حساب أحمد سراج على فيسبوك
الصحفي بموقع ذات مصر أحمد سراج، 12 يناير 2025

أحمد سراج.. بدلًا من مكافأته حبسوه

منشور السبت 25 يناير 2025

قبل أسبوعين، هاتفني الكاتب والشاعر الأستاذ أحمد سراج قائلًا إن ناظر المدرسة التي يعمل بها مدرسًا للغة العربية أبلغه أن هناك جهة أمنية سألته عما إذا كان إخوانيًا أم لا، وذلك على خلفية حوار أجراه في موقع ذات مصر مع ندى مغيث، زوجة الرسام والمترجم أشرف عمر المحبوس حاليًا بعد نشره كاريكاتير في المنصة اعتبرته السلطة مسيئًا لها. 

نفى الناظر لمن سأله أن يكون سراج إخوانيًا، وأكد أنه مدرس مثقف يؤدي عمله على خير وجه. ثم وجدت سراج يقول لي إن وقع مكروه لا تنس أولادي. وقتها شعرت بأن خطرًا يحدق به، لكن لم يكن بوسعي إلا أن أطمئنه، رغم معرفتي بأن استعمال المنطق في مقاربة ما يجري في بلادنا ضرب من البلاهة أو التفكير بالتمني.

بعد نحو أسبوع من هذا، وعند التاسعة من مساء ليلة حزينة، جاءتني مكالمة من صديق لأحمد يقول لي إنه اتصل بأحمد على رقميه فوجدهما مغلقين. وجربت أنا وحصلت على الجواب نفسه. هنا بدأت المخاوف تسري في أوصالي عما إذا كان ما خشي منه قد وقع بالفعل، ومع هذا دعوت إلى التريث قبل أن نعلن اختفاءه القسري.

تواصلنا مع أسرته في المنوفية، حيث يقضي بقريته إجازته الأسبوعية، وسألنا بمواربة زوجتَه، حرصًا على عدم إفزاعها، عمَّا إذا كان في بيته القروي أم لا؟ فكانت إجابتها لا، سيأتي نهاية الأسبوع. طلبنا من صديق له يسكن قريبًا من شقته البسيطة في القاهرة حيث يسكن وحده خمسة أيام في الأسبوع، أن يذهب ليطمئن عليه، وكان معه مفتاح الشقة، ففتح ولم يجده، وقتها أدركت ما جرى له.

بالعودة إلى الناظر، قال، بعد تردد طويل، إن هناك من أتى واصطحبه من أمام المدرسة فور خروجه منها ظُهرًا. ولم يكن الرجل في حاجة إلى أن يكشف عن هوية هؤلاء، فقد أدركنا أنهم من الأمن الوطني.

وتأكد الأمر في اليوم التالي حين قُبض على ندى مغيث إلى نيابة أمن الدولة العليا للتحقيق في اتهامها، خلال هذا الحوار، للقوة الأمنية التي ألقت القبض على زوجها المترجم ورسام الكاريكاتير أشرف عمر بالاستيلاء على نقود وأشياء أخرى من المنزل.

تحدثت مع صلاح الدين حسن، رئيس تحرير ذات مصر، وأسامة العنيزي، رئيس التحرير التنفيذي، كي يصدر الموقع بيانًا، وينشر خبرًا عن واقعة اعتقال سراج، وكذلك مع الدكتور جمال زهران، مدير مركز الاستقلال للدراسات، الذي كان سراج يشرف على ندوة دورية تعقد في مقره، ومع آخرين. واتصلت واتصلوا بكثيرين في سبيل معرفة مكان سراج، وما يجري له.

وصل الخبر إلى أسرته، فاتصلت بي زوجته ملهوفة عليه، ومثلها فعل كثير من أصدقاء سراج الذي أجرى معي أيضًا في وقت سابق حوارًا حول روايتي ملحمة المطاريد، ويعرف كثيرون علاقتي الطيبة به.

زال الاختفاء القسري حين ظهر سراج في النيابة، وبعد تحقيق طويل، تفاءل محامون حاضرون بالإفراج عنه، لا سيما بعد الإفراج عن ندى مغيث بكفالة مالية، لكن جاء القرار صادمًا للجميع بحبسه 15 يومًا، وإيداعه سجن العاشر من رمضان.

عرفت سراج من موقف يدل على ضيقه بالفساد ونبله في آن. ففي عام 2014 فازت روايتي شجرة العابد بجائزة اتحاد كتاب مصر في الرواية، وما إن أُعلنت النتيجة حتى انبرى كاتب وناقد وكتب على فيسبوك "أنا كنت أُحكّم في الجائزة، ورواية عمار علي حسن لم تمر عليِّ".

وكما أخبرني سراج فيما بعد، ووقتها لم أكن أعرفه، فقد استشاط غضبًا حين قرأ ما كتبه الناقد، وأسرع إلى اتحاد الكتاب ليعرف الحقيقة، فقيل له إن الرواية فازت بالجائزة العامة للاتحاد، أما الكاتب والناقد فكان ضمن لجنة تحكيم في أحد فروع الجوائز الخاصة، وهي جائزة الدكتور حسن البنداري، وتقدمت لها ثلاثة أعمال فقط، ومن اختارته اللجنة أعلن فوزه بالفعل.

دون أن يكون بيني وبينه أي لقاء أو اتصال، وبعد أن عرف سراج الحقيقة، كتبها على فيسبوك. لفت صديق انتباهي إلى ما كتبه سراج مدافعًا عني وقرأته، فسعيت للحصول على رقم هاتفه لأشكره، ومن يومها تجددت وتعددت لقاءاتنا، فلم أجد فيه سوى رجل يسعى بشرف وبلا كلل ولا ملل. يجتهد في الكتابة، ويتابع الوسط الثقافي عن كثب، يقترب من كتاب وشعراء قرأ لهم كثيرًا، ويكتب عنهم، لمجرد أنه يتحمس لهم، فنيًا وإنسانيًا.

ليس من المستساغ أن ينطلق معرض القاهرة الدولي للكتاب بينما السلطة تحبس كاتبًا وشاعرًا في رأي

وحين يكلف سراج بشيء يؤديه كأنه آخر أعماله، يبادر ويكد ويجتهد ولا يشغله سوى أن يظهر ما عمله في أفضل صورة دون أن يشغله أي عائد مادي. أتذكر أنه حين قرر محاورتي حول ملحمة المطاريد أرسلت له تقريرًا يلخصها ليعد منه الأسئلة، لكنه طلب مني النص كاملًا، فقلت له: إنها ثلاثة أجزاء في تسعمائة صفحة، ونحن سنسجل غدًا. رد قائلًا: لا بد أن أرى النص كله.

وجاء في  مساء اليوم التالي مجهدًا تبدو عليه آثار إرهاق شديد، وقال لي: قرأت الرواية كلها. نظرت إليه مذهولًا، فواصل: جذبني النص ولم أستطع النوم. لكني عزوت ذلك إلى إتقانه عمله قبل جاذبية النص. وحين دار بيننا حديث حول الرواية أدركت صدقه، فقد كان مُلمًّا بالتفاصيل الصغيرة عن الأحداث والشخصيات والأماكن والمواقف، وبلغ به الإتقان حد إعداد شجرة للعائلتين المتنافستين على مدار خمسة قرون ومنهما خرج أبطال الرواية.

بان لي سراج طوال الوقت مثقفًا واسع الاطلاع، يحرص على الابتعاد عن الخطوط المتعرجة، ويهرب من التطرف والتعصب هروب السليم من الأجرب، ويتقبل ضغائن بعض المثقفين وإحنهم بصدر رحب، ويفرح حين يحصل أحد على شيء يستحقه، والعكس صحيح، ويؤمن إيمانًا لا يتزعزع بأنه لا يبقى في الأرض إلا ما ينفع الناس.

غدًا الأحد سيعرض سراج على النيابة من جديد، وكلّي أمل في الإفراج عنه قبل انقضاء الـ15 يومًا المقررة لحبسه. إفراج لا يترك وراءه أي ذيول، فليس من المستساغ أن ينطلق معرض القاهرة الدولي للكتاب بينما السلطة تحبس كاتبًا وشاعرًا في رأي، ومثله يجب ألا يُعاقب في رأي أو مقولة أو إدارة حوار، لا يبغي منه شيء سوى السعي وراء الحقيقة، وهذا لا يغضب بالطبع إلا من يكرهها.

في خاتمة المطاف، أقول لمن يجهل اسم أحمد سراج إنه المدرس المثقف الوطني صاحب العقل النقدي، وهو الرجل الذي يقف على عدد من الكتب في الشعر والمسرح والرواية والكتابات النقدية والشهادات الأدبية، وهو من نشر في صحف ودوريات داخل مصر وخارجها مقالات عن كبار الكتاب، وأجرى حوارات معهم، ومثله لا يستحق الاعتقال إن قال رأيه، أو حاور أحدًا حول آرائه وأفكاره، إنما يستحق أن يُكافأ، أو على الأقل يترك ليؤدي دوره في إخلاص وتفانٍ.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.