وسط ساعات الفراغ الطويلة في السجن، دارت بيننا مناقشة حول أفضل المراحل العمرية للمرور بتجربة الاعتقال. قلت وقتها إن مرحلة الشباب قد تكون نسبيًا أكثر سهولة، فالشاب في مقتبل العمر عادةً لا يتحمّل مسؤوليات كبيرة كالأسرة والأبناء، ولو اعتقل مثلا في الخامسة والعشرين أو الثلاثين، سيكون بإمكانه أن يبدأ بداية جديدة بعد السجن، وفرصة أفضل لتجاوز التجربة المريرة.
ولكن شباب الزملاء كان رأيهم أني مخطئ لأن تجربة الاعتقال لأسباب واهية في مرحلة مبكرة من العمر قد تدفع صاحبها إلى اليأس من الحياة، وترسخ لديه مشاعر الكراهية لدرجة الاقتناع أنه لا بديل سوى الهجرة، أو ربما ما هو أسوأ إن كان من المنتمين إلى الجماعات الدينية المتشددة.
ولأن العنبر كان يضم سجناء من كافة المراحل العمرية، حتى منتصف العقد الثامن (للأسف الشديد)، كنت أرى أن هؤلاء هم الأكثر معاناة. فرغم أنهم قد يكونوا جدودًا؟، ولم يعد أبناؤهم يحتاجون إليهم، ورغم أن مسؤولياتهم غالبًا تراجعت إلى درجة كبيرة؛ إلا أنهم يعتقلون في وقت يستحقون فيه الراحة والاستمتاع بالحياة بعد مسار مهني طويل وتجارب ثرية. ربما كان آخر ما يتخيلونه هو التعرض لمرمطة السجن؛ فلا السن يسمح ولا الحالة الصحية. كان غالبية الشيوخ المعتقلين يعانون من "كومبو" أمراض تهدد للحياة كالقلب والضغط والأورام والسكر، بل والسرطان.
أما من هم في مرحلة منتصف العمر، ما بين الأربعين وحتى الخمسين (كما هو الحال بالنسبة لي)، فيضطرون لدفع ثمن باهظ في وقت هم مسؤولون فيه عن أولاد في مرحلة التعليم وأسر لها متطلبات يومية، إلى جانب تعرضهم لمخاطر قد تنهي حياتهم المهنية. والأهم، أنهم الأكثر عرضة لتلقي الأخبار السيئة المتعلقة بوفاة الأقارب أثناء حبستهم، تحديدًا الأب والأم.
منذ دخولي السجن، كان أكثر ما ينغص حياتي ويشعرني بانقباض الروح والخوف هو عندما تصمت أجهزة التلفزيون وأغاني المهرجانات في الزنازين المجاورة فجأة وتستبدل بآيات الذكر الحكيم. نعرف جميعا وقتها أن أحدنا قد فقد عزيزًا بينما هو بعيد لا حول له ولا قوة، غير قادر على توديع من يحبه ولا أن يكون جواره في الأيام الأخيرة من عمره، ولا أن يصلي عليه ويراه يسكن القبر حتى يصدق فعلا أنه قد رحل.
ولما كنت فقدت والدتي الحبيبة وأنا خارج مصر في مطلع العام 2013، ووصلت للقاهرة بعد ساعات من دفنها ولم أتمكن من وداعها إلى قبرها، كان لديَّ رعب كبير أن تتكرر نفس التجربة المؤلمة مع أبي الذي قال لي طبيبه المعالج من السرطان قبل دخولي السجن بأيام إنه في هذا السن، قد لا يطول عمره أكثر من عام.
كنت أقول بعد أن نستمع لترتيل آيات القرآن بعد كل حالة وفاة يا رب يحفظ أبويا ولا أشهد يومًا أمر فيه بما يمر به المساجين الآخرون حين يبلغهم نبأ وفاة عزيز لديهم. في اليوم التالي، عندما تحين ساعة التريض، يخرج الجميع ليكون أول ما يقومون به تقديم واجب العزاء لمن فقد حبيبًا له، نشد على يده ونقول له ربنا معاك بينما الوجوه يملؤها الحزن والذهول من الفراق والسجن.
في يوم 15 مايو/أيار 2020، وقبل موعد الإفطار الرمضاني بنحو ساعتين، وبينما كان الجميع مشغول بإعداد وجبته، جاءني "المسير" ومعه الشاويش الذي فتح باب الزنزانة ليقول لي أنه عليَّ الاستعداد لتناول وجبة الإفطار اليوم في الخارج مع أبي.
كان "المسير" على علم أنني تلقيت وعدًا من الضباط المعنيين أنهم سيعملون على خروجي لزيارة والدي والاطمئنان على صحته لأني لم أتمكن من رؤيته منذ أكثر من تسعة شهور بسبب عدم قدرته على الحركة. ولكن جاءت ظروف إغلاق السجن بعد انتشار كورونا لتطيح بكل الخطط والوعود. وأضاف "المسير" أن هناك ضابطًا من الأمن الوطني ينتظرني في الخارج وأن عليَّ الإسراع بحلاقة ذقني وارتداء أفضل ما لدي.
خرجت لأجد ضابطًا لديه لحية خفيفة بملابس مدنية. بادرني بالابتسام والقول إنه اضطر لانتظاري فترة طويلة حتى انتهي من حلاقة ذقني. ثم قال أنه يحمل لي أخبارًا سيئة. رددت فورًا "أبويا؟"، قال "لا أختك".
لم أصدق أذني. رفضت أذني التصديق. شقيقتي التي تكبرني بعامين؟ لماذا؟ قلت "هل أنت متأكد؟ لا شك أنه يوجد خطأ". بدأت في اتخاذ طريق العودة للزنزانة "لأ. اختي منال كويسة". ناداني "لأ يا أستاذ خالد. مفيش غلط. البقية في حياتك. اختك توفاها الله".
انتفض جسمي وكدت أسقط على الأرض بينما السؤال الوحيد الذي أردده "ازاي؟" ويرد الضابط أنه لا يعرف. كورونا يا افندم؟ معرفش. حادثة حضرتك؟ معرفش. تعالى معايا.
انهالت الدموع من عيني تلقائيا، سيل من الدموع. توجهنا لمكتب ضابط العنبر وطلب مني ضابط الأمن الوطني رقم موبايل شقيقي إياد للتيقن من عنوان منزل والدي. حاولت تذكر الرقم. طبعا كان مستحيلًا. قلت لهم إنني لا أحفظ سوى هاتف منال، وربما يكون بحوزة ابنها أو أحد أفراد الأسرة. طلب الضابط الرقم. "هذا الهاتف مغلق أو غير متاح". نعم، منال لم تعد متاحة.
عدت لمحاولة تذكر رقم إياد. أبلغتهم عدة أرقام. كلها كانت خطأ. في النهاية سألتهم عن سبب إصرارهم على الاتصال بإياد بينما أنا على معرفة جيدة بعنوان سكن والدي بالتأكيد، كما أنهم اعتقلوني بينما كنت أقوم بركن سيارتي أمام العمارة التي يسكن بها. قلت لهم العنوان، وفجأة بدأ تحرك كل الضباط كأني حللت لغزًا كبيرًا. هل معقول أن رجال الأمن جاءوا لاصطحابي من السجن إلى مكان لا يعرفونه؟
لم أكن أقوى على الحركة، مشيت متكئًا على يد "المسير" الذي رفض تركي بمفردي رغم أنه لم تبقَ سوى نصف ساعة على موعد الافطار وآذان المغرب. توجهنا نحو بوابة السجن التي لا يتم فتحها سوى بعد إجراءات احترازية عديدة. وجدت عشرات الضباط في انتظاري لتجهيز موكب الترحيلة. كلهم يبدو عليهم أنهم من أصحاب الرتب العالية ويمسكون بأجهزة لاسلكي بجانب عدة تليفونات محمولة. العديد من السيارات أيضا كانت تقف خارج بوابة السجن. فجأة بدأ نقاش محتدم بين المسؤولين عن الترحيلة عن الشخص الذي سيقوم بالتوقيع على الأوراق اللازمة لخروجي من السجن. لم أفهم، ولكن عندما طال النقاش، عدت للجلوس على أحد الأسوار الرخامية القريبة من المدخل.
لم ينتهِ النقاش إلا بعد آذان المغرب بدقائق. توجه نحوي شرطي ضخم يبلغ ضعف حجمي ويرتدي نظارة وزيًا مهندمًا ليضع الكلابش في يدي ويضيقه كثيرًا. لست أسامة بن لادن ولا من أصحاب النشاط الإرهابي المسلح بكل تأكيد. وكما تم اعتقالي في عربة ملاكي بصحبة ضابطين ومخبرين، كان يكفي بالتأكيد عددًا مماثلًا وسيارة ملاكي بسيطة لكي أتوجه لمنزل والدي وأتقدم له بواجب العزاء. ولكن كانت هناك سيارات وسيارات. وتم حبسي في مساحة ضيقة للغاية لها باب حديد يغلق بقفل بصحبة الشرطي في نهاية عربة فان كبيرة مكتوب عليها "بوليس" بحروف ضخمة.
هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها الشوارع منذ دخول السجن. كانت خالية وقت الإفطار. قطعنا سريعًا كورنيش النيل حتى وصلنا لمدخل شارع قصر العيني. ومررنا بميدان التحرير حيث كان انتهى للتو تركيب المسلة الضخمة في صينية خيام الاعتصام وقت ثورة 25 يناير 2011. ولكنني لم أتمكن من رؤية أي شيء بوضوح حيث انهمرت دموعي بينما أحاول استيعاب خبر وفاة شقيقة روحي ورفيقة العمر على مدى أكثر من خمسين عامًا، منال التي كان يضرب بطيبتها المثل لكل ما يمتلئ به قلبها من حب لكل الناس، وخاصة البسطاء.
صعدنا كوبري 15 مايو لافاجأ بوقوف موكب السيارات المرافق عند المطلع القادم من شارع 26 يوليو بالزمالك. فهمت من الشاويش أنه يجري استبدال سيارات من محافظة الجيزة التي يسكن بها والدي بسيارات شرطة محافظة القاهرة التي صحبتنا من طرة. تأكد لي، مرة أخرى وخصوصا منذ بدء تجربة السجن، أن أهم الأمور في مصر دائما وأبدا: الورق والبيروقراطية.
وصلنا أخيرًا العمارة التي يقطن بها والدي بشارع أحمد عرابي لأجد المزيد والمزيد من عربات الشرطة ورجال الأمن. وصل خالد بن لادن.
نزلت من العربة الفان، وفور الوصول لمدخل العمارة طلبت من الضابط أن يأمر الشاويش بفك الكلابش من يدي. المصعد في بناية والدي صغير. صعدت بصحبة ضابط الأمن الوطني الملتحي والضابط ذي الرتبة الكبيرة في الزي المدني المسؤول عن الترحيلة. لم أستطع النظر إليهم وتجنبوا هم أيضا النظر إليَّ في اللحظات القليلة الطويلة التي استغرقتها رحلة المصعد حتى شقة والدي.
عندما فتح باب الشقة، وجدت شقيقي إياد في انتظاري. لم أرغب في عناقه، فقط أخذت أردد: ازاي..ازاي؟ قال لي تسمم وانهيار مفاجئ للأجهزة الداخلية. لم أفهم شيئا. توجهت للصالة حيث كان يجلس والدي غير قادر على النهوض. قبلت يده ودخلنا سويا في نوبة بكاء طويلة. لفت نظري سريعا مدى انتشار رجال الأمن داخل المنزل بأعداد تفوق العدد المحدود من الأقارب الذين سمح لهم بالحضور: أخي وصديقة مقربة له، وابن شقيقتي الراحلة وخطيبته ووالدتها، وزوجتي.
وقف عدد من المخبرين أمام الشبابيك الزجاجية للصالة وكأنني سأقوم فجأة بالقفز من الطابق الثالث إلى الشارع. اكتشف الضابط الملتحي الذي اصطحبني من السجن أنه يقف وخلفه لافتة أعدها إياد مكتوب عليها "الحرية لخالد داود" فقام بالابتعاد عنها بسرعة بعد أن أدارها بيده لتواجه الحائط، وأشاح بيده. ثم قام أحد المخبرين بالتوجه نحو كل الحضور وسألهم عن أسمائهم وصلة قرابتهم لي حتى وصل لوالدي وسمعته يرد "أنا اللي بنتي ماتت" ودخل في نوبة بكاء. ردد الضباط "البقاء لله يا حاج. شد حيلك كده". ولكنه عاد للنشيج
"بنتي حبيبتي ماتت".
دخل المسؤول عن الحملة الممسك بعدة أجهزة لاسلكي وهواتف محمولة "ياللا يا خالد"، فرد أبي "خليه خمس دقايق كمان لو سمحت، ولم تكن يده قد فارقت يدي منذ جلست بجواره فور دخولي". روى لي ابن شقيقتي سريعًا ما حدث لها في أيامها الأخيرة، اكتظاظ المستشفيات والخوف من استقبال المرضى بسبب كورونا وغموض حالتها المرضية وتدهور صحتها السريع. توفت بعد عشرة أيام من اصابتها بآلام حادة في المعدة. انعقد لساني وبدأت أفكر ماذا كنت سأفعل لو كنت خارج السجن، وكيف كنت سأقلب الدنيا رأسًا على عقب لمحاولة إنقاذ حياتها. ولكن ما الفائدة الآن؟ رحلت حبيبتي منال.
صدرت الأوامر بالمغادرة. عدت لركوب المصعد مع الضابطين. الشاويش الضخم كان في انتظاري بالكلابش في مدخل العمارة، ورفع يدي لكي يضيق القيد. فوجئت أن القوة الأمنية أوقفت المرور في شارع أحمد عرابي الحيوي. سمعت صوت صديقي محمد سعد يناديني ويلوح لي وبجواره صديقي الصحفي إبراهيم منصور. نظرت نحو سعد والدموع تملأ عيني. رأيته ينظر نحوي متأسيا ممسكا برأسه بينما يضرب الأرض بقدميه.
لم أتوقف عن البكاء طوال رحلة العودة التي بدت لي سريعة جدًا. بعد الإجراءات المعقدة لفتح البوابة الرئيسية للسجن، استقبلني مخبر في زي مدني كان في غاية الشهامة والتعاطف. لم يقيد يدي كما يحدث عادة، وعندما كانت تتباطأ حركتي وينتفض جسدي من البكاء، كان يساعدني على السير ويقول "ارفع راسك فوق. ما تبانش قصادهم مكسور".
لم يكن ذلك ممكنًا. لقد انكسرت روحي.
انفتح باب العنبر، توقفت فجأة أصوات أجهزة التلفزيون وأغاني المهرجانات، وصدحت آيات الذكر الحكيم. "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي".
إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك يا منال لمحزونون.