كان يوم ثلاثاء مرهقًا كما هو الحال كل أسبوع، فالصحيفة التي أعمل بها وتصدر في الأسواق يوم الخميس، ننهي إعدادها في ساعة متأخرة كل ثلاثاء، كما كان عليَّ إعداد محاضرة صباح اليوم التالي لطلبة الجامعة الأمريكية بالقاهرة حيث أقوم بتدريس مادة "مبادئ الكتابة الصحفية" وتصحيح ومنح درجات للأوراق التي أعدها طلبتي الأعزاء. ولكن الحدث الأهم في ذلك اليوم، الثلاثاء 24 سبتمبر/ أيلول 2019، كان متابعة الحالة الصحية لوالدي الذي أصابه مرض خطير قبل دخولي السجن بأقل من شهرين، وكان في الثانية والثمانين من العمر وقتها.
اصطحبت أحد الزملاء في سيارتي لتوصيله إلى شارع أحمد عرابي بالمهندسين حيث يسكن والدي منذ نحو عشرين عامًا، ليكمل هو طريقه بعد ذلك حتى مدينة السادس من أكتوبر. ركنت السيارة في الشارع المزدحم دائمًا نحو السابعة مساءً، وفور نزولي وأثناء توجيهي الريموت كونترول لإغلاق أبوابها، فوجئت برجلين يمسكان بمعصم يدي وأحدهما يقول "تعالى معانا بهدوء"، بينما كان الآخر ينتزع مفتاح السيارة من يدي.
كانت لديَّ تجربة مريرة جدًا في 3 أكتوبر/ تشرين 2013. بعد ثلاثة شهور من عزل الرئيس الراحل محمد مرسي، حاصرت مجموعة من المتظاهرين الغاضبين من أنصار جماعة الإخوان المسلمين سيارتي أثناء مروري مصادفة في شارع قصر العيني بوسط المدينة وحطموها، كما طعنوني في الصدر وحاولوا قطع يدي اليسرى بسكين. وأصبح لدي ما يشبه "الفوبيا" منذ ذلك اليوم أن أتلقى فجأة طعنات في الشارع، وربما أسوأ. وكان ردي على من أمسكوا بقوة بمعصم يدي في الشارع "انتم مين؟" فجاء الرد "أمن وطني". قلت "طيب".
أدركت سريعًا ما يجري. تحققت التحذيرات التي تلقيتها لعدة أيام أنه سيتم اعتقالي في ضوء حالة التوتر الشديد التي كانت سائدة في أعقاب مظاهرات يوم 20 سبتمبر التي دعا لها المقاول/الممثل محمد علي. وبسبب انشغالي الشديد بالحالة الصحية لوالدي، لم أكن حتى قادرًا على متابعة كل تفاصيل ما يجري في قضية ذلك المقاول، فكنت بالكاد أسمع كما يسمع الناس وألتقط سريعًا عدة دقائق من الفيديوهات التي كان يسجلها وهو يدخن بشراهة، ويحكي تفاصيل تبدو مثيرة للغاية بشأن تعاملاته لبناء مشاريع تابعة للجيش. منذ دخولي السجن، وربما حتى الآن، ما زلت أتساءل عن هوية المئات الذين استجابوا لدعوة محمد علي للتظاهر يوم 20 سبتمبر 2019: هل كانوا أنصارًا لجماعة الإخوان؟ مواطنون عاديون أرهقتهم ضغوط الحياة الاقتصادية وارتفاع تكلفة المعيشة؟ أم ماذا؟
دُفعِتُ سريعًا داخل سيارة ملاكي فضية اللون توقفت بمحاذاة سيارتي يقودها الضابط المسؤول عن عملية القبض. فور ركوبي السيارة، رفع أحد المخبرين التيشيرت الذي أرتديه وغطى به وجهي كي لا أتعرف على الجالس على مقعد القيادة، أو الراكب إلى جواره. جلست في منتصف المقعد الخلفي للسيارة، وأحاط بي مخبر من كل جانب. شعرت على الفور بأصابع هذين المخبرين تعبثان بكل محتويات جيوبي وتخرج كل ما فيهم، بما في ذلك محفظتي من الجيب الخلفي. تذكرت فجأة نكتة الأصابع التي اشتهر بها الرئيس الإخواني الراحل محمد مرسي حين قال في أحد خطاباته إن "هناك أصابع تعبث في مصر"، وقلت: ها قد أتت الأصابع. ثم انتزع أحد المخبرين سلسلة فضية كنت أرتديها بها صورة لوالدتي، رحمها الله، وأخرى لابني البالغ من العمر في ذلك الوقت 11 عامًا.
بعد دقيقة أو اثنتين، كنا وصلنا لناصية شارع جامعة الدول العربية بالمهندسين، حيث انتظرتنا سيارة أخرى. توقفت السيارة للحظات، وبدلًا من تغطية وجهي بالتيشيرت الذي أرتديه استخدموا قناعًا أسود لم أشاهد مثله من قبل إلا في أفلام الأكشن أثناء عمليات الخطف، أو مشاهد التحقيق في معتقلات دول أمريكا اللاتينية إبان الحكم العسكري. كان القناع ضيقًا عند الأنف، ولم أتمكن من التنفس جيدًا. طلبت من الضابط رفعه لأعلى سنتيمترات لكي أتمكن من التنفس، ووافق.
بدأت أنا في تهدئة المخبرين اللذين كانا يمسكان بمعصميّ يديّ بقوة وأنا محشور بينهما في مقعد السيارة الخلفي. قلت لهما إنه لا مبرر لكل هذا الضغط على يدي لأنه من المستحيل أن أهرب وأنا معصوب العينين ومعي أربعة في السيارة. استجاب الضابط مجددًا وأمر المخبرين بتخفيف قبضتيهما.
كانت الأغاني تصدح من الراديو، ومكيف السيارة يعمل بشكل جيد في ذلك اليوم الحار من أواخر سبتمبر. وبعد لحظات صمت طويلة، سألت الضابط لماذا صادروا مفتاح سيارتي، وجاء رده ببساطة "العربية معانا". كل بضعة دقائق كان يسألني الضابط إن كنت على ما يرام. ثم بدأ حوارًا مع زميله الجالس إلى جواره عن انطلاق الموسم الجديد للدوري العام لكرة القدم، ثم بادر بسؤالي "أنت أهلاوي ولا زملكاوي؟" ورددت "زملكاوي"، وكان الأربعة معي في السيارة أهلاوية. ثم تذكرت نظريتي التي كنت أسخر بها من نفسي وكيف أنتمي دائمًا للأقلية، فأنا معارض وزملكاوي، ولم يكن ينقصني سوى أن أكون مسيحيًا لتكتمل الصورة وأشكو كافة أنواع الاضطهاد. طلبت تدخين سيجارة من علبتي التي صودرت مع كل متعلقاتي. رفض الضابط قائلًا إنه لا يحب الدخان بينما مكيف السيارة يعمل.
مشاعر مختلطة ومتسارعة جدًا تصاعدت لرأسي. همي الرئيسي والدي المسن وشقيقتي التي توفاها الله بعد ذلك في مايو/ أيار 2020 وأنا داخل السجن؛ منال داود. كنت اتصلت بها فور نزول زميلي من السيارة لكي أسألها إن كان المنزل يحتاج أي شيء، وطلبت بالفعل بعض البقالة. كانت هذه آخر مكالمة أجريها. ماذا سيحدث لشقيقتي عندما أتأخر ولا أحضر ما طلبته؟
كان الضابط المسؤول عن عملية القبض أمرني فور ركوبي السيارة بإغلاق هاتفي المحمول باستخدام بصمة إصبعي، وبالتالي انعزلت عن العالم الخارجي. إلى أين نحن ذاهبون؟ كيف ستتم معاملتي؟ هل سأتمكن من الاتصال بأي من الزملاء لإبلاغ نقيب الصحفيين؟ لماذا تم اعتقالي؟ ما الذي قطع شعرة معاوية؟ تخيلت منظر قاعة المحاضرات صباح اليوم التالي والطلبة يجلسون في الثامنة والنصف صباحا منتظرين أستاذهم الذي لا يتأخر أبدًا، ويظنون أنه تأخر هذه المرة وهو الذي طالما منعهم من الدخول بعد بدء المحاضرة بعشر دقائق بحد أقصى.
مضت بنا السيارة نحو أربعين دقيقة حتى وصلنا إلى أحد مقار الأمن الوطني حيث تم إنزالي من السيارة معصوب العينين. وعند صعودي بعض السلالم، ربتت يد على كتفي وقال صاحبها "حمد الله على السلامة، رجلك دلوقتي أحسن؟ أنا براقبك بقالي كام يوم". كنت أعاني بالفعل من مشاكل في المشي لعدة أيام بعد إصابة قدمي اليسرى بالتواء، ولم ألحظ بالطبع أي مراقبة لأنني لم أكن أقوم بأي شيء يستحق الحذر.
اقتادوني سريعًا إلى مكان ما، وهناك أزالوا القناع الأسود عن عينيَّ لأجد نفسي في غرفة لا تحتوي سوى مرتبة متسخة على الأرض وفوقها وسادة، وبجوارها ثلاثة كراسٍ بلاستيكية ملتصقة ببعضها البعض. لم تمضِ دقائق حتى جاءني مخبر قام بتغمية عيني، ولكن هذه المرة بقطعة قماش صغيرة كان يعرف جيدًا أنني سأتمكن من الرؤية من خلالها. كما قام بتقييد يديَّ الاثنتين من الأمام بكلابش فضي، وطلب مني الجلوس أرضًا على المرتبة. رفض المخبر السماح لي بالتدخين، وأدركت حينها أنها ستكون ليلة صعبة.
كانت الساعة اقتربت من الثامنة والنصف أو التاسعة مساء. جلست صامتًا ساكنًا بينما تواصل تدفق الأفكار في رأسي، منتظرًا أن يبدأ أي نوع من أنواع التحقيق معي أو توجيه أسئلة أستطيع من خلالها فهم سبب إلقاء القبض عليَّ. ولكن لم يحدث شيء. فقط المخبر الذي قام بتقييد يديَّ كان يفتح الباب كل ساعة تقريبًا للاطلاع على حالتي وهو يردد "زي ما انت". وحتى عندما أتى لي بعلبة جبنة بيضاء صغيرة ومعها بعض المربى ورغيف خبز قائلًا "العشا"، سبق ذلك بالقول "زي ما انت". أصبحت أكره هذا المصطلح جدًا، وكلما ردده أحد الأصدقاء بعدها أمامي، يكون رد فعلي "لو سمحت متقوليش زي ما انت. مش عايز افتكر الليلة دي خالص".