بإعلان مجلس أمناء الحوار الوطني عن بدء أولى جلساته رسميًا في الثالث من شهر مايو/ آيار المقبل، في أعقاب إجازة عيد الفطر، نكون أمام مرحلة سياسية جديدة، وتتجه أنظار المهتمين بالحياة العامة صوب قاعات الاجتماع، تدقق في وجوه وأسماء الحاضرين، وتستمع لرؤاهم حول قضايا الوطن وملفاته المغلقة منذ سنوات.
المؤكد أن الحوار في حد ذاته سُنة حسنة، وربما يكون الفريضة الغائبة عن هذا الوطن منذ سنوات طويلة. بل يبدو أن غياب الحوار والتسلط الكامل على المجتمع و"تسييد" رؤية واحدة وخطاب واحد هو أحد أهم أزمات هذا العصر. وهنا يبدو السؤال المنطقي والطبيعي، هل يمكن أن ينجح الحوار في الدفع بالبلد وناسه خطوات مهمة للأمام، أم أن الأمر لن يتعدى التقاط الصور التذكارية لحدث لن يتذكره أحد بعد انتهائه بساعات؟
متى ينجح الحوار المنتظر في فك عقدة السياسة المزمنة؟ وكيف يمكننا أن نحكم عليه بالفشل ونحن في منتهى راحة الضمير؟
مؤشرات النجاح
بحسابات السياسة، تبدو قضية سجناء الرأي المؤشر الأول والأهم في قدرتنا على الحكم، وهو ما يعني قدرة القوى المعارضة المدنية على التفاوض من أجل إطلاق سراح عدد أكبر من السجناء قبل بداية الحوار، ثم استجابة السلطة الحالية لهذا المطلب والتعامل معه بمرونة وإيجابية، ثم الضغط خلال جلسات الحوار لإخلاء سبيل أعداد أكبر من كل ما سبق، وصولًا لتصفية ملف سجناء الرأي بشكل كامل خلال فترة زمنية قصيرة.
والخطوة الأهم التي لا يكتمل أي جهد بدونها هي تعديل نص الحبس الاحتياطي في قانون الإجراءات الجنائية لتقليل مدة الحبس، لا سيما في قضايا الرأي، لتصل لستة أشهر على أقصى تقدير، ثم الاتفاق والإعلان أن الحوار وصل بالفعل لحل لقضية الحبس الاحتياطي.
في عوامل النجاح بنود لا تقل أهمية عن قضية سجناء الرأي، على رأسها الوصول لاتفاق حول ضمانات لنزاهة الانتخابات الرئاسية المقبلة، تشمل حياد مؤسسات الدولة، وإشراف منظمات محلية ودولية على الانتخابات، ووضع سقف للإنفاق على الدعاية.
من الضمانات أيضًا إفراد مساحات متساوية لجميع المرشحين في وسائل الإعلام، وحرية الحركة للمرشحين وأنصارهم بعيدًا عن التضييق الأمني والإداري، وغيرها من صور النزاهة والشفافية المطلوبة في أي انتخابات جادة وحقيقية.
ثم أيضًا الحديث عن تعديلات تشريعية تتيح فتح المجال العام ومنح الحرية لعمل وسائل الإعلام، والتوقف عن الملاحقات الأمنية للنشطاء السياسيين وغيرها من إجراءات تتيح مجالًا عامًا حرًا ومواتيًا للعمل السياسي والإعلامي.
على السلطة، كما معارضيها، الاختيار بين طريقين: إما النجاح أو الفشل
في الحديث عن نجاح الحوار، لا يمكن استبعاد الاتفاق على حلول جذرية للوضع الاقتصادي الصعب الذي تعاني منه مصر. والأمر ليس مقصورًا على إجراءات عاجلة مطلوبة لإمكانية الوصول لحلول للأزمة الاقتصادية الحالية.
في ظني أن الأمر يتعدى ذلك للاتفاق على سياسات اقتصادية جديدة تحدث قطيعة تامة مع السنوات الفائتة، وتشرك عقول البلد المهمة في السياسة الاقتصادية، وتوقف بشكل نهائي وحاسم كل صور الاستدانة غير المسبوقة في تاريخنا الحديث، وتتجه نحو التصنيع والتصدير، وتبني المستقبل على الاهتمام بالصحة والتعليم والبحث العلمي، وتؤمن بالتنوع والمشاركة، وأن الحلول ممكنة إذا غاب الانفراد بالقرار والتسلط على رسم السياسات وتنفيذها.
وكيف يفشل؟
كل الشروط المطلوبة لنجاح الحوار تقابلها خطوات محددة يعني وجودها إمكانية الحكم بفشل الحوار دون أن يكون متسرعًا أو متعسفًا.
أول مؤشر لفشل الحوار هو "الإقصاء".
فبدون حضور وجوه معارضة بشكل حقيقي ومختلفة مع السلطة الحالية في رؤاها وتصوراتها السياسية، تطرح أفكارًا جديدة وجذرية في مواجهة السياسات السائدة، سيتحول الحوار إلى "مهرجان" للمبايعة والتأييد، ويخصم بشكل مباشر من الرهان عليه أو الوثوق في قدرته على بناء واقع سياسي جديد ومختلف ينقل البلد للأمام، ويغير من سلبيات سادت لسنوات وأدت إلى واقع سياسي غاية في السوء.
بكل معنى سياسي، أي غياب للحركة المدنية الديمقراطية -مهما كانت الملاحظات عليها- يعني بشكل مباشر تفريغ الحوار من معناه وفقدانه بشكل كامل وحاسم كل رهانات الحاضر وكل آمال المستقبل.
صور فشل الحوار لا تتوقف عند إقصاء قوى سياسية أو شخصيات بعينها، بل تمتد لإصدار "ڤيتو" حكومي على موضوعات بعينها، ومنع التحدث فيها، وهو ما يعني أن هناك إصرارًا من السلطة على الاستحواذ والانفراد بقضايا وطنية وعامة بطبيعتها، فضلًا عن أن حق كل مواطن أو تيار سياسي مصري الحديث عنها وطرح الرؤى والحلول لها.
بكل وضوح فإن الحوار المنتظر لا يجب أن يتجاهل أدق القضايا وأكثرها أهمية، بداية من حصار السياسة، والقيود المفروضة على الحريات العامة، ثم قضايا الاقتصاد المعقدة والسياسات الحاكمة لها منذ سنوات وضرورة تغييرها بشكل كامل، نهاية بقضايا الأمن القومي وفي القلب منها قضيتي: سد النهضة الإثيوبي والإرهاب في طبيعة التعامل معه.
ثم إن الفشل يمسي مؤكدًا إذا تم حصار الإعلام ومنعه من تغطية أدق تفاصيل الحوار، ونشر كل الآراء على اختلافها وتنوعها، وكل وجهات النظر على تعددها، والتعامل المهني والجاد مع كل القوى المشاركة بلا إقصاء، وقبل كل ذلك وبعده صدور قرارات تنفيذية فورية تضمن تنفيذ كل ما تم الاتفاق عليه، وإحالة كل ما ارتأى المجتمعون تعديله من قوانين إلى مجلس النواب فورًا لتعديلها.
ينتظر المصريون للحكم على الحوار وجديته، وإمكانية أن يكون المقدمة للحاق مصر بعصرها، والانتهاء من القيود المفروضة على الحياة العامة، ووضع حد للحكم "بالخوف" والخشونة الأمنية، وتحسين جاد للظروف والأحوال الاقتصادية والاجتماعية، أو الانصراف عن متابعة الأمر كله مبكرًا والاقتناع الحاسم أن الحوار ليس من أدبيات، أو قناعات، السلطة الحالية.
والمؤكد أن كل حكم سيصل إليه الناس، سواء بالنجاح أو بالفشل، سيكون له ما بعده، وعلى السلطة، كما معارضيها، الاختيار بين طريقين: إما النجاح أو الفشل.