لم أجد ما يعوض غيابي عن مراسم دفن شقيقتي منال ووداعها بعد وفاتها المفاجئة سوى التوجه إلى الله. كانت منال مؤمنة تواظب على الشعائر الدينية من صلاة وصوم وقراءة قرآن، أما أنا فلم أكن كذلك منذ زمن طويل. قررت أن أفعل لها ما كانت تحبه؛ أقرأ لها القرآن وأصلي الصلوات الخمس، لعل وعسى أن تصلها في السماء كلماتي وقراءتي ودعائي لها بالرحمة.
تحمّلني الدكتور حازم حسني مرارًا وأنا أجهش بالبكاء وأدعو لها بصوت مرتفع، وكان يحتضنني ويحاول التخفيف عني. كتب لي زميلي في السجن حسام مؤنس بضع أدعية على ورقة كرتون وطلب مني تكرارها. فعلت ذلك بشغف.
أطلقت لحيتي حدادًا لأربعين يومًا وطالت بيضاء من غير سوء، وقررت أن أختم قراءة المصحف ترحمًا على روح شقيقتي مرة كل ثلاثة أيام، بواقع عشرة أجزاء كل يوم. ولمن لم يعتادوا هذا النوع من القراءة، فإن قراءة كل جزء تستغرق نحو 45 دقيقة إلى ساعة، اعتمادا على سرعة القراءة. وبالتالي، وبشكل صارم، خصصت عشر ساعات يوميا لقراءة القرآن، عدا ساعتين أو ثلاثة آخرين لأداء الصلوات والدعاء. بقية ساعات اليوم غالبًا استرجاع لشريط سينمائي طويل عمره 52 عامًا من الارتباط بشقيقتي منال. وفي السجن، لا شيء سوى الخيال والصمت واسترجاع الذكريات.
لم أكن غريبًا عن القرآن، ففي مرحلة الدراسة الثانوية في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، اقتربت من الجماعات الإسلامية المتشددة أثناء تصاعد نفوذهم وتأثيرهم بعد تمكنهم من اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات عام 1981. نفرت منهم بعد نحو عامين عندما رأى أمير الجماعة في المنطقة التي أسكن بها أنه لا يمكنني قراءة كل ما أشاء من كتب، وأن قواعد الانصياع للجماعة تقتضي الرضوخ لما يقضي به الشيوخ والمرجعيات. فإذا قرأ هؤلاء الشيوخ رواية نجيب محفوظ أولاد حارتنا، مثلًا، وقالوا إنه "كافر"، فهو كذلك وغير مسموح لي كعضو في الجماعة أن أقرأ الكتاب لكي أحكم بنفسي.
الأمر ذاته ينطبق بالطبع على كل كتاب العالم تقريبا من "النصارى واليهود"، فلا تقرأ لداروين ولا فرويد ولا ماركس ولا برتراند راسل او ديكارت "بتاع الشك. ربنا مفيش فيه شك". كل ما سُمِح لي بقراءته فقط القرآن الكريم وكتب الفقه والتفسير التي يحددها الشيوخ. كيف يكون ذلك؟ صممت أنه من حقي أن اقرأ ما أشاء والاطلاع على تجارب الآخرين.
قضيت ساعات مزعجة بلا طائل في مناقشة مشروعية زيارة الأهرامات باعتبارها قبورًا، بينما يرون أن الإسلام حرم زيارة القبور. لم يستوعب عقلي كيف يمكن لأي شخص في العالم أن يرى هذا البناء العظيم، علامة عبقرية الفراعنة قبل خمسة آلاف عام، ولا ينبهر. عن أي قبور يتحدثون؟
كيف يقترح أحد تغطية الآثار الفرعونية والأفضل تحطيمها باعتبارها أصنام. معالم حضارة قديمة أصنام؟ من يعبد الأصنام اليوم؟ لم يكن من بين أصدقائي من يعبد الأصنام، فلماذا يكون من ضمن مهامي المقدسة تحطيم أو تشويه تمثال؟
طردني أمير الجماعة من الزاوية التي كنا نصلي ونجتمع فيها للنقاش. قال إنني أفرط في الجدال، وإن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بإهالة التراب على وجوه المجادلين إذا أطالوا الجدال ورفضوا الانصياع للرأي الشرعي المشتق من قراءة الشيوخ للقرآن. وأمر الأمير من حسبتهم أصدقائي في الزاوية بمقاطعتي والامتناع عن الحديث معي لأن رأسي تحمل أفكار يرفضها الإسلام.
ربما كانت طبيعة المرحلة العمرية، ففي الثامنة عشر والعشرينيات من العمر تكثر التقلبات من نقيض إلى نقيض. عندما غضبت من أمير الجماعة مع بداية دخولي الجامعة، اقتربت أكثر من الأصدقاء اليساريين أصحاب الأفكار الاشتراكية والذين لم يقصروا مطلقا في إمدادي بسيل لا ينتهي من الكتب التي بهرتني وأثّرت كثيرًا في عقلي وتفكيري.
لا يتعلق الأمر بالمحتوى فقط، ولكن بالتنوع الواسع في الأفكار والآراء والتوجهات والقضايا الفلسفية والوجودية التي أثرت على تاريخ البشر وتطورهم منذ آلاف السنين. وبنفس قدر تشددي في الالتزام بقواعد الجماعة الإسلامية على مدى عامين، كان تحولي إلى النقيض في تبني الأفكار الرافضة للفكر الديني في تلك المرحلة العمرية التي يبحث فيها المرء عن طريقه وتوجهه في الحياة.
ولكن في السجن، يختلف الأمر تمامًا تمامًا. يزداد الاحتياج الجارف لقوة خارقة تلجأ لها لكي تتقبل وتتعايش مع ما تمر به. قبل وفاة شقيقتي، وعلى مدى نحو تسعة شهور، رفضت الإنضمام لتيار السجناء المفرط في الصلاة وقراءة القرآن وممارسة الطقوس الدينية أملا في فرج الله سبحانه وتعالى وانتظارًا لمعجزة، كعفو رئاسي مثلا أو قرار من رئيس الوزراء، أو حتى خشية من انتشار وباء كورونا.
كان بصحبتي مدانون بجرائم قتل وتجارة مخدرات يقضون أحكامًا بالسجن مدى الحياة، وضابط سابق يقضي أحكامًا في عدة قضايا تتضمن تعذيب مواطنين وسرقة، وأشكالًا أخرى متعددة من الجرائم المشينة. كل هؤلاء يضعون ماضيهم خلف ظهورهم، ويتوجهون إلى الله، يدعونه لقبول المغفرة والتوبة، مع تعهدات تبدو صادقة ببدء صفحة جديدة والابتعاد عن كل الانحرافات والسيئات، "بس انت اكرمنا الأول بس يا ربنا وخرجنا من السجن".
في فترة الحداد، لم أكن استوعب شيئا مما أقرأه من القرآن. كان بداخلي حزن كبير وألم، ودموع لا تتوقف. كنت فقط أردد ما أراه أمامي من الآيات ترحمًا على روح منال لكي تكون في ميزان حسناتها يوم القيامة كما نصحني "المسير" المسجون منذ عقود بتهمة الانتماء لجماعة الجهاد.
بالتأكيد نختلف تماما في كل شيء، ولكن هذا المسير تحديدا كان طيب القلب يعاملني بود وصدق. كان يوجه لي اسئلة كثيرة بصفتي "علماني"، كما كان يصفني من دون أن أنكر الصفة، بينما تحول هولمستشاري الديني ومرجعي لاحقا لتفسير آيات لا أفهمها أو تثير حيرتي.
انتهت الأيام الأربعون، وظن أصدقائي وزملاء السجن أنني سأعود إلى سيرتي الأولى وأتوقف عن قراءة القرآن والصلاة. كان نفس التساؤل يدور في ذهني. كنت أحسب نفسي دائمًا مؤمنًا بالله، بقوته ورحمته وحكمته، وفي اختبار محنة السجن، يكون من الضروري الإيمان بقضائه وقدره. ساعدني هذا الإيمان على الاحتفاظ بعقلي واحتفاظي ببعض الأمل وعدم الاستسلام للاكتئاب الكامل. حسمت أمري وقررت المواظبة على الصلاة والتوجه إلى الله بالدعاء. كنت محتاجا أن أدعو الله وأقول يا رب. واستوقفتني في قراءتي المتكررة للقرآن العديد من الآيات التي لم استوعبها، وأردت العودة لمحاولة فهمها.
أحببت سورًا كثيرة في القرآن، أحببت سورة آل عمران كاملة، والكثير من آيات سورة البقرة، وكذلك سور مريم والكهف والفرقان والرحمن والأعلى. صادقت سيدنا يوسف كلما أعدت قراءة سورة يوسف متخيلًا كل ما تحتويه تلك السورة من صور ثرية تمكن القارئ من تخيل المشاهد حية في رأسه: تآمر الأشقاء، إلقائه في البئر، حادثة التحرش التي تعرض لها من زوجة ولي نعمته، سجنه، قوله "إن السجن أحب إليَّ مما تدعونني إليه" مصرًا على التمسك بأخلاقه ومبادئه، براءته، توليه خزانة مصر، لقائه أشقائه الذين تخلصوا منه وكذبوا على والدهم، تعرفهم عليه وعودة البصر إلى والده بعد لقائه وسجود الأشقاء أمامه تحقيقا لحلمه.
وانبهرت بقصص سيدنا ابراهيم، وصادقت سيدنا موسى في رحلته في سورة الكهف بصحبة فتاه ولقائه سيدنا الخضر وفشله في التزام الصمت والاستمرار في توجيه الأسئلة. أثار فضولي كيف خصص القرآن آيات كثيرة لرواية وإعادة رواية قصة سيدنا موسى والمخالفات المتكررة التي ارتكبها اليهود وجدالهم الذي لا ينتهي والذي بلغ حد المطالبة برؤية الله جهرا، وكذلك رواية خروج سيدنا آدم من الجنة والمواجهة التي جرت بين الله وإبليس وتعهده بالاستمرار في إغواء البشر وممارسة كل المعاصي التي نهى عنها الله حتى يوم القيامة. وكنت أجد سورة النساء صعبة لما تحتويه من آيات كثيرة تتعلق بالمواريث وأحكام الزواج والطلاق.
ولكن الآية التي جعلتني انتفض في سريري وأكاد أسقط من هول المفاجأة وردت في إطار المواجهة المعروفة التي جرت بين فرعون وسيدنا موسى عليه السلام على أرض مصر قبل آلاف السنين والتي تحدى فيها الفرعونُ النبيَّ الكريمَ أن يثبت له وجود الله. وبعد جدال طويل قال فرعون في سورة الشعراء الآية 29 مخاطبا النبي موسى "قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَٰهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ". إذن هذا هو القدر على ما يبدو وحكم الله على من يجرؤ في مصر على المجاهرة بمعارضته: السجن. اكتشفت لاحقا أن هذه الآية تحظى بشعبية كبيرة بين سجناء جماعات الإسلام السياسي.
أما الآيات التي كانت تتكرر كثيرا في مواضع مختلفة وتشعرني بالخجل الشديد فكانت تحكي عن ضعف الإنسان وسهولة تراجعه عن وعوده بالاستقامة واتباع تعليمات الله فور أن تنتهي أي محنة قاسية يمر بها ويدعوه خلالها طلبا للرحمة والاستجابة، كما هو حالنا في السجن؛ "وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ" سورة فصلت – الآية 51.
و تتكرر نفس الرسالة مع تغيير كلمة واحدة فقط "وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ ۖ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا" سورة الإسراء – الآية 83. وهناك مواقف أخرى يسردها القرآن عن ركاب السفن التي يعصف بها البحر والرياح العاتية ويدعوا ركابها الله مع اقتراب الغرق أن ينجيهم مع التعهد بالتوبة عن كل الذنوب والمعاصي فور النجاة. ولكن لحظة الوصول للشاطئ تتبخر التعهدات ويعودون لمعاصيهم.
هل سيكون حالي كذلك؟ هل هذا مقبول؟ اعتبرت كل هذه الأسئلة من عمل الشيطان وقررت الاستمرار في تخصيص ساعتين يوميا لقراءة القرآن مع الالتزام بالصلوات الخمس، والقيام مبكرا جدا للالتزام بموعد صلاة الفجر. الوضوء في الشتاء شديد البرودة اختبار صعب جدا كنت أدعو الله أن يحسبه في ميزان حسناتي.
شعرت بالسعادة أنني ما زلت قادرا على حفظ مقاطع من سور قرآنية طويلة، وسور أخرى قصيرة لاستخدامها في أداء الصلاة بينما كنت أظن أن هذه القدرة تتراجع مع تقدم العمر. وعندما كنت أخرج للتريض، كنت أعود لاسترجاع ما حفظته من آيات خشية نسيانها بينما أقوم بلفات لا تنتهي في الساحة ذات الأسوار العالية التي تحيط بها أبراج المراقبة. يا رب. الرحمة والمغفرة لشقيقتي، وأمي من قبلها. احفظ لي أبي وأخي، وفرج عن كربي وانهي محنتي وسجني.
بعد انتهاء فترة الإغلاق الكامل للسجون والعودة لعقد جلسات التجديد كل 45 يوما في بداية شهر أغسطس/آب 2020، كنت أفرط في قراءة القرآن والدعاء قبل كل جلسة، مترجيا من الله معجزة ما تخلي سبيلي. وبعد أن كنت اكتفي في الجلسات السابقة بالبقاء جالسا بينما يقوم الغالبية العظمى من السجناء بالصلاة في الحبسخانة، أصبحت أنضم لصلاة الجماعة الظهر والعصر وربما المغرب والعشاء جمعا إذا طالت ساعات الانتظار.
كان يرد في ذهني بالطبع أن كل من في السجن يصلون ويدعون، بعضهم منذ سنوات طويلة جدًا، أملًا في أن ينهي الله محنتهم ويخرجون من السجن. والكثير من هؤلاء مسجونون ظلما، كما كنت أرى نفسي. فالتعرض للظلم فقط لا يكفي لكي يستجيب الله للدعاء. وكانت التساؤلات تتزايد بعد تكرار حصولي على قرارات بالتجديد 45 يوما على مدى عام كامل تقريبا وحتى خروجي في منتصف شهر أبريل/نيسان 2021. ولكنني قررت اعتبار هذه التساؤلات أيضا من عمل الشيطان، وصممت على المواظبة على قراءة القرآن والصلاة حتى يوم خروجي واستجابة الله لدعائي. هو من قرر موعد حبسي وتعرضي لهذه التجربة، وهو من قرر أن يسبب الأسباب لكي تقضي الظروف بخروجي بعد 19 شهرًا.