منذ انطلاق الحياة النيابية في بلادنا قبل 150 سنة لم يمر المصريون بهذا المستوى من ضعف التمثيل، أو انعدامه تقريبًا. حتى في أيام الاحتلال الإنجليزي، الذي جثم على صدر البلاد سبعين سنة، كانت لهم المنافذ والمنابر والمؤسسات التي تحمل مطالبهم وتعبر عنهم.
فالمصريون، على مدار سنوات حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، يجدون كل يوم قرارات وقوانين وتشريعات ومشروعات واتفاقيات لا يعلمون عنها شيئًا، ولا يسمع أحد أصواتهم حولها، أو يبين لهم مصلحتهم فيها.
كما لم تعد هناك منابر أو نوافذ للوقوف على آراء الناس فيما يجري، مع تراجع دور الوسائط السياسية والاجتماعية، التي كان بوسعها قبل عقود أن تحمل مواقف الناس إلى المتحكم في القرار، اللهم إلا التقارير الأمنية التي تراعي مصلحة الحاكم بالدرجة الأولى.
في الحقيقة، عانى المصريون عبر الزمن من مشكلة "تمثيل"، فالناس على اختلافهم لا تقدر إلا قلة منهم على إيصال صوتها. وحتى إن استطاعوا في زمن السوشيال ميديا، فليس هناك ما يضمن سماع أصواتهم، وإن صرخوا في أذن سلطة ساهية أو لاهية أو طاغية، لا تنصت إلا لنفسها، أو لا تعنيها الاستجابة لنداء الطالبين والناصحين.
تستمر هذه المشكلة رغم تعدد روافد التمثيل أو منابره، لا سيما بعد أن صارت مجرد هياكل فارغة، تزعق فيها الريح. فالمجالس النيابية والنقابات وجماعات الضغط والمصالح والصحافة والإعلام، والشخصيات الوسيطة من قادة الرأي، وحتى وسائل الإعلام الجديد، صارت مكبلة أو عاجزة عن حمل صوت الناس إلى أصحاب القرار.
ويمكن شرح هذا الأمر على النحو التالي:
1 ـ المجالس النيابية
رغم عمر الحياة النيابية المصرية المديد، فإنها لم تصنع تجربة قوية تشكل رافعة للمسار السياسي، تأخذه من الاستبداد والشمولية إلى الديمقراطية، التي لا يمكنها أن تقوم إلا بتمثيل صادق للشعب، بما يعزز قدرته، عبر من ينتخبهم، على الرقابة والتشريع، وبما يمثل مصالحه.
فالمنحنى الذي سارت فيه تلك التجربة كان كلما صعد عاد إلى الهبوط، حتى انتهى في الفصل الأخير منه إلى مراضاة السلطة التنفيذية أكثر من كسب رضا الشعب، الذي ذهب إلى صناديق الاقتراع مدليًا بصوته، كي يجلس مئات النواب في مقاعدهم.
فعلى مدار عقود من الزمن، لم تتح فرصة كاملة للمصريين كي يختاروا ممثليهم بحرية، وفي انتخابات نزيهة. وأدى هذا طوال الوقت إلى وجود فجوة بين مصالح الناس والقوانين والتشريعات التي تسنها المجالس النيابية، فهي تعبر في حقيقتها عن مصلحة السلطة التنفيذية أو أهوائها، ومعها المنتفعين من النظام السياسي سواء كانوا كبار رجال الجهاز البيروقراطي أو رجال الأعمال أصحاب الحظوة. وتحولت المؤسسة التشريعية إلى مجرد باب إجرائي شكلي لإضفاء مشروعية على قرارات الحاكم.
2- النقابات والجمعيات الأهلية وجماعات المصالح
هذه الكيانات من الروافع الأساسية للمجتمع المدني، فوظيفة النقابات الدفاع عن مصالح أعضائها، ودور جماعات المصالح تجميع الإرادات حول القضايا التي تتبناها، والضغط بها على السلطة التنفيذية من أجل أن يأتي قرارها منحازًا إلى فئة أو شريحة أو جماعة أو تجمع مهني أو حرفي أو فكري ما. ومهمة الجمعيات الأهلية تلبية احتياجات من يقصدونها، على اختلاف المجالات التي تعمل فيها.
وتحقق هذه الكيانات الثلاثة أهدافها إن كانت تعمل في ظل نظام سياسي ديمقراطي، والعكس إن كان النظام مستبدًا. إذ تسعى الأنظمة المستبدة إلى تأميم عمل المجتمع المدني، أو تقييد دوره، فيتحول إلى هياكل فارغة. وحدث ذلك بشكل فاضح في السنوات الأخيرة.
يعتقد السيسي أن الحرية الإعلامية التي أتاحها مبارك هي التي أسقطته
3- الأحزاب السياسية
وهذه تعد، نظريًا، الرافعة الأولى للحياة العامة، والمدارس الأساسية المشروعة لتعلم السياسة وممارستها. لكنها في الواقع تعاني من تقييد شديد، فما إن انتقلنا من الحزب الواحد متمثلًا في الاتحاد القومي، الذي ورثه الاتحاد الاشتراكي العربي، حتى أصبحنا أمام "تعددية مقيدة" يهيمين فيها "حزب مصر العربي"، ثم "الحزب الوطني الديمقراطي" الحاكم على الحياة السياسية. بينما يسمح أن تقام على جانبيه أحزاب ضعيفة من فرط حصارها، فإن تمردت ضُربت بقسوة، عبر آلة الاختراق الأمني وأبواق التشويه، لتعود راضية بدور هامشي.
واختلف الأمر بعد قيام ثورة يناير، إذ سنحت فرصة لقيام أحزاب قوية وتعددية حقيقية لكنها سرعان ما أجهضت، تارة بسبب تدبير القوى المضادة للثورة، وأخرى بسبب عيوب ذاتية شابت هذه الأحزاب، ومنها افتقادها للديمقراطية الداخلية، لينصرف الناس عنها بمرور الوقت، لنعود مرة أخرى إلى تعددية مكبلَة، لا يمكن أن تمثل، حتى بما فيها "حزب مستقبل وطن" المساند للرئيس، الشعب المصري تمثيلًا صادقًا وأمينًا، أو على الأقل معتبرًا ومقنعًا.
4- الإعلام بمختلف أنواعه
لعب الإعلام المصري دورًا مهمًا، على مدار عقود طويلة، في التعبير عن مشاكل الناس ومصالحهم، فرأينا تحقيقات وحوارات وتقارير ومقالات رأي، تعبر عن الناس، وتنحاز إليهم، وتتعقب كل عسف إداري أو فساد يخصم من رصيد المصلحة العامة. وفُتحت إذاعات وقنوات وأبواب صحفية لعرض المشكلات الحياتية.
وبلغ الإعلام المصري ذروته في تمثيل الناس قبيل ثورة يناير 2011، مستغلًا الهامش الذي أتاحته السلطة، وما انتزعه الكتاب والصحفيون والإعلاميون، ومعهم السياسيون، عبر نضال مضن وإصرار قوي. وكان ذلك الهامش يضيق في الإعلام الرسمي لكنه لا ينعدم. وكان يتسع في صحف المعارضة إلى حد كبير. وجاءت الصحف والفضائيات المستقلة لتفسح الطريق واسعًا أمام "الخبر"، فحولت التفاصيل الصغيرة لحياة المصريين إلى مادة خبرية لا تتوقف، فزاد التوزيع، وارتفع الإنصات، واتسعت المشاهدة، لينال الإعلام حريته كاملة مع ثورة يناير وفي السنوات الثلاث التي أعقبتها.
لكن هذه الحرية سرعان ما أخذت في التراجع، حتى توقف نبضها تمامًا، ولم يبق للصحافة والإعلام إلا شهيق وزفير خافت يتلقاه جسد خامد، ليس بميت، لكنه ليس قادرًا على الوقوف. فمصر عادت إلى الإعلام المُهيمَن عليه تمامًا من السلطة السياسية في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي يعتقد في أن الحرية الإعلامية التي أتاحها مبارك هي التي أسقطته، أو ساهمت في ذلك إسهامًا كبيرًا وعميقًا.
وقاد هذا الاعتقاد إلى تبني خطة استيلاء على المنابر الإعلامية كافة، فعاد الرقيب أقوى مما كان في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، وآلت ملكية صحف وإذاعات ومحطات إلى جهات رسمية، ووضعت شروط قاسية تحول دون تمكن الأفراد من إطلاق منابر إعلامية، وتم حجب مئات المواقع على شبكة الإنترنت.
وبذا تحول الإعلام من التعبير عن مطالب الناس ومصالحهم إلى التسبيح ليل نهار بحمد السلطة السياسية، فلم يجد المصريون أمامهم من سبيل سوى اللجوء إلى منابر إعلامية أطلقها مصريون في المنافي، أو الإعلام الأجنبي الناطق باللغة العربية، أو إعلام عربي يهتم بالشأن المصري. لكن كل هذا يضيق بتمثيل الناس بشكل كامل، مثلما كان قُبيل ثورة يناير وبُعيدها.
وجاءت السوشيال ميديا لتعوض ذلك النقص، فانطلق المصريون يعبرون عن مواقفهم، ويبدون آراءهم على فيسبوك وتويتر ويوتيوب وتيك توك، إلى جانب غرف الدردشة، مع تراجع الوسائل الأقدم قليلًا مثل المدونات والمنتديات. لكن الإعلام الجديد لم يُترك حرًا، إذ سرعان ما راحت السلطة تطارده، فقبضت على مدونين وصناع محتوى وأصحاب آراء، فبثت الخوف في نفوس كثيرين ليصبحوا أكثر حذرًا في التعبير عما يريدون، وتبتلع أغلبية الناس ألسنتها، وتكف عن النقر على مفاتيح الهواتف والحواسيب لقول شيء ما.
5 ـ السينما والدراما
منذ أن نزلت السينما المصرية إلى واقع الناس بفيلم "العزيمة" صارت منبرًا مهما للتعبير عن أحوال الناس وتصوراتهم ومصالحهم. وكذلك الدراما، التي لحقت بالسينما في التعرض للمشكلات الاجتماعية، وتناولتها بجرأة.
لكنهما، السينما والدراما، لم تسلما من أنياب السلطة السياسية، التي راحت تتحدث عن "فن هادف"، وحصرت الهدف في التعبير عما تريده هي، وعرض تصورها للوطنية والفكر السياسي والاجتماعي ودور الثقافة ومصالح الدولة ومقتضيات الأمن القومي وتاريخ البلاد. ثم سارعت إلى التحكم في إنتاج الأفلام والمسلسلات الإذاعية والتليفزيونية، والتحكم في عرضها، من خلال وضع اليد على دور السينما، وامتلاك الفضائيات والمحطات الإذاعية.
6 ـ الشخصيات العامة الوسيطة
هناك أشخاص كانوا قادرين، بما اكتسبوه من مكانة أو وجاهة أو نفوذ معنوي، أن يعبروا عن احتياجات الناس ومصالحهم، أو يلينوا العلاقة بين أهل الحكم وسائر أفراد الشعب، أو بين الحكام والقوى السياسية والاجتماعية من أحزاب ومؤسسات مجتمع مدني.
وتجد هذه الشخصيات متنفسًا لعملها في ظل نظام سياسي منفتح، وتفقد كل قدرة على أداء دورها، مع نظام مغلق، منفرد بالقرار، لا ينصت إلى أحد، سواء كانوا ناصحين له، أو مختلفين، ولو طفيفًا، معه. ولم يعد خافيًا على أحد أن القنوات إلى متخذي القرار في مصر حاليًا باتت مسدودة.
إن هيمنة السلطة التنفيذية على كل تلك الوسائط في السنوات الأخيرة، وبشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ مصر المعاصرة، جعل المصريين دون تمثيل حقيقي. فمواقفهم مقموعة، وآراؤهم محجوبة، ويجري التصرف في شؤونهم جميعًا دون اعتبار لوجودهم، وكأن المجتمع غاب تمامًا، ولفه النسيان.