليمين والشيوعيون الحركيون على اليسار. شكَّل الصراع بين هذين الطرفين ملمحًا رئيسيًا وحاسمًا للمشهد السياسي التركي لثلاثة عقود في القرن العشرين. وكان صراعًا داميًا ومريرًا انتهى بواحد من أعنف الانقلابات العسكرية في تاريخ تركيا، وهو انقلاب الجنرال كنعان إيفران عام 1980، الذي ترتب عليه اجتثاث اليسار التركي بشكل بالغ العنف على مدى عقد من الزمان.
في مشهد كهذا، كانت القوى الإسلامية التركية في منطقة دافئة ما بين مواقع يمين الوسط واليمين المتطرف، داخل المشهد الكلي. ولم تحتل أبدًا موقعًا أقصى يمين المشهد السياسي، وهو الموقع الذى لا يزال يشغله بهمة وحماس حزب الحركة القومية التركية، وطيف آخر من الأحزاب الفاشية وشبه الفاشية. هذه معلومة لن يريد علمانيو العرب معرفتها، ولو عرفوها ما صدقوها، وإن صدقوها سيحتفظون بها لأنفسهم.
في صيف عام 1974، غزت القوات المسلحة التركية شمال قبرص، وتأسس على ذلك الغزو تأسيس كيان انفصالي للقبارصة الأتراك، لا تعترف به سوى تركيا فقط من بين دول العالم. المعلومة التي قد لا يعرفها الكثيرون، أن من اتخذ قرار الغزو كان نجم الدين أربكان، الزعيم التاريخي للإخوان المسلمين في تركيا.
كان أربكان في تلك اللحظة نائبًا لرئيس وزراء تركيا بولنت إيچويت، الذي مثل وقتها الجناح اليساري لحزب الشعب الجمهوري الكمالي، بينما كان أربكان زعيمًا لحزب الخلاص الوطني الإسلامي. كان أربكان وقتها أيضًا أحد أقطاب الحكومة الائتلافية بين الحزبين، وكان في موقع المسؤولية لحظة اتخاذ قرار الغزو نظرًا لغياب أجاويد في إجازة شخصية.
معلومة كهذه ربما لا يعرفها الكثير من المحافظين الإسلاميين العرب، وإن عرفوها سيشككون فيها، وإن صدقوها لن ينشروها على نطاق واسع، فالعالم لديهم هو قصة اضطهاد أبدية مفتوحة من عسكر علمانيين ضد كل من يشهد بأن لا إله إلا الله وفقط.
لدينا إذن على الجانبين العربي والتركي إما قوى قومية ووطنية رفعت من الصمم والإنكار والقطيعة والالتباس الغائي والمتعمد شعارًا لها كلما نظرت إلى الضفة الأخرى، ولدينا على الجانب الآخر قوى إسلامية رؤيتها للحاضر والتاريخ شديدة الانتقائية لدرجة يستحيل معها فهم الواقع المعاصر ولا الماضي القريب. ولا عجب في ذلك طالما أن الماضي البعيد لا تزال قصته محصورة في ثنائية الأسطورة والمؤامرة.
لا يمكن فهم رجب طيب إردوغان كظاهرة سياسة مهمة واستثنائية في التاريخ التركي الحديث إلا عبر فهم الجمهورية الكمالية نفسها، فكل المشهد التركي المعاصر ما هو سوى نتاجًا لها وابنًا من رحمها، على مستوى القيم والولاء والعاطفة. لذا كانت هذه مقدمة ضرورية لمقال لاحق، أستعرض فيه ما أتصوره مأزقًا معاصرًا للجمهورية التركية.