تعرفتُ على هشام قاسم في مطلع تسعينيات القرن الماضي، بعد أن التحقت لتوّي بالعمل صحفيًا في الأهرام ويكلي التي تصدرها المؤسسة العريقة بالإنجليزية، وكان هو يبدأ مشروعًا متميزًا كناشر لإصدار صحيفة منافسة خاصة، باللغة ذاتها، اسمها "كايرو تايمز".
كان هناك هامش منفتح في "الأهرام ويكلي" لتناول قضايا محلية سياسية واجتماعية لا يتم تداولها عادة في الصحف القومية التي تصدر باللغة الإنجليزية، بعد أن اقتنعت إدارة "الأهرام" في ذلك الوقت أن الإصدار الجديد لن يكون مقنعًا لقرائه من الأجانب، ما لم يتمتع بقدر معقول من الحرية بعيدًا عن الشعارات الممجوجة.
ولكن "كايرو تايمز" التي أطلقها هشام كانت أكثر جرأة في طرح قضايا انتهاكات حقوق الإنسان، في ظل المواجهة حامية الوطيس حينها بين قوات الأمن و"الجماعة الإسلامية"، التي استمرت نحو سبع سنوات وانتهت بمذبحة الأقصر عام 1997. كانت الصحيفة تصدر على ورق فاخر بقطع خاص وبصور ألوانها زاهية، في وقت لم تتوفر فيه هذه الإمكانيات لدى الصحف القومية.
ولكن الأهم أن "كايرو تايمز" قدمت هامشًا أكبر من الحرية لمناقشة قضايا كانت تعد من المحرمات في الصحف التقليدية، مثل الحريات الشخصية وحقوق الأقليات، سواء في مجال السياسة أو الفنون والأدب.
في ذلك الوقت، لم تكن القيود المفروضة على الإعلام تتضمن التوسع في الحبس الاحتياطي لسنوات طويلة، وكان هناك هامش ولو محدود لطرح القضايا الحساسة للنقاش؛ مشروع التوريث من الأب للابن، وتزوير الانتخابات، وحالة حقوق الإنسان، والمحاكمات العسكرية للمدنيين.
أسماء مستعارة
بعد نحو ثلاثين عامًا، أتمنى أن تسقط بالتقادم خطيئة تعاوني سرًا كصحفي، وباسم مستعار، مع "كايرو تايمز". لم يتعلق الأمر بالحصول على مبلغ صغير حتى بمعايير ذلك الوقت لدعم دخل صحفي شاب، بل بما كان يشجعه ويدعمه هشام الذي يكبرني بثماني سنوات؛ حق القراء في أن يطلعوا على معلومات حقيقية وذات مصداقية، وأن ينعكس في الصحيفة ما يهم القارئ وليس ما تفرضه علينا السلطات من دعاية رسمية؛ فجة أحيانًا ولا يصدقها عقل.
كانت علاقتي مع هشام مهنية وشخصية، ودائمًا ما أثار إعجابي بتحليلاته ومواقفه الجذرية من القضايا السياسية، والأهم إيمانه بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وكذلك حرية الإعلام.
تفرقت بنا السبل لاحقًا، ولكن الصحافة جعلتنا نبقى دومًا على تواصل، كصديقين وزميلين. توجهت إلى واشنطن للعمل كمراسل صحفي في العام 2002، ثم عرفت بعد ذلك بسنوات أن هشام بصدد إطلاق أول صحيفة مصرية خاصة اسمها "المصري اليوم".
شعرت بفرح كبير، وتحمست لإصدار أول صحيفة خاصة من القاهرة، تتناول عناوينها الرئيسية القضايا التي تشغل بال المواطنين حقًا، سياسية واقتصادية واجتماعية، دون أن تكون مضطرة لتضع صورة الرئيس في صدر صفحتها الأولى يوميًا، على ثمانية أعمدة، مع عناوين جافة لا محتوى فيها أو مضمون.
وكذلك كان ورق "المصري اليوم" نظيفًا لا يترك آثار الحبر في الأصابع، والصور واضحة وترتيبها سهل للقارئ. كان هناك اتفاق ضمني بيني وبين هشام على أن كلينا يحب مهنة الصحافة، ويرى أن بها مجالًا واسعًا للإبداع إرضاءً للقراء، وهو ما سيؤدي حتمًا لزيادة التوزيع، ويعزز المصداقية، وهذا هو الأهم.
في 2008 كنت في إجازة من الأهرام للعمل مراسلًا لقناة "الجزيرة" من مقر الأمم المتحدة في نيويورك، عندما التقينا مجددًا أثناء عطلة في القاهرة، وهنا الاعتراف الثاني في هذا المقال. اتفقنا أن أمدَّ الصحيفة التي ترأَّس تحريرها الزميل مجدي الجلاد، بالأخبار المتعلقة بمصر في الولايات المتحدة وداخل المنظمة الدولية، ولكن أيضًا باسم مستعار، لأنني لم أكن أرغب أن يلحق بي ضرر أو يلاحقني النظام عند عودتي للقاهرة.
من غير المعقول أن يقضي المعارضون في مصر حياتهم يسعون للإفراج عن سجناء ما، ليفاجأوا بعدها بحبس آخرين
لم تكن "المصري اليوم" في هذه المرة تدفع لي على عكس "كايرو تايمز"، ولكن فقط في تلك الصحيفة الجديدة في ذلك الوقت، كنت أستطيع أن أكتب تقريرًا عن تغطية الصحف الأمريكية لزيارة مشروع الوريث جمال مبارك لواشنطن، وبمن التقى في البيت الأبيض والخارجية الأمريكية، والتصريحات التي يدلي بها في لقاءاته مع أعضاء الكونجرس ومراكز الأبحاث. هشام، كناشر لـ "المصري اليوم"، كان يدرك بحسه الصحفي والمهني أن ما سيرفع توزيع الصحيفة هو نقلها أخبارًا وتقاريرًا لن تنشرها الصحف اليومية الحكومية.
أكثر من قضية سب
استرجعت ذلك الشريط الطويل الممتد وأنا أتابع ما يتعرض له الزميل والصديق هشام قاسم من معاناة منذ نحو عشرة أيام. اختلفت مع هشام في سنوات لاحقة بشأن مواقف سياسية مهمة ليس من المناسب الخوض فيها الآن، وذلك ليقيني أن كل ما يواجهه منذ توجهه للإدلاء بأقواله في قضية سب وقذف عادية، عادة ما يتم فيها إخلاء السبيل بضمان محل الإقامة من دون كفالة، مرتبط بمواقفه السياسية وتصريحاته الصارمة في معارضته للنظام.
أتصور شخصيًا أن الجهات المعنية لم تتوقع امتناع هشام عن دفع الكفالة، وربما كان الهدف إبلاغه رسالة أن هناك حبلًا ممدودًا الآن في يدهم، يتمثل في قضية يمكن تحريكها لو شاؤوا، كما يمكن وضعها في الدرج وتناسيها.
ولكن يبدو أن تغريدة كتبها هشام لتأكيد مبررات رفضه لدفع الكفالة، وتناول فيها رئيس الجمهورية، حسمت القرار. وبينما كان محاموه يتأهبون للحصول على قرار بإخلاء سبيله من قضية السب والقذف لكونه شخصية عامة معروفة، فوجئ الجميع بقضية ثانية جاهزة، بالشهود، تتهم هشام بالتعدي بالسب والقذف على ضباط قسم شرطة السيدة زينب في الليلة السابقة، التي كان بصحبة هشام فيها داخل القسم عشرات من أصدقائه لإقناعه بدفع الكفالة والعودة لمنزله، ولم يتحدث أحد أو تتناول أي تقارير، وقوع أي مشاحنات أو ملاسنات بين هشام والضباط. ولكن سريعًا، تحرَّك المحضر، وقررت النيابة حبس هشام أربعة أيام، وأخيرًا نقله منذ الأربعاء إلى سجن العاشر من رمضان.
هشام قاسم، الذي يبلغ من العمر 64 عامًا، لا يستحق هذه المعاملة أو هذا الترصد وتعمد الإهانة، ولم يكن يجب حبسه من الأساس. ومن غير المعقول والمقبول أن يقضي المعارضون في مصر حياتهم يسعون للإفراج عن سجناء ما، ليفاجأوا بعدها بيوم أو اثنين بحبس آخرين.
فرحنا وفرح كثيرون بإخلاء سبيل أحمد دومة مؤخرًا، ولكن يزول الفرح سريعًا بحبس هشام قاسم في اليوم التالي، ويتبدد بالأخبار التي أتت بعد ذلك، عن اعتقال لا النشطاء والمعارضين أنفسهم، بل آباءهم، كما حدث مع الزميل الصحفي أحمد جمال زيادة.
على المستوى الشخصي، يربطني شريط ذكريات طويل مع الطرف الآخر الذي يتهمه كثيرين بتفجير هذه الأزمة، الأستاذ كمال أبو عيطة القيادي العمالي والنقابي المعروف، ووزير القوى العاملة السابق، الذي تقدم ببلاغ السب والقذف بحق هشام، وقد يستحق الأمر مقالًا آخر يبدأ من أول مرة دخلت فيها السجن مع أبو عيطة لعدة أيام في العام 1987. ولكنني على ثقة أن حتى أبو عيطة نفسه، الذي يمتهن المحاماة الآن، لم يكن يتصور أن يتم التعامل بمثل هذه الطريقة مع هشام قاسم، انطلاقًا من بلاغه الذي تمتلئ بأمثاله مقرات النيابات في مصر.
ويكاد يكون هناك إجماع بين كافة المتابعين، أن الأمر تجاوز بكثير بلاغ السب والقذف، وبات متعلقًا بتلقين هشام قاسم درسًا قاسيًا بسبب تصريحاته وانتقاداته التي قد يراها كثيرون حادة وربما غير مجدية.
هشام قاسم صحفي وناشر قدير دافع عن حرية الصحافة والديمقراطية في مصر لسنوات طويلة، وخطأ كبير أن تكون مواقفه وآراؤه السياسية هي المدخل لتناول قضية حبسه، لأن المشكلة الأساسية تتعلق بهامش الحريات الضيق الذي نعاني منه في السنوات الأخيرة في مصر، وبمقتضاه قد ينتهي الأمر بأي مواطنة أو مواطن إلى السجن، لمجرد كتابة كلمات على السوشيال ميديا، لأن البعض رأى فيها تجاوزًا.
المطالبة بإطلاق سراح الناشر هشام قاسم واجب على كل المدافعين عن الحريات في مصر.