صورة موّلدة بواسطة نموذج الذكاء الإصطناعي DALL-E
هاتف ذكي يعرض شعار تيك توك بجانب أصفاد معدنية وأكوام من العملات المعدنية أمام قضبان سجن.

المثقفون والتيكتوكرز.. من يسائل السلطة؟

منشور الثلاثاء 12 أغسطس 2025

 في كتابه الشهير خيانة المثقفين، اهتم المفكر الفرنسي جوليان بندا بالوصول لمفاتيح اللغز الذي يمكّننا من فك شفرة المثقفين المعقدة. متى يوافقون؟ وكيف يرفضون؟ ولماذا يستسلمون؟

الكتاب الأيقونة وجه اتهامًا واضحًا إلى كل مثقف خان مهمته في الدفاع عن القيم الإنسانية بعد أن اختار الاقتراب من السلطة؛ أي سلطة، وترديد رواياتها مهما بدت متناقضة أو ظالمة. 

بندا وكتابه الذي صدر في عشرينيات القرن الماضي كانا حاضرين بقوةٍ في الأسبوعين الماضيين ضمن الهجمة الأمنية التي طالت عددًا من مشاهير تيك توك؛ تلك التي تفجرت فجأة وبلا مقدمات وبلا سابق إنذار من أي نوع.

المثقف الناقد

في أزمة التيكتوكرز لم تكن المشكلة الوحيدة أن الرواية الرسمية فرضت حضورها بشكل طاغٍ ووحيد على المجال العام، بل كان الأصعب من هذا التماهي المرعب لقطاع من المثقفين مع تلك الرواية. 

تأييد ودعم وتصفيق تعدى الحدود والمنطق الطبيعي في التعامل مع مثل تلك القضايا. هجمة مرتدة من السلطة ورجالها شارك فيها المثقفون لأسباب غير وجيهة وغير مفهومة. فالمثقف الحقيقي يفقد دوره وتأثيره عندما يختار أن يساير السائد لا أن يسائله. وما بين المسايرة والمساءلة تكمن الحكاية. 

ذهب قطاع من المثقفين إلى استسهال التصفيق للروايات السائدة دون الاشتباك معها. في هذا الاستسهال أزمة كبرى وخطأ لا يغتفر. مشكلة تتعدى قضية التيكتوكرز لتصل إلى المجتمع، ثم لتأثير المثقفين وثقة الناس فيهم.

لا ينبغي أن يكون المثقف ظلًا لسلطة ولا صدىً لصوتها

أظهر ما كتبه البعض حول صدام الأجهزة الأمنية مع ظاهرة التيك توك حالةً من الرضا. بعد الإجراءات الرسمية بالقبض على التيكتوكرز ردد قطاع من المثقفين خطابًا يصف ما حدث بأنه "تطهير" مجتمعي حقيقي كان المجتمع في احتياج شديد له.

هذا الاحتفاء الذي تبناه كتاب وصحفيون وفنانون بدا ساذجًا عندما استند إلى معايير أخلاقية تحددها السلطة وأجهزتها وحدها دون مشاركة من أي طرف آخر مستقل.

الأصعب والأكثر مأساوية لم يكن في تبني الرواية الرسمية فقط، بل في موافقة هؤلاء على أدوات يرفضها المثقفون ويتصدون لها منذ سنوات بعيدة، على رأسها التشهير والوصم المجتمعي والاتهامات الأخلاقية والإيحاء بأن المجتمع يحتاج إلى "تطهير" عاجل. 

المؤكد أن أحدًا لا يجب أن يدافع عن محتوى فارغ أو فيديوهات تافهة وسطحية. ولا أحد عليه أن يقبل التواطؤ والتطبيع مع الابتذال.

لكن السؤال الرئيسي في القصة كلها يدور حول ضياع الخط الفاصل بين رفض المحتوى الذي يقدمه مستخدمو التيك توك، وهو حق مشروع للجميع، وبين الاصطفاف مع خطاب الوصم والتشهير قبل التحقيقات النهائية أو المحاكمة الجنائية وصدور أحكام من القضاء.

فالمثقف ليس قاضيًا حتى يصدر أحكامًا مبكرة معظمها أخلاقي. ثم تصبح الطامة الكبرى أن خطاب الوصم بات طوال الأسبوعين الماضيين الرواية الوحيدة والسردية الموحدة. هنا يجب العودة لكتاب جوليان بندا الذي وضع تعريفات واضحة لما يجب أن يكون عليه المثقف الحقيقي إذا أراد أن يمارس دورًا جادًا وتنويريًا في مجتمعه.

فليس عليه إلا أن يمارس هذا الدور حتى وإن ردد ما تكرهه السلطة ولا يتقبله المجتمع بسهولة. فلا ينبغي أن يكون المثقف ظلًا لسلطة، ولا صدى صوت للروايات الرسمية. هذه حقيقة لا تقبل الانتقاص.

فضيلة الشك

دور المثقف الحقيقي يبدأ من الشك. قوته تبدأ من قدرته على الاشتباك مع الرواية السائدة لا استنساخها.  حتى لو كلفه هذا الدور إعادة صياغة الأسئلة كلها، لا الإجابة على أسئلة مطروحة سلفًا. المثقف عليه أن يسأل: من يحدد الذوق العام؟ ومن يعرف الأخلاق؟ ولماذا هؤلاء بالذات الذين انطبقت عليهم التعريفات؟

ثم لماذا ثارت هذه القضية في هذا التوقيت؟ رغم أن هؤلاء المتهمين يقدمون محتواهم على تطبيق تيك توك من فترات زمنية ليس بالقليلة. هل كل ما جاء في الروايات الرسمية حقيقي وكامل، أم أن هناك أمورًا أخرى خفية؟

دور المثقف أن يسأل ويتحرى المعلومات ليصل إلى النتيجة الحقيقية لا ليؤكد الروايات المطروحة. يفعل كل هذا وهو يدرك أن في التسلط على المجال العام إضرارًا مؤكدًا بالمجتمع لا حماية له، وأن "تسييد" رواية واحدة مهما كانت القضية هو أكبر خسارة، وأن دور المثقف والصحفي والكاتب والأديب طرح الرواية الأخرى، والسؤال عن الصوت الغائب، وتفسير ما تم تغييبه عمدًا أو حتى دون قصد من أحد.

تهديد قيم المجتمع

بين الاتهام "بتهديد قيم المجتمع" الموجه للتيكتوكرز و"تهديد السلام الاجتماعي" الذي يوجه للسياسيين والمثقفين تشابه لا تخطئه عين. في الحالتين تنفرد السلطة بالاتهام والتعريف، ويتبنى مؤيدوها الاتهامات بلا توضيح.

والمؤكد أن مصر تعاني منذ سنوات من اتهامات نمطية توجهها السلطة إلى كل أصحاب الرأي بلا تعريف واضح ولا مراجعة من أي طرف. القبول باتهامات لفئات في المجتمع بالطريقة والأدوات ذاتها هو خطأ في حق البلد ذاته.

من يقبل التهمة الأولى الموجهة لشباب التيك توك دون نقاش عليه القبول بالتهمة الثانية عندما توجه للمثقفين دون تحقق. هنا يصبح الخطأ الذي وقع فيه قطاع من المثقفين خطرًا. 

مواقف غير محسوبة انتقلت بنا من الخطأ إلى الخطر. من التأييد على "بياض" إلى ترسيخ الاتهامات التي توجَّه إلى الجميع دون حوار أو فهم أو دراسة. بدور فاعل يلعبه المثقف في مجتمعه لا يصبح القانون أداة للانتقام السياسي، ولا وسيلة لفرض التسلط والاستبداد

وفي قبول المثقفين لاتهامات توجَّه لمواطنين دون فهم كل التفاصيل والأسباب استسلام للأمر الواقع لا يليق بدورهم ولا بمكانتهم التي رفعهم إليها المجتمع ولا الثقة التي وضعها فيهم.

النقاش حول الإجراءات التي اتخذتها السلطة ضد عدد من مشاهير التيك توك هو دفاع طبيعي ومستحق عن القانون، وتأكيد وترسيخ لفكرة أن دور النصوص القانونية هو حماية الحقوق والحريات، وتشديد نبيل على رفض الوصم والاتهامات الأخلاقية بدون ضوابط من أي نوع.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.