تابعت بغيرة شديدة الانتخابات الساخنة للغاية التي شهدتها تركيا الأحد، متسائلًا طوال الوقت: لماذا لم تتقدم مصر نحو عقد انتخابات تنافسية مماثلة، رئاسية وبرلمانية، رغم أن هناك الكثير مما يجمع بين البلدين من نواحٍ كثيرة، تاريخية ودينية وسياسية، وتلك المتعلقة بدور الجيش في إنشاء الجمهورية الحديثة؛ في تركيا عام 1923، وفي مصر عام 1952؟
طبعًا كان يهمني كذلك مصير داهية السياسة التركية رجب طيب إردوغان، الذي فشل للمرة الأولى منذ بروزه على الساحة السياسية المحلية والدولية منذ ثلاثة عقود، في الفوز بمدة رئاسية جديدة من الجولة الأولى، وإن كانت فرصه تبقى الأكبر لتحقيق هدفه في جولة الإعادة التي ستجري بعد أسبوعين.
مؤشرات عدة أصابتني بالغيرة في الانتخابات التركية، التي مثلت احتفالًا حقيقيًا بمرور مائة عام على إنشاء الجمهورية التركية العلمانية الحديثة التي ورثت الإمبراطورية العثمانية، وتقرر إجراؤها في مايو/أيار، لتتزامن مع ذكرى إجراء أول انتخابات تركية ديمقراطية في 1950.
أول تلك المؤشرات نسبة المشاركة: نحو 90% من الناخبين المسجلين الأتراك، 64 مليونًا، توجهوا لصناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم، بجانب 51% من الأتراك المقيمين في الخارج، وهو ما يؤكد حجم الثقة شبه المطلقة في نزاهة الانتخابات وقدرتها على تغيير طريقة إدارة شؤون البلاد، وإزاحة رئيس ربما تكون ثقته المفرطة في بقائه للأبد في منصبه بعد إنجازاته وقدرته على التأثير إقليميًا ودوليًا، من أسباب فشله غير المسبوق في الفوز مباشرة.
نسبة المشاركة المرتفعة هذه طبعًا أصابتني بالحسرة وأنا القابع في بلد اشتكى فيها الرئيس الراحل حسني مبارك نفسه ذات مرة من أن نسبة التصويت في الانتخابات لم تتجاوز 5% في القاهرة، متجاهلًا أنه تمسك شخصيًا بالبقاء في منصبه ثلاثين عامًا، ولم يقبل بمبدأ عقد انتخابات رئاسية تعددية سوى في العام 2005، سبقتها قبل ذلك استفتاءات مضحكة وأغاني "اخترناه اخترناه من أول كلمة سمعناه".
الثقافة السائدة لعقود بين المصريين هي أن الانتخابات مظهر ديكوري لأن النتيجة معروفة سلفًا، وأن أجهزة وزارة الداخلية المعنية تقوم مشكورة بالتصويت نيابة عن المواطنين لتجنبهم مشقة التوجه لصناديق الانتخاب، بجانب الأداء المشرف لكمبيوتر الداخلية الذي ينتج دائمًا نسب مشاركة مرتفعة وتأييدًا كاسحًا للرئيس وأقل بعض الشيء للحزب الحاكم، وذلك في اطار الحفاظ على المظهر اللائق.
ظن كثيرون أن ثورة 25 يناير ستمثل نهاية الحقبة الطويلة التي عشناها من الرئيس الباقي في منصبه للأبد حتى يقضي الله أمره سواء بالوفاة او الاغتيال او الإجبار على التنحي بعد الهرم في المنصب، وأن مصر مقبلة بالفعل للمرة الأولى على انتخاب رئيسها.
ولكنها كانت لحظة حلم قصيرة، شهدنا انتخابات وحيدة تنافس فيها أكثر من مرشح. ولكن العواقب الوخيمة لحكم جماعة الإخوان أجهضت تلك التجربة سريعًا، وعادت ريما لعادتها القديمة: نسب مشاركة شديدة التدني، وانتخابات نتيجتها معروفة سلفًا، وسط تحذيرات متكررة من أن مجرد التفكير في العودة لتلك الأيام اللعينة في 2011 و2012 لا يمكن أن ينتج سوى الفوضى وتفكك الدولة مثل ليبيا وسوريا وليبيا والعراق، ومؤخرًا الجار العزيز السودان.
ثاني المؤشرات التركية المثيرة للغيرة الأداء شديد الكفاءة لهيئة الانتخابات التركية والتي لا تخضع للإشراف القضائي او تدخل من موظفين حكوميين يتلقون وجبات في كراتين، وكذلك سرعة الإعلان عن النتائج. أغلقت الصناديق في الخامسة مساءً، وبعدها بساعة واحدة بدأت النتائج الأولية، وبحلول منتصف الليل كان فرز 95% من الأصوات انتهى.
ثم نأتي للنتائج شديدة التقارب. إردوغان حصل على نحو 49.4% من الأصوات، بينما حصل منافسه الرئيس ممثل تحالف المعارضة كمال كليجدار أوغلو على 45%، يليهما مرشح ثالث، سنان أوغان، ذو الميول القومية المتطرفة، بـ5.2%.
إردوغان كان يحتاج إلى أقل من 1% ليفوز من الجولة الأولى، ولكن الجميع احترموا النتائج وقبلوا بالتوجه لجولة ثانية من الانتخابات، دون مظاهر عنف أو اشتباكات لم تنجُ منها ديمقراطيات راسخة كالولايات المتحدة والبرازيل.
حتى لو فاز إردوغان بجولة ثانية، فمن المؤكد أنه سيضطر للتواضع والتخلي عن كثير من أحلامه الامبراطورية
وفي الانتخابات البرلمانية، فاز "تحالف الجمهور" الذي يترأسه إردوغان بـ49.3% من الأصوات، بينما فاز تحالف الشعب المعارض بـ36.3%، يليهما تحالف العمل والحرية اليساري الذي فاز بـ10.52% من الأصوات. تنوعٌ غنيٌّ بكل تأكيد، يعكس ما هو متوقع من بلد ضخم كتركيا، دون أن يزعم أي طرف أنه يمثل "الغالبية الكاسحة" من الأتراك. بل إنه من بين أصوات تحالف الجمهور، كان نصيب حزب العدالة والتنمية الذي يترأسه إردوغان 35.4% فقط من الأصوات. لم يسعَ إلى "التمكين" أو يزعم بأن حزبه القريب من فكر جماعة الإخوان المسلمين يمثل الغالبية المسلمة التي تتجاوز نسبتها 90% من سكان البلاد.
ورغم العداء الشديد الذي تحمله جماعات الإسلام السياسي في مصر لكلمة الدولة العلمانية أو النظام العلماني القائم على فصل الدين عن الدولة، فمن المعروف أن إردوغان عندما زار مصر أثناء سنة حكم الإخوان، أشاد بالنظام المدني الذي لولاه لما تمكن حزبه من زيادة شعبيته لدرجة سمحت له بالبقاء في منصبه؛ رئيسًا للوزراء ثم رئيسًا للجمهورية، لمدة عشرين عامًا.
ورغم كل ما يمكن توجيهه من انتقادات لانتخابات 2012 في مصر، فلقد عكست، كما تركيا، التنوع المتوقع بين الناخبين المصريين، بين من صوتوا لمرشح الدولة القديمة التقليدية أحمد شفيق، أو مرشح جماعة الإخوان محمد مرسي، وكلاهما حصل على ما يزيد عن 20% فقط بقليل، وكذلك المرشح المعارض ذو التوجهات القومية واليسارية حمدين صباحي، والمرشح الليبرالي التقليدي عمرو موسى، والإسلامي المعتدل عبد المنعم أبو الفتوح. ولكن تجربة اختبار التنوع في مصر لم تدُم طويلًا، وعدنا لمرحلة الترويج للحاجة إلى رئيس يحظى بدعم "كل" المصريين، وهو أمر ضد طبائع الأمور.
ليست كل الحقائق في تركيا مبهرة، والانتقادات شديدة لإردوغان الذي أغرته السلطة لإجراء تعديلات دستورية وقانونية ترسخ حكمه وتوسع نفوذه، مثلما حدث عام 2017 مع تحويل تركيا إلى نظام الحكم الرئاسي بدلًا من النظام البرلماني الراسخ منذ عقود. كما سيطر على غالبية وسائل الإعلام، وسعى للتأثير على القضاء، وسَجَن معارضيه، وتزايد الحديث عن رغبته في إحياء الخلافة العثمانية، وبدأ يستقبل ضيوفه بحرس شرف يرتدون أزياء تلك الفترة، التي بدت مضحكة ومستعارة من المتاحف.
كما تمدد الجيش التركي وتصرف وكأن تركيا أصبحت فجأة دولة عظمى، وانخرط في عمليات واسعة في سوريا والعراق، ومدَّ نفوذه إلى ليبيا البعيدة لتوفير الدعم للحكومة القائمة في غرب ليبيا التي تهيمن عليها جماعة الإخوان المسلمين والميليشيات.
ولكن هذه المغامرات الخارجية ربما تكون من ضمن الأسباب التي دفعت ناخبين أتراك إلى البحث عن بديل جديد، مع اقتناع بأن بقاء نفس الرئيس في منصبه لعشرين عامًا قد يضر بالبلاد على الصعيدين الإقليمي والدولي، والأهم الاقتصادي، بعد أن زادت نسبة التضخم عن 60%.
بالتالي، حتى لو فاز إردوغان بجولة ثانية، فمن المؤكد أنه سيضطر للتواضع والتخلي عن كثير من أحلامه الامبراطورية.