تأسست الجمهورية في تركيا عام 1923 كأول جمهوريات المنطقة، وكان إعلانها حدثًا غير عادي ومفارق لنمط الحكم الذي يستمد شرعيته من مقام المُلك السلطاني الذي امتد لقرون، حتى ولو طرأت عليه إصلاحات دستورية فى القرن التاسع عشر. لذا، بمعايير ذلك الزمان، كان إعلان الجمهورية التركية الحديثة صدمة، ومحل شك وريبة من النخب السياسية في المنطقة. خاصة وإنه تزامن عربيًا مع محاولة إحياء الخلافة الهاشمية في المشرق العربي على أنقاض السلطنة العثمانية البائدة.
حتى إيران، التي شهدت ثورة دستورية عام 1906، استولى على السلطة فيها قائد أحد الألوية العسكرية اسمه رضا بهلوي ونصب نفسه ملكًا مطلق الصلاحيات برضوخ من الجمعية التأسيسية عام 1925. أما مصر، التي كان لها نصيب من التقدم وقتها، فكانت حدود الإصلاح فيها إعلان مَلكيّة نصف دستورية بموجب دستور 1923 الذي صدر في صورة "منحة" من الملك فؤاد الأول إلى شعبه.
كنت أشرتُ في مقال سابق إلى أثر القطيعة التي طالت العلاقات العربية التركية في أعقاب زوال الدولة العثمانية على معرفة الطرفين للأطوار الحديثة لكليهما، والدور الذي لعبته تيارات التقليد الإسلامي العربية تحديدًا في عنونة قصة الجمهورية التركية بعدّها مجرد قصة للعلمانية في مواجهة الإسلام، وهو ما زاد القطيعة التباسًا وتشوشًا.
ومن هذا المدخل، رسمت قوى التقليد الإسلامي العربي لمصطفى كمال أتاتورك صورة عنوانها الشيطان الرجيم وليس أقل. وهي صورة كاريكاتورية لا تصمد أمام زيارة واحدة إلى تركيا والحديث مع أي مواطن عادي في الشارع أو حتى المحافظين الأتراك. فهي صورة تنكر تمامًا قصة تأسيس تركيا الحديثة، وقصص حرب البلقان، وحرب استرداد الأناضول والمذبحة الأرمنية، بل وحتى حرب الجيش الوطني ضد بقايا الجيش العثماني الخاضع لسلطة الاحتلال البريطاني العسكري في نهاية الحرب العالمية الأولى.
في تلك الفترة، عُدت السلطة العثمانية وجيشها خونة للأمة التركية وخاضعان للاستعمار الأوروبي، بعد قبول ممثليها توقيع معاهدة سيفر التي أقرت بسيطرة إنجلترا وفرنسا واليونان وأرمينيا على معظم الأراضي التركية، بحيث لم تبق عمليًا لقوات الحركة القومية التركية إلا مدن سامسون الشمالية وأنقرة الصغيرة. تاريخ كامل تم إنكاره من أجل اختصار قصة الجمهورية التركية الحديثة باعتبارها مجرد قصة لمحاربة الإسلام.
علمانية.. ولكنها ليست مجرد علمانية
الجدل العلماني الديني في تركيا مهم بالطبع ويشكل ركنًا محوريًا في الثقافة السياسية التركية المعاصرة، ولكنه ليس الأهم. فقصة الجمهورية التركية، مثل أي بلد في العالم، هي قصة المواطنة والمساواة وتمكين الشعب من موارده والسيادة عليها. لذا، فمن الضروري إلقاء الضوء على محورية الدور الاجتماعي التأسيسي الذي لعبته في تشكيل الشعب الموجود حاليًا، وكيف كان ذلك الدور شديد الثورية، بمعايير عشرينيات القرن العشرين، فنَتج عنه دولة متدخلة وراعية، ومستبدة بالطبع، تمكنت من تشكيل الإنسان التركي الحديث.
ملأت رأسمالية الدولة في تركيا فراغًا، وفي الوقت نفسه لم تمنع القطاع الخاص والبرجوازية من العمل
العلمانية ليست سوى مبدأ واحد من بين ستة مبادئ تأسست عليها الجمهورية التركية، تسمى بالسهام الستة (بالتركية: Altı Ok)، وتشكل رمز وعلم حزب الشعب الجمهوري التركي/CHP، الذي حكم البلاد منفردًا حتى نهاية النصف الأول من القرن العشرين. وتمثل أيضًا الركائز الأساسية للكمالية، الأيديولوجية التأسيسية لتركيا: الجمهورية، والشعبية، والقومية، والعلمانية، والدولتية، والإصلاحية.
إذن لم يكن للجمهورية – المواطنية - العلمانية - التركية أن تتحقق فقط بالحديد والنار، فليس هناك أثقل من الحديد ولا ألظى من النار التي اكتوت بها بلداننا العربية، ولكنه طغيان لم يُنشئ دولًا راسخة متحققة، بل كيانات معرضة للانهيار والتفكك أمام أي تحدى أو منعطف جاد.
تأسست الجمهورية التركية بما قدمته إخلاصًا واستثمارًا في مشروع القومية التركية لاحتواء ودمج السكان وتوفير فرص للترقي الاجتماعي وتنمية القدرات وتعظيم الثروة والعدالة المواطنية.
في حالتنا المصرية، تم تأسيس بدايات دولة ما بعد الاستقلال استنادًا على علاقة مشروطة مع الاحتلال البريطاني، الذي شاركنا دولة أسسها بالتحالف مع الطبقات الاجتماعية الموالية له على مدى أكثر من خمسين سنة. بينما في الحالة التركية، كان البناء محليًا خالصًا من نقطة شبه صفرية نتجت عن انهيار تام للدولة السابقة.
تلك النقطة الصفرية منحت مؤسسي الجمهورية التركية مساحة واسعة لحرية التصرف وبراحًا لتأسيس جديد، فالفوضى والفراغ الناتجين عن الجينوسايد ضد الأرمن، ثم الحرب العالمية الأولى ونتائجها، أسهما في خلخلة بنية الطبقات الحاكمة والمهيمنة في الدولة العثمانية. حيث كان للأرمن قبل اجتثاثهم حضورًا قويًا في طبقة رجال المال والأعمال، وكان هناك قطاع آخر من البرجوازية العثمانية الذي ناصب الجيش الوطني العداء ثم خسر موقعه مع تأسيس الجمهورية.
هذا الأمر لم يسهل فقط للسلطة الجديدة، ذات النخاع العسكري، القدرة على تشكيل نخب اقتصادية جديدة، بل سهَّل أيضًا تأسيس شبكة كبيرة من مؤسسات القطاع العام في شتى المجالات استنادًا إلى مبدئي "الشعبية والدولتية".
ملأت رأسمالية الدولة في تركيا فراغًا موجودًا بالفعل، وفي الوقت نفسه لم تمنع القطاع الخاص والبرجوازية من العمل، فتوسعت الدولة في مشروعات البنية التحتية العامة، كالقطارات والطرق، وتوسعت بشكل أكبر وأعنف في الاستثمار في العنصر البشري عن طريق تأسيس قوي لمؤسسات التعليم والصحة، على نحو ساعدها على تحقيق هيمنة ثقافية ونظرية على المجتمع التركي الجديد.
لنأخذ مثالًا، تغيير الأبجدية من الحروف العربية إلى اللاتينية، التي شرعت فيه الجمهورية التركية في أواخر العشرينيات. لو اقتصرت زاوية نظرنا فقط على مساحة الجدل الإسلامي العلماني العربي لاستبصرنا انقطاع تركيا الحديثة عن ميراثها السابق بقرار فوقي ونخبوي. أما لو نظرنا إلى الأمر من زاوية النجاعة والكفاءة، سنفهم من ذلك أن تلك الدولة الناشئة كان لديها الإرادة والقدرة على القيام بذلك التحول التاريخي، أيّا ما كانت وجهة نظرك فيه. أي كانت لديها بنية تعليمية قوية وقدرات تقنية وكادر يستطيع استيعاب تحول بذلك الحجم.
كانت عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين فترة ذهبية للتأسيس القومي. وهو ما تباطئت فيه مصر
لم يكن ما ساعد الجمهورية الناشئة على إتمام ذلك المشروع بدايتها من نقطة الصفر التأسيسي، بل أيضًا الشجاعة والتبكير في الأخذ بسياسات أكثر مواطنية واجتماعية بمعايير زمنها. تلك السياسات مكَّنت إتمام جزء كبير من المشروع في مرحلة مبكرة وحرجة في القرن العشرين.
وفي اعتقادي، كانت عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين فترة ذهبية للتأسيس القومي. والدول التي استطاعت استغلال الفرصة آنذاك تمكنت إلى حد كبير من إرساء قواعد دولتها الحديثة، وهو ما تباطئت فيه مصر للدرجة التي تفسر نجاح تنظيم الضباط الأحرار في الاستيلاء على السلطة دون إراقة دماء تقريبًا، وإنهاء النظام الملكي بكل سهولة عام 1952.
مناورات ناجحة ومبكرة على التناقضات الدولية
لكن السبق الأهم في مسار الجمهورية التركية على مستوى العلاقات الدولية، كان قدرتها على اللعب مبكرًا على تناقضات القوى الكبرى، وبمنتهى الحدة والمخاطرة في الوقت ذاته.
في ميدان تقسيم في إسطنبول يوجد نُصُب الجمهورية، وهو عبارة عن مربع من عدة تماثيل متلاصقة، اثنان منها لمصطفى كمال أتاتورك يمثلان مراحل مختلفة من حياته، إلى جانب مؤسسين آخرين للجمهورية، مثل عصمت إينونو، وفوزي شاكماك، وغيرهما. بين تلك التماثيل ستجد رجلًا ذو ملامح أوروبية يقف خلف أتاتورك حين كان بالشارب العثماني والزي العسكري. ذلك الرجل ليس إلا ميخائيل فرونزا، أحد القادة التاريخيين لللبلاشفة وواحد من الآباء الروحيين للجيش الأحمر السوفيتي.
ففي عام 1920، اقترب مصطفى كمال أتاتورك رسميًا من فلاديمير لينين، واقترح عليه الاعتراف المتبادل وطلب منه المساعدة العسكرية. استجاب البلاشفة وعلى أثر ذلك تلقى أتاتورك دعمًا سخيًا منهم في حربه ضد احتلال اليونان لساحل بحر إيجه ولثلث الداخل الأناضولي. والأهم كان تأمين جبهته الشرقية ضد جمهورية أرمينيا التي لم تكن خضعت بعد هي الأخرى للحكم السوفيتي.
وعليه أبرمت الدولتان الجديدتان معًا "معاهدة الصداقة والأخوة" عام 1921. وبموجبها تم حل الخلافات الإقليمية والحدودية بين البلدين. وبقيت الحدود الشمالية الشرقية لتركيا التي تم إنشاؤها دون تغيير حتى يومنا هذا.
بالطبع كان التحالف البلشفي - الكمالي تحالفًا تكتيكيًا قصيرًا، ما لبس حتى انهار عام 1923 بقرار تركيا الانحياز للمعسكر المعادي للاتحاد السوفيتي وحظرها للحزب الشيوعي التركي. لكن على جانب آخر، استفاد مصطفى كمال أتاتورك من ذلك التحالف التكتيكي في علاقته التفاوضية بالغرب.
كانت سياساته الاجتماعية والاقتصادية بمعايير عشرينيات القرن العشرين تبدو ضد الرأسمالية على نحو أثار حفيظة الدول الأوروبية والولايات المتحدة. ولنتذكر أن وقتها لم يكن العالم يعرف السياسات الاقتصادية الكينزية بعد. وكانت فكرة إنفاق الدولة على الرعاية الاجتماعية ومشاركتها رأس المال الخاص في التنمية تمثل لدى الكثيرين نوعًا من التطرف الاشتراكي. وما لبست الكثير من الدول الغربية أن اتبعت السياسات الكينزية بعد الكساد الكبير الذي حدث بعد عقد واحد من هذا التاريخ، في أعقاب الكساد الكبير.
أسهمت السياسات التوافقية مع السوفيت في غل يد التدخل الغربي وجعل الجمهورية التركية الناشئة أكثر حرية، وبشكل مبكر جدًا في الأمور التي تخص سياساتها الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، ووسعت هامش المناورة لديهم بشكل صب في مصلحة تصورات الحكم التركي الجديد.
كانت الرسالة إلى أمريكا والغرب مفادها، أننا حلفاء استراتيجيون مع الغرب، ولكن ذلك التحالف لن يملي علينا تفاصيل خياراتنا السياسية داخليًا، وهذا أقصى ما يمكن تقديمه لكم، وهو أفضل بكثير من أن نكون في وضع التحالف الكامل مع السوفيت.
لذا بمعنى ما، موضعت تركيا نفسها في مساحة من عدم الانحياز مبكرًا، على نحو جعل موقفها المنحاز أمريكيًا لاحقًا يترتب عليه التزامات أكثر إيجابية من الطرف الأمريكي ناحيتها، وهو الأمر الذي إن قارنّاه عربيا لوجدنا نتائج شديدة الخيبة.
في النهاية أود الإشارة إلى أننا لا يمكننا فهم النقطة الإردوغانية الحالية في المسار التركي إلا عبر الإمساك بالمحطات المؤسسة للتحولات داخل الجمهورية نفسها. قصة تركيا الحديثة هي قصة دولة الرعاية الكافلة الأبوية وتفكيكها. أو بمعنى أدق، هي قصة دولة القطاع العام والرعاية الاجتماعية في مقابل التحولات النيوليبرالية والأمركة التدريجية. وهي العملية التي بدأت بحماس منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ونتج عنها بلورة تيارات واتجاهات يمينية ويسارية، واحتدام المواجهات بينهما إلى حدود الاحتراب المسلح.
وهذا ما سنناقشه في مقال لاحق.