في اليوم الذي حضرت فيه مع حقوقيين وصحفيين بارزين جلسة الحوار الوطني المخصصة لمناقشة الحبس الاحتياطي، الأسبوع الماضي، انتشرت ردود أفعال ناقدة، خاصة وأن الجلسة تزامنت مع القبض على الزميل أشرف عمر، رسام الكاريكاتير في المنصة، وقبله بأسبوع الزميل خالد ممدوح الصحفي في موقع "عربي بوست"، في إصرارٍ مستمرٍ على استهداف المعارضين بالحبس.
أثناء الجلسة، كان يفصلني عن صديقي المحامي محمد الباقر كرسي واحد فقط. في إحدى الاستراحات، قرأنا سويًا تعليقًا على فيسبوك ينتقد مشاركته في الجلسة أيضًا، كُتب بطريقة "حتّى أنتَ يَا باقر". ابتسم بتسامحه المعهود مكتفيًا بهز رأسه تُفهمًا.
ربما أكون أكثر قدرة على فهم مشاعر وأحاسيس باقر بحكم مروري بتجربة مشابهة. فمن يقضي سنوات في السجن يخرج مُحمَّلًا بمشاعر الذنب ومُلاحقًا بمسؤولية القيام بكل جهد ممكن، للمساعدة في إخراج أكبر عدد من رفاق السجن الذين شاركوه أقسى الظروف، ليتمتعوا بحريتهم ويعودوا إلى أحضان أسرهم كما حدث معه.
بعد خروجي من السجن، ولشهور طويلة، كنت كلما ركبت سيارتي وتجولت بحرية في الشوارع أتذكر أن رفاق الزنازين لا يزالون ينتظرون بفارغ الصبر ساعة التريض اليومية، للخروج من الزنزانة الضيقة المغلقة طوال اليوم إلى ساحة العنبر، المغلقة بدورها، حيث كنا نلف وندور فقط لنقي عظامنا من التيبُّس، مثل حيوانات في قفص.
وكلما استلقيت على سريري المريح، أستعيد ظروف النوم في الزنزانة على بطاطين فوق سرير من الصاج، وكيف كانت المخدة التي نجحت في تهريبها بمساعدة سجين جنائي بعد نحو عام، بمثابة هدية من السماء.
أما شهور العذاب العظيم في الصيف قائظ الحرارة داخل الزنزانة، والتصبب عرقًا من كل بقعة في جسدي الذي كان يشع حرارة بدوره، وكيف أن زملائي وأصدقاء مقربين ما زالوا يعانون نفس هذه الظروف، فأتذكرها كلما أمسكت بريموت التكييف. ومع كل مكالمة هاتفية أو لقاء مع أقارب أي من السجناء، تحضر ذكريات معاناة العائلات في روتين الزيارة والتفتيش المهين.
هذه الذكريات المؤلمة المتلاحقة هي ما دفعتني للمشاركة في الجلسات التمهيدية للحوار الوطني من الأساس. ولا يراودني شك أن تجربة السجن المريرة هي الدافع الرئيسي لأصدقاء آخرين للمشاركة في جلسات الحوار، والتعامل بإيجابية مع أي مبادرات ووعود يقدمها النظام لإنهاء ملفات عدد من المحبوسين احتياطيًا.
لم تكن قنوات الحوار مجدية في كل مرة لكنها نجحت في الإفراج عن الكثير من المحبوسين
ورغم تراجع حماستي بعد ثلاث سنوات على خروجي، مقارنة بحماسة الباقر الذي يحتفل هذه الأيام بمرور سنة على نيل حريته بعد أربع سنوات في السجن، يبقى المشترك بيننا الاتفاق على ضرورة الإبقاء على قنوات اتصال مفتوحة مع الداعين للحوار، والاستفادة منها لإنقاذ من يمكن إنقاذهم من المحبوسين، وإن لم تتحقق كل المطالب التي نسعى إليها، على رأسها التوقف عن النظر إلينا باعتبارنا خطرًا يدعو إلى الفوضى ويهدد الأمن القومي.
أثناء نقاش مع صديقة عن جلسة الحبس الاحتياطي، التي حضرها نقيب الصحفيين خالد البلشي والمحاميان نجاد البرعي ونبيه الجنادي والصحفي محمد صلاح والحقوقي كريم عنارة، قالت إن المشكلة هي أن "النتايج محدودة والموضوع طوّل ونفس النهج مستمر بدون تغيير. طبيعي الناس تبدأ تشك في جدوى مشاركة رموز ليها مكانتها عندنا".
أعتقد أن هذا التقييم موضوعي وحقيقي، ولكن ما ينقصه هو إدراك التركيبة المعقدة للدولة المصرية وأجهزتها الأمنية، وأن هناك أطرافًا في الدولة لا تزال ترى أن القبضة الأمنية المشددة هي الوسيلة الوحيدة لضمان الاستقرار في ظل ظروف اقتصادية صعبة وإقليم مشتعل.
تستند هذه الرؤية على قناعة سائدة لدى مسؤولين عن ملف الأمن الداخلي بأن هامش الحرية المحدود الذي تمتعنا به قبل ثورة يناير انتهى بخروج المواطنين إلى الشوارع وإطاحتهم بالنظام، وهي قناعة تتجاهل أي عوامل أخرى مثل شيخوخة مبارك على مقعده ومساعيه للتوريث وتفشي الفساد والتعذيب.
ينطلق الإصرار على تجنب أي حوار مع النظام والتشكك في جدية نواياه من دوافع مبدئية ومثالية، لكن الواقع القائم تجاوزها، وأصبح ضروريًا الحفاظ على قنوات الاتصال مفتوحة مع النظام للتعامل مع العثرات التي لن نتوقف قريبًا عن مواجهتها، من قبيل إلقاء القبض على أشرف عمر وخالد ممدوح، وقبلهما المتضامنين مع فلسطين والمعارض أحمد الطنطاوي.
صحيحٌ أن هذه القنوات لم تكن مجديةً في كل مرة، لكنها نجحت مرات عديدة في الإفراج عن مجموعات من المحبوسين، كما حدث مع عدد من الطلبة المتضامنين مع فلسطين وقبلهم المتظاهرات اللاتي قبض عليهن أثناء الوقفة الاحتجاجية النسائية أمام مقر الأمم المتحدة في المعادي، وغيرهم.
ربما يطرح الإفراج عن مجموعة مقابل القبض على غيرها أسئلة متشككة عن جدوى الأمر كله، ولكن المشكلة أن الموقف الصدامي والرفض القاطع لأي حوار بحجة "النقاء الثوري"، سيغلق الباب كليًا أمام أقل فرصة متاحة لتحريك ملف السجناء، وطرح مطالب الإصلاح السياسي عمومًا.
تؤثر قنوات الحوار هذه على حياة الآلاف من السجناء السياسيين وأسرهم، وهو ما دفع القائمين على ما يعرف بـ"مبادرة أسر سجناء مصر السياسيين" إلى تقدير مشاركة الشخصيات المعارضة والمستقلة في جلسة الحبس الاحتياطي الأخيرة بحثًا عن أي أمل لخروج أحبائهم.
سقف توقعاتنا ليس عاليًا، والمصاعب التي نواجهها جمة وكثيرة، لكني كنت أتمنى تفهمًا ومرونةً أكثر من أصدقاء ورفاقِ درب، يعرفون أن دوافعنا للمشاركة هي الاستفادة من أي منبر متاح لعرض مطالبنا، والحصول على أقصى ما يمكن تحقيقه في ظل الظروف المعقدة الحالية، التي نواجه فيها على الجانب الآخر تيارًا في النظام يسعى إلى غلق أبواب السجن على المعارضين.