في أجواء الحوار الوطني الذي طال انتظار إطلاقه الرسمي، عاد الحديث عن الأحزاب ودورها في الحياة السياسية، مع استمرار ترديد نغمة فشلها وضعفها وتحكّم المصالح الشخصية وربما الأيديولوجية الضيقة فيها، والتلميحات المعتادة بالارتباطات الخارجية "المشبوهة".
مروجو تلك المقولات يتناسون أن الأحزاب، كما الإعلام والمنظمات غير الحكومية والنقابات المهنية والعمالية، لا يمكن أن تنشط بمفردها من دون سياق عام يضمن لها الحد الأدنى من ممارسة دورها كتعبير عن مصالح متنوعة في المجتمع.
وربما تكون نقطة البداية في تناول وضع الأحزاب السياسية المصرية الإقرار بغياب نظام سياسي تعددي حقيقي وفقًا لما نص عليه دستور 2014، يسمح لها بالقيام بدور فاعل في الحياة السياسية من خلال تداول السلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة وممارسة دور رقابي حقيقي على مؤسسات الحكم. بل إن القبول بحقيقة التنوع والحق في تبني رؤى سياسية مختلفة يبقى غائبًا ومذمومًا لدى قطاع معتبر في المجتمع، في الوقت الذي يتم فيه مع الترويج إلى أن "اصطفاف" الشعب حول أهداف واحدة، والأهم طبعًا قيادة واحدة، هو المخرج المطلوب لحل كافة التحديات التي تواجه البلاد.
ويتمحور النظام السياسي القائم في مصر منذ حل الأحزاب السياسية في أعقاب ثورة 23 يوليو 1952 على حكم الحزب الواحد وشخص رئيس الجمهورية، بغض النظر عن اسم ذلك الحزب أو الرئيس. وحتى بعد أن سمح أنور السادات بالتعددية الحزبية المقيدة في 1976، فإنه تم في ظل إدراك أن الحزب الحاكم (حزب مصر ولاحقًا الحزب الوطني) سيحل محل التنظيم السياسي الوحيد الذي كان قائمًا في عهد عبد الناصر؛ الاتحاد الاشتراكي.
أدى غياب الأحزاب إلى غياب الانتخابات التنافسية، التي حلت مكانها استفتاءات التجديد لرئيس الجمهورية وانتخابات صورية لمجالس نيابية يتم اختيار أعضائها بناء على الولاء للرئيس والحزب الحاكم. وعندما سمح السادات بقيام الأحزاب، قرر مسبقًا عددها وتوجهاتها السياسية. ومع تجاوزها ما رآه خطوطًا حمراء في مواجهته، قبض في سبتمبر/ أيلول 1981 على الآلاف وجمّد نشاطها وصحفها، مغلقًا الباب الوحيد المتاح للتعبير عن الآراء المعارضة.
حافظ مبارك على الإطار الذي وجده، وإن سمح للأحزاب المعارضة محدودة العدد بالتواجد في هامش ضيق لا يسبب إزعاجًا أو تهديدًا حقيقيًا لأحد، في ظل قوانين تجعل من المستحيل عمليًا إنشاء أحزاب جديدة إذ تطلب الأمر موافقة لجنة يسيطر عليها الحزب الوطني الحاكم، وتدخلات أمنية مستمرة في شؤون الأحزاب والسيطرة عليها، وترسيخ الانشقاقات الداخلية وربما تجميد نشاطها إذا تجاوزت الحدود المسموح بها من قبل تلك الأجهزة.
وفي ظل حرمان تلك الأحزاب في عهد مبارك من مصادر تمويل حقيقية، لم يكن أمامها سوى الاعتماد على دعم سنوي من مجلس الشورى إلى جانب عدد محدود من الإعلانات في صحيفة الحزب، وهو ما سمح للنظام بفرض المزيد من السيطرة عليها.
السيارة ترجع إلى الخلف
في أعقاب ثورة 25 يناير وإطلاق حرية إنشاء الأحزاب للمرة الأولى منذ 1952، ظهرت على السطح عشرات الجديد منها، وهي ظاهرة طبيعية ومعروفة في كل الدول التي تمر بمرحلة انتقالية بعد نظام سلطوي استمر في الحكم لعقود طويلة.
وبعد مرور عشر سنوات من إنشاء تلك الأحزاب التي يتردد أن عددها يتجاوز المائة، لم يبقَ منها سوى القليل، بينما احتفظت الأغلبية باليافطة وبعضها أغلق أبوابه بالضبة والمفتاح. وفي الوقت نفسه برز حزب مستقبل وطن الذي يرى فيه الكثيرون امتدادًا للحزب الوطني وممارساته، مع فارق أن الرئيس السيسي لا يترأس ذلك الحزب كما كان مبارك.
الثقافة العامة المترسخة منذ عقود لا تقوم على شعار "تحزبوا تصحوا"، بل "خليك جنب الحيط". والسياسة ليست للمواطنين، بل للحاكم الفرد الأدرى بمصلحة الوطن.
ولكنَّ المثير للدهشة أن أعداء التعددية والمتمسكين بنظام الرئيس/ الحزب الواحد، جعلوا من الارتفاع النسبي لعدد الأحزاب المسجلة رسميًا سببًا رئيسيًا لضعف التجربة الحزبية، والقول إن وجود حزبين أو ثلاثة فقط هو الوضع المناسب لمصر.
يتجاهل هؤلاء أن الأصل في دستور 2014 إطلاق حرية إنشاء الأحزاب والحق في العمل الحزبي والتنافس في انتخابات حرة ونزيهة، وبالتالي فإن عدد الأحزاب لا يجب أن يشكل مصدرًا للقلق أو ينظر إليه كأحد أسباب ضعف الحياة الحزبية في مصر، فالناخبون هم من سيقررون في النهاية من هي الأحزاب التي ستستمر في التواجد.
في العديد من الدول الديمقراطية قد تنشأ أحزاب جديدة غير معروفة من قبل، ولكنها تتمكن من التقدم بأفكار أو مرشحين ينالون ثقة الشعب ويزيد حجم تمثيلهم لاحقًا. ولذلك فإن الأصل هو حرية إنشاء الأحزاب وتسهيل القوانين المتعلقة بذلك، وليس السعي لتقييد إنشائها أو مطالبتها بالاندماج.
في أعقاب تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي منصبه في العام 2014، تراجع دور الأحزاب السياسية التي نشأت في أعقاب ثورة 25 يناير، ولكنها تمكنت في السابق من لعب دور بارز في حشد الشارع لمواجهة السياسات المدمرة لتنظيم جماعة الإخوان بعد تولي الرئيس الراحل محمد مرسي منصبه، وذلك من خلال تشكيل جبهة الإنقاذ الوطني التي مثلت كل القوى السياسية المتسكة بمدنية الدولة ورفض خطط جماعة الإخوان التي دفعت بمصر نحو خطر الحرب الأهلية.
الشعبية التي حظي بها الرئيس السيسي بعد وصوله لمنصبه والخطر الذي مثلته الجماعات الإرهابية أعادت تركيز كل السلطات في يده، وغاب دور الأحزاب، خاصة مع تعمد الترويج لمقولات من نوع أن الرئيس "ليس رجل سياسة" و"لا يردد كلام السياسين" بل هو "رجل عمل وإنجاز وتحرك سريع". وأدى ذلك الخطاب إلى العودة لترسيخ الفكرة القائمة بالفعل في مصر منذ عقود ومفادها أن الأحزاب كيانات لا تهمها سوى المصالح الأيديولوجية الضيقة والصراعات الشخصية.
كما أن الثقافة العامة المترسخة منذ عقود لا تقوم على شعار "تحزبوا تصحوا"، بل "خليك جنب الحيط" و"الباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح". المحصلة أن السياسة ليست للمواطنين، بل للحاكم الفرد الأدرى بمصلحة الوطن.
تصاعد التضييق على أنشطة الأحزاب المعارضة، خاصة في أعقاب رفضها للتعديلات الدستورية التي تم تمريرها في مطلع العام 2019، ومُنِع رؤساؤها من الظهور في وسائل الإعلام، وشن حملات هجوم منتظمة على قادتها، وقبض على كثير من أعضائها ممن حبسوا احتياطيًا لسنوات. ومع نهاية 2019، شنت الأجهزة الأمنية حملةً موسعةً ألقت خلالها القبض على المئات من أعضاء الأحزاب المعارضة، تحديدًا تلك التي تعمل في إطار التحالف المعروف بـ"الحركة المدنية الديمقراطية".
ضرورة التعددية
ومن هنا، فإن نقطة الانطلاق لعودة الأحزاب السياسية المعارضة لممارسة دورها وعملها هي إطلاق سراح كل السجناء السياسين المحبوسين على ذمة قضايا رأي وليس لهم أي علاقة من قريب أو بعيد بالجماعات التي تدعو للعنف ويحظرها القانون.
ولقد بدأت بالفعل عملية تدريجية لإطلاق سراح العشرات من أعضاء الأحزاب المعارضة في أعقاب دعوة السيد الرئيس للحوار الوطني في إفطار الأسرة المصرية في 26 أبريل/ نيسان 2022. ولكن ما زالت أعداد المفرج عنهم قليلة والمعدلات بطيئة.
كما أن أول خطوة لازدهار العمل الحزبي في مصر هي تأكيد السلطات على انتهاء حقبة إلقاء القبض على من يعبرون سلميًا عن آراء معارضة، والسماح للأحزاب بالعمل بحرية وتنمية كوادرها وطرح أفكارها والاتصال المباشر مع المواطنين.
ولا تعمل الأحزاب السياسية بمفردها، فلا بد أن يتزامن مع عودتها إلغاء القيود المفروضة على وسائل الإعلام والسماح لها بعرض مختلف الآراء وإنهاء حجب المئات من المواقع الإخبارية والحقوقية والتخلي عن هذه السياسة من الأساس.
كما ترتبط قدرة الأحزاب على العمل بقوانين انتخابات عادلة تسمح لها بتقديم مرشحين يطرحون أفكارهم. وبالتالي تطالب أحزاب المعارضة بتعديل قانون الانتخابات واعتماد نظام القوائم النسبية كوسيلة لدعم الحياة السياسية والحزبية في مصر، وذلك بعد أن تبين أن نظام القائمة المطلقة المغلقة لا يؤدي سوى لهيمنة الصوت الواحد والاتجاه الواحد داخل البرلمان، ولإهدار اختيارات الناخبين وحرمان الأحزاب الحاصلة على نسب من الأصوات من الحصول على أية مقاعد.
لكن تبقى نقطة البداية فتح المجال العام في مصر على الأصعدة السياسية والإعلامية، واحترام نصوص القانون والدستور، وإدراك أن التعددية تخدم الوطن وتساهم في خلق مؤسسات قوية وتمنع الفساد نتيجة لوجود رقابة شعبية عبر مجالس منتخبة في عملية اقتراع حرة ونزيهة. عدا ذلك، ستبقى الأحزاب المصرية ضعيفة ولا ضرورة لوجودها من الأساس.