أغلب الظن أن اتصالات سياسية مكثفة سبقت صدور بيان مجلس النواب، الذي أعاد مساء الخميس الماضي الحوار المجتمعي حول مشروع قانون الإجراءات الجنائية، بعد أقل من يومٍ على إغلاقه بـ"الضبة والمفتاح" على يد اللجنة التشريعية بالمجلس، ببيانها الحاد والمستنكر الذي هاجم نقيب الصحفيين خالد البلشي، فقط لأنه قرر "من خلف جدار الحرية" التصدي لمهمة كان على اللجنة أداؤها.
هذه المهمة هي إتاحة النقاش لكل الأطراف ذات الصلة بالمشروع، والاستماع لمختلف الآراء والمقترحات، كما فعلت نقابة الصحفيين عندما أقامت ندوة لهذا الغرض، ثم شكلت لجنة من ثلاثة محامين مهنيين هم نجاد البرعي وأحمد راغب ومحمد الباقر لجمع وصياغة الملاحظات على المشروع.
أفلح بيان مجلس النواب في تخفيف التوتر بالتأكيد عن ثلاث نقاط رئيسية. الأولى دمج توصيات الحوار الوطني التي رُفعت منتصف أغسطس/آب الماضي إلى رئيس الجمهورية بشأن الحبس الاحتياطي، التي أيدها الرئيس بتوجيه الحكومة لتفعيلها. والثانية توسيع منظور التعديلات فلا تقتصر على مشروع الإجراءات الجنائية نظرًا لارتباط قضية الحبس الاحتياطي بقوانين أخرى. أما الثالثة والأهم فهي تأكيد المجلس حرصه "على استيعاب كل الآراء إدراكًا بأن المسائل التشريعية قد تحمل وجوهًا متعددةً.. وأن المجلس ما زال يفتح أبوابه لمناقشة أي تعديلات قد يراها البعض ضرورية".
تثبت لغة البيان أن مجلس النواب برئاسة المستشار حنفي جبالي به كفاءات تجيد التعبير عن المواقف السياسية والتشريعية بصياغات منفتحة وإيجابية، واختيار ألفاظ تليق بالسلطة التشريعية المصرية التي يناهز عمرها 160 عامًا، ما يجعلنا نتساءل عن سبب تصدير رسائل سلبية طوال أكثر من أسبوعين، أضرت بحالة الجدل الموضوعي والمهني حول مشروع القانون.
بل إن البيانين الأخيرين من اللجنة التشريعية، اللذين كالا الهجوم لمعارضي المشروع ونقيب الصحفيين، أظهرا اللجنة وكأنها حزب سياسي أو طرف سيقوم على تطبيق القانون، والأمران يجافيان الطبيعة البرلمانية للجنة.
حوار.. لا معركة
انزعج البعض من حجم الهجوم على المشروع من نقابة المحامين، ثم نقابة الصحفيين، وعموم المحامين الحقوقيين، فسيطرت عليهم ذهنية "يا غالب يا مغلوب"، وربما تصوروا أنها "معركة" بالمعنى الحرفي العنيف، لا يُمكن فضها إلا بانتصار طرف وقمع آخر.
هذه أجواء لا تنتج قانونًا يتمتع بالموضوعية أو الاستدامة.
فأوّل شروط إصدار قانون يمثل عمادًا رئيسيًا لمنظومة العدالة، ويمس أكثر من مائة مليون مواطن، أن تُناقَش أفكاره وتوضع مواده في مناخ منفتح مفعم بالطمأنينة والترحاب، بإبداء الآراء المعارضة قبل المؤيدة.
يجب أن تضمن عملية صنع التشريعات، ضمن عشرات المعايير التي وردت في المراجع الدولية والمحلية، وجود فلسفة واضحة وهدف مستقبلي محدد، وعدم التسرع في اتخاذ قرار بحل مشكلة معينة بتغيير تشريعي طالما كان ممكنًا حلها سياسيًا أو تنفيذيًا، والابتعاد عن الانحياز وتوخي العمومية والموضوعية. ويجب أيضًا بحث الآثار السلبية المحتملة التي قد تترتب على كل نص، وأن يضع المشرع في اعتباره أهمية قبول المجتمع للقانون، وأن يكون قابلًا للتطبيق دون التسبب في مشاكل تثير اضطرابات عامة أو مواجهات فئوية.
وقد أجملت المحكمة الدستورية العليا بعض تلك المبادئ في عبارات كان ينبغي أن تتوقف اللجنة الفرعية التي أعدت المشروع واللجنة التشريعية عندها طويلًا، حيث خطّت في حيثيات حكم أصدرته برئاسة المستشار عوض المر عام 1996 أنه "كلما كان القانون أكثر اقترابًا من القيم التي أنتجتها الخبرة الاجتماعية، كلما كان أفضل ضمانًا لإرساء المفهوم التطبيقي للعدالة". واعتبرت أنه إذا اتسعت الهوة بين عملية صناعة القانون، ومفهوم التعبير عن الخبرة الاجتماعية والقبول العام، فسيكون القانون "قاصرًا عن إنفاذ حقائق العدل الاجتماعي، فلا يقدم حلًا ملائمًا لتصادم المصالح فيما بين الأفراد ومجتمعهم، مبتعدًا بذلك عما يكون لازمًا إنصافًا".
تجدر الإشارة إلى أن رئيس مجلس النواب المستشار حنفي جبالي كان رئيسًا لهيئة مفوضي المحكمة الدستورية عند صدور هذا الحكم.
ويرى القاضي سري صيام، رئيس محكمة النقض ومجلس القضاء الأعلى الأسبق، وصاحب التجربة الطويلة في العمل التشريعي، أن "التجاهل والنكران هما مصير أي تشريع يستقر في وجدان المواطنين أن مضاره أكثر من منافعه أو أن ما يُحدثه تطبيقُه من الظلم يجاوز ما يشيعه من العدل"، حتى وإن تسلحت قواعد القانون بأشد الجزاءات. ودعا في مقال له في العدد الأول من مجلة "القانونية" البحرينية، يناير/كانون الثاني 2014، إلى "وجوب مراعاة اقتناع أعضاء الجماعة بأن القانون لازم لحسن سير حياتهم ويحقق مصالحهم الراجحة ويوفر العدل لهم".
والترجمة الوحيدة لكل ما سبق، أن استئثار مجموعة محددة من الأشخاص، وإن كانوا أهم الخبراء وأقوى النواب خبرة، بمناقشة مشروع بأهمية الإجراءات الجنائية، لن يُنتج قانونًا يراعي جميع الأطراف والتبعات السلبية المحتملة. ولن يستفيد أحد على المدى الطويل من فرض رؤية تشريعية معينة بفزّاعة التصنيف السياسي.
لا يوجد قانون أهم من "الإجراءات الجنائية" ينشئ له البرلمان منصة إلكترونية لتلقي مقترحات المواطنين
ويبقى الحل الوحيد توسيع الحوار المجتمعي وضمان وجود ممثلين لجميع الأطراف ذات الصلة والمهتمين بالمجال العام والدفاع عن الحقوق والحريات الشخصية، وعدم التعامل مع المشروع بحساسية ذاتية وكأنه ملك لواضعيه أو لجهة معينة.
كما تقتضي موضوعية النقاش التعامل مع المشروع كمنتج مستقل دون شخصنة، وهو ما أكد عليه نقيب الصحفيين نفسه عندما تصدى بصرامة لأصوات حاولت التجريح في واضعي المشروع خلال الندوة التي أقامتها النقابة.
وكان فتح الحوار المجتمعي حول المشروع كفيلًا أيضًا بعدم إثارة حساسيات فئوية كالتي ظهرت بين القضاة والمحامين حول المادة 242 الخاصة بنظام الجلسات، لأن الحوار الشامل لكل الأطراف من شأنه ترفيع مستوى النقاش واستيعاب الإشكالات الفئوية داخل الصورة الأوسع الهادفة لتحقيق التوازن والعدالة.
أين الصياغات النهائية؟
خلَّفت الإجراءات المتعجلة للجنة التشريعية مشكلة فنية نواجهها حاليًا، وهي عدم وجود نص نهائي واضح للمشروع. فقد بدأت اللجنة دراسته يوم 20 أغسطس وعقدت اجتماعات متتالية دون إتاحة نسخ من النصوص قبل وبعد التعديل، واكتفى المراقبون بمتابعة ما ينشر في الصحف. ثم أعلنت موافقتها النهائية يوم 11 سبتمبر/أيلول دون شرح تفاصيل التعديلات التي أدخلتها، خاصة بعد ملاحظات نقابة المحامين، ولم يظهر حتى الآن تقريرها النهائي.
وأتصور أنه لا يوجد قانون أهم من "الإجراءات الجنائية" ينشئ له البرلمان منصة إلكترونية مفتوحة، تتيح القانون القديم وفق أحدث تعديلاته، والمشروع المقترح، وتوصيات الحوار الوطني ومقترحات النواب والجهات الرسمية والنقابات والمجتمع المدني، ويستطيع المراقبون أن يتابعوا من خلالها تطور نسخ المشروع والتعديلات التي تطرأ عليه أثناء النقاشات. بل ولِمَ لا تُفتح هذه المنصة لتلقي مقترحات وملاحظات من المواطنين، تتلقاها وتنقحها مجموعة من الباحثين البرلمانيين.
يُشجع بيان مجلس النواب الأخير على طرح هذه الفكرة لتدشين حوار مجتمعي تشاركي عصري يمتد لفترة زمنية مناسبة. لا أقول خمس أو عشر سنوات كما حدث في قانون الإجراءات الجنائية الحالي، الذي بدأ إعداده عام 1940 وظهرت مسودته الأولى 1945 وأُقرَّ عام 1950 وبدأ العمل به في العام التالي، ولكن لفترة تكفي لمعالجة كل الإشكالات بحلول تضمن ثلاثة عناصر هي: ظهور فلسفة وغاية القانون، واستدامته، واتفاقه التام مع الدستور.
ضمانات نجاح القانون الجديد
في العنصر الأول؛ لم يعكس المشروع أي تغيير في الفلسفة القائمة على الجمع بين سلطتي التحقيق والاتهام في يد النيابة العامة، ولا نعرف إذا كانت اللجنة التي وضعته درست إمكانية الفصل بين السلطتين وإحياء دور قضاة التحقيق والإحالة، لإضفاء مزيد من الضمانات للمتهم، ودعم استقلالية جميع الإجراءات، انتهاءً بقرار الاتهام.
ثم هل تطرقت الأعمال التحضيرية التي امتدت لعام ونصف العام، إلى مطلب إنشاء شرطة قضائية تكون مختصة بتنفيذ الأحكام؟!
وحتى فيما يخص الحبس الاحتياطي، فلا نجد تغييرًا جذريًا في نظرة المشروع للتدابير الاحترازية المؤقتة بطبيعتها. وبالتالي فهناك سؤال مبدئي عن سبب استحداث قانون جديد، طالما لم تمس التعديلات الجديدة بجوهره.
أما العنصر الثاني، وهو ضمان استدامة التشريع، فيجب أن يكون أولوية قصوى ليتمكن القضاة وأعضاء النيابة والمحامون والمتقاضون من استيعابه والتعامل معه بسهولة واستقرار. فـ"الإجراءات الجنائية" ليس قانونًا ثانويًا يسهل تعديله سريعًا إذا لم تتحسب السلطة التشريعية لجميع آثاره، أو إذا رغبت في إضافة المزيد من الحوافز أو التعامل مع بعض المشاكل العملية، كغيره من القوانين.
وبالنسبة للاتفاق التام مع الدستور، فإن ملاحظات المحامين والحقوقيين أجمعت على وجود شبهات دستورية في المشروع، كالمتعلقة بإضفاء حماية على المخالفات والجرائم المرتكبة من الموظف العام والمستخدم العام ورجال الضبط، واستثنائهم دونًا عن باقي المواطنين من الاختصام بالدعوى الجنائية المباشرة. وأيضًا منح المحكمة سلطة إقامة الدعوى من تلقاء نفسها إذا اعتبرت أن هناك أفعالًا تمثل إخلالًا بقراراتها واحترامها مما يحولها لخصم وحكم في وقت واحد، وتوسيع صلاحيات مأمور الضبط القضائي والسماح له باستجواب المتهم، وترتيب آثار مادية وعينية على الحكم الغيابي.
ولا مجال الآن للتوسع في الملاحظات وشرحها، انتظارًا للصياغات النهائية التي ستخرج من اللجنة التشريعية بعد قبول ملاحظات نقابة المحامين ودمج توصيات الحوار الوطني. لكن المهم أن يضع المشاركون في أي حوار قادم نصب أعينهم المبادئ الدستورية وأحكام المحكمة الدستورية العليا والمواثيق الدولية التي تلتزم بها مصر.
يستحق هذا القانون عناية خاصة كونه "يمس قطعة غالية من حياتنا الاجتماعية وهي الحرية الشخصية" حسب الفقيه الراحل الدكتور أحمد فتحي سرور، الذي يحذر من استخدام قانون الإجراءات الجنائية تحديدًا أداةً لتحقيق أهداف السلطة والتنكيل بخصومها على حساب الحرية الشخصية، مستدركًا "أمَّا حين يعلو مبدأ سيادة القانون، فإن نصوص الإجراءات الجنائية تكفل الضمانات لهذه الحرية في مواجهة السلطة، وتحول دون تحكُّمها".