كأنها مأساة إغريقية، أو هي مفارقة لا تتكرر كثيرًا في التاريخ.
نفس الشعب الذي احتل الميادين بالملايين منذ 12 عامًا، ليطالب برحيل حاكمه بعد أن جثم على أنفاس البلد 30 عامًا متصلة، هو نفسه الذي يشتاق الآن لهذا الزمن ويحن إليه ويتمنى رجوعه.
و12 عامًا في رحلة التاريخ ليست مدة طويلة بالمرة. هذه مقولة مؤكدة.
في تحركات جمال مبارك، القليلة، والتفاف الناس حوله وترحيبهم به، ثم في كتابات وألاعيب علاء مبارك على السوشيال ميديا واحتفاء الناس بما يكتب، وتفاعلهم التام مع ما يقول، حكمٌ كاملٌ بالفشل، لا على الثورة، بل على السلطة الحالية، لا سيما سياساتها الاجتماعية والاقتصادية.
12 عامًا مرت منذ قيام ثورة 25 يناير 2011، وصلت البلد فيهم لمساحات غير مسبوقة من القمع السياسي والفشل الاقتصادي.
حنين المصريين إلى عصر مبارك ليس موقفًا ضد الثورة، فنفس الشعب هو الذي قام بها وشارك فيها وتفاعل معها، بل هو حنين أشبه برفض شامل لسياسات السلطة الحالية التي أوصلت الناس إلى الرغبة في الهروب منها، والاحتماء بزمن لم يكن هو الأفضل على الإطلاق لكنه كان يضمن لهم الحد الأدنى المناسب من المعيشة.
المؤكد أن الثورة لم تصل للسلطة حتى يستطيع الناس إصدار الأحكام ومقارنتها بالوضع الحالي، هنا فقط كان من الممكن أن نصدق أن الحنين لزمن مبارك هو موقف شعبي معادٍ لها. أما وقد تلت الثورة ثورة مضادة تمسح كل ما جاءت به من أهداف، وتمحو كل ما نادت به من شعارات؛ فإن المؤكد أن الحنين لمبارك وعصره هو رفض وإدانة واضحين لعصر الجمهورية الجديدة.
غلاء وفقر وخوف
تقديري أن هناك ثلاثة عوامل ساهمت في حنين الناس لزمن مبارك، تتعلق بجودة حياة المصريين اليومية التي تدهورت إلى حدٍ كبير، مقارنة بالأوضاع ما قبل ثورة يناير.
فعلى المستوى الاقتصادي، شهدت السنوات الأخيرة ضغطًا اقتصاديًا عنيفًا على الطبقتين الفقيرة والمتوسطة، اللتين تُمثلان الغالبية العظمى من مواطني هذا البلد. هذا الضغط الاقتصادي تمثَّل في غلاء فاحش وغير مسبوق، مس بشراسة السلع الأساسية التي تضمن استمرار حياة المواطن، ورفع تكلفة المعيشة في كل ما يتعلق بأساسيات حياته؛ بداية بأسعار السلع الغذائية، مرورًا بتكلفة فواتير خدمات الكهرباء والغاز والمياه وغيرها، ونهاية بتدني المرتبات مقارنة بالغلاء الفاحش، وارتفاع نسب التضخم بشكل كبير.
أضف إلى كل هذا شعور المواطن أنه مطالب بسداد ديون بعشرات المليارات من الدولارات اقترضتها السلطة الحالية، واستخدمتها في مشروعات لا تشكّل أي أولوية بالنسبة له، ولم تُدرّ على البلد دخلًا يرفع الأعباء الحياتية والمعيشية عن الناس ويسهم في الارتقاء بمستوى معيشتهم.
ومع استخدام الإعلام "المُوجه" كل هذه المشروعات والاحتفاء بها بشكل كبير وبدرجة عالية من المبالغة، في الوقت الذي يكتشف المواطن فيه أنه أصبح غارقًا في الاحتياج والفقر، وأن راتبه لم يعد يكفيه حتى منتصف الشهر، وأن أسعار الدروس الخصوصية لأبنائه وروشتة علاج أحدهم إذا مرض، أضحت عبئًا حقيقيًا على دخله الثابت الذي لا يتغير ولا يلاحق تقلبات الأسعار السريعة.
هذه المقارنة البسيطة بين هذا الذي يحدث الآن وبين عصر مبارك، رغم ما فيه من صعاب، يحسمها المواطن لصالح الأخير بشكل مباشر.
حرص مبارك على توفير حدٍ أدنى من المعيشة الكريمة، ومؤسسات تعبر عن المواطن، أحيا الحنين لعصره
أما ما يتعلق بالحقوق والحريات، فإن نظام مبارك لم يكن ديمقراطيًا بأي حال، ولم يكن تداول السلطة أمرًا مطروحًا على جدول أعماله أبدًا، ولم تكن مساحات الحرية المتاحة عظيمة. لكن رغم ذلك، كانت هناك مؤسسات سياسية تؤدي أدوارًا محددة.
فعلى سبيل المثال؛ لم تكن الانتخابات البرلمانية نزيهة تمامًا، وكان الحزب الوطني، الحاكم وقتها، يسيطر عليها بشكل كبير، لكن لم يخلُ المجلس من بضع أصوات معارضة، تشاغب وترفع صوتها بالرفض والاحتجاج، وتخلق متنفسًا لمواطنين يرون النواب وهم ينتقدون الحكومة. وكلنا يذكر أسماء نواب مخلصين مثلوا الشعب بشكل جاد وحقيقي: فكري الجزار، وأحمد طه، والبدري فرغلي، وعبد العظيم المغربي، وحمدين صباحي، وغيرهم، كانوا يمثلون صوتًا مختلفًا ومعارضًا، يكشف الحقائق ويراقب الحكومة ويعبر عن الناس.
وهنا تبدو لعبة السياسة واضحة، وصل النظام لمرحلة من الوعي أدرك أن أصوات المعارضة مطلوبة، بل إنها تسهم في استقرار النظام، وتمنحه شرعية في مواجهة أي انتقادات خارجية.
كما أن الأمر لم يقف عند حد الأصوات المعارضة في البرلمان، بل منح نظام مبارك الأحزاب، لا سيما في سنواته الخمس الأخيرة، هامشًا صغيرًا للحرية والحركة، ثم منح الصحافة هامشًا آخر من الحرية لتكتب وتنتقد من أصغر مسؤول حتى رأس النظام دون ملاحقات أو تضييق.
بتلك المساحات، غير الكبيرة، للأحزاب والبرلمان والصحافة والإعلام، شعر الناس أن البلد بها مؤسسات، وأنها أكبر من أن يتم اختصارها في شخص أو حزب، بل شهدت السنوات الأخيرة في حكم مبارك درجة معقولة من التعبير عن الرأي، ودرجة مقبولة من حرية الرأي والصحافة، وبالتأكيد فإن المقارنة بين وضعنا الحالي ووضعنا في عصر مبارك في كل ما يتعلق بالبرلمان والصحافة والأحزاب، سيصب فورًا وبلا جدال في صالح الأخير.
السبب الأخير في تقديري كان في عدم وجود سجناء رأي في عصر مبارك بالعدد الذي ترجحه التقديرات اليوم. فلم يحدث أن وصل عدد السجناء السياسيين إلى عشرات الآلاف في فترة زمنية واحدة، ولم يكن الخوف مسيطرًا على المواطنين بنفس الدرجة التي نعيشها الآن، إذا ما عبر أحد عن رأيه أو انتقد مسؤولًا في السلطة. وقلت بدرجة كبير ظاهرة القبض على المواطنين على خلفية التعبير عن آرائهم، وهو أمر يتذكره الناس إذا قارنوا واقع الحريات العامة الآن بالهوامش التي كانت متاحة قبل عام 2011.
ما نستحقه حقًا
الخلاصة أن عصر مبارك لم يكن ديمقراطيًا، ومبارك نفسه لم يؤمن بالديمقراطية، وكان زمنه الأكثر فسادًا بين من سبقوه، لكنَّ حرصه على توفير حد أدنى من المعيشة الكريمة، ومؤسسات تعبر، على استحياء، عن المواطن، ثم التحرر بدرجة مقبولة من الخوف، صبُّوا في صالح مبارك، وأحيوا الحنين لعصره.
هل معنى كل ما سبق أن علينا الدفاع عن عصر مبارك وتمني العودة إليه؟، الإجابة لا بكل تأكيد، فما نستحقه وتستحقه البلد لا الوضع الحالي ولا عصر مبارك، بل دولة العدل والحرية والكرامة والمواطنة كاملة بلا انتقاص.