في اليوم التالي للقائي مع الضباط الذين أخطروني أنهم بصدد إنهاء إجراءات خروجي من السجن، أفقت كالمعتاد في الخامسة صباحا للاستماع لنشرة أخبار بي بي سي عربي. في منتصف النشرة تقريبًا، ورد خبر إن السلطات المصرية أطلقت سراح ثلاثة صحفيين، ولكنَّ إرسال الراديو اللعين إصابة التشويش عندما بدأ المذيع في قراءة أسماء الثلاثة. هل من الممكن أن نكون أنا وهشام فؤاد وحسام مؤنس المقصودين؟
استبعدت أن أكون ضمن الثلاثة، خاصة بعد أن قال لي ضباط الأمن إنهم سيعودون لزيارتي بعد أسبوع لمزيد من الإجراءات. انتظرت للثامنة صباحًا حتى استيقظ زميلي في الزنزانة المجاورة هشام فؤاد، فسألته عبر النضارة إن كان قد سمع للخبر. لم يكن الخطأ من جهاز الراديو الخاص بي، ولكنَّ الإرسال كان مشوشًا لدى الجميع في ذلك اليوم. كان ذلك في مطلع شهر مارس/ آذار 2021، وتأكدنا بعدها أننا لم نكن الصحفيين الثلاثة المعنيين.
لم أكد أنتهي من حواري مع هشام حتى أتاني الشاويش قائلا إني سأتوجه لمعهد الأمناء لحضور جلسة تجديد حبس. استغربت جدًا لأني كنت أتوقع إخلاء سبيلي عبر قرار من النائب العام، وليس من دوائر الإرهاب التي تقوم بتجديد الحبس روتينيًا مرةً كل 45 يوما. ولكن بعد كل ما مررت به في هذه التجربة، لم أعد أسأل عن أية مبررات منطقية أو قانونية.
توجهت للمعهد بصحبة زياد العليمي، وفور دخولنا القفص الزجاجي استقبلني الزملاء، وتحديدًا رامي شعث، باستغراب شديد قائلًا "إنت لسه هنا؟ هو إنت مش خرجت؟" وكان هذا نفس رد فعل الكثيرين ممن التقيتهم في القفص، والذين يبدو أنهم استمعوا لنفس الخبر في إذاعة بي بي سي. ونتيجة لانقطاع أي معلومات تأتي من العالم الخارجي سوى في الزيارة القصيرة التي تتم مرة كل شهر، عرفت من زملاء في الحبس الاحتياطي ممن لديهم أجهزة هاتف داخل السجن أن نقيب الصحفيين أدلى بتصريحات في حوار تلفزيوني مع إعلامية شهيرة قال فيه إنه يتوقع خروج عدد من الصحفيين في الأيام القادمة، ومنهم خالد داود.
أكدت لي المحامية داليا زخاري نفس المعلومات وكتبتها لي على الورق لكي أتمكن من رؤيتها عبر الزجاج المصمت العازل للصوت للقفص في قاعة المحكمة، وكذلك المحامي خالد علي. حاولت بدوري عبر الإشارات المبتكرة أن أبلغهم أن هناك ضباطًا قاموا بلقائي في السجن وأنهم أخبروني أن قرار خروجي اتخذ وأنهم بصدد إنهاء الإجراءات. كنت أشير إلى أعلى الأكتاف حيث يتم تعليق الرتب، ثم الكاب على الرأس كرمز للضابط، ثم إلى فمي مع تحريك يدي لكلمة تحدثوا، وأشير إلى صدري بمعنى معي، وأخيرا استخدم يدي لعمل إشارة الخروج. وكانت داليا تهز رأسها بالإيجاب بمعنى أنها فهمت ما أقول. وفي نفس اللحظة نرفع يدنا للسماء متوجهين لله بالدعاء قائلين: يا رب.
لم أنزعج عندما مرت عدة أيام على عودتي من جلسة التجديد دون إطلاق سراحي، فهمت أن ذلك يعني أنه تم تجديد حبسي 45 يوما كالمعتاد. بحساباتي الخاصة، وبناء على تجارب الزملاء الذين تم إطلاق سراحهم، توقعت خروجي نهاية شهر مارس. عاد الضابطان لزيارتي بالفعل بعد أسبوع من اللقاء الأول. ولكننا هذه المرة لم نعد للحديث في السياسة. كانت الأسئلة أكثر تفصيلًا عن مكان إقامتي وعملي وما أمتلكه، ورغم أن الشك انتابني أنهم بصدد اتخاذ المزيد من الإجراءات بحقي بدلًا من إطلاق سراحي، إلا أني أدركت أنها جلسة إجرائية. ألححت في السؤال عن الموعد المتوقع لخروجي فقالوا "خلال أيام".
كتبت لأخي إياد خطابًا أطلب منه عدم إيداع أية أموال إضافية في حسابي في السجن، وأطلعته على توقعي قرب خروجي. في نفس الوقت، كنا بدأنا الاستعداد لدخول شهر رمضان، وقررت أن أنفق كل ما تبقى لدي لشراء مستلزمات الشهر الكريم من أطعمة ومشروبات لكي أتركها لزملائي بعد خروجي.
وفي ظني أن الشهر الأخير الذي قضيته في السجن، وتحديدا منذ أن أطلعني الضباط في 7 مارس أن قرارا قد اتخذ بخروجي وحتى إطلاق سراحي فعليًا في 12 أبريل/ نيسان، كان الأكثر صعوبة على الإطلاق في التجربة برمتها. تم اللقاء الثاني مع ضباط الأمن في منتصف مارس وسط تسريبات لا تنقطع من المسيرين والمخبرين ونزلاء العنبر من سجناء سياسين وجنائيين أن موعد خروجي اقترب. ومر أسبوع ثم أسبوعان، وما زلت قيد الحبس. وعندما بدأ الأسبوع الثالث انتابتني حالة من التنبه الشديد والقلق كل مساء بعد إغلاق العنبر في الخامسة على أمل أن يتكرر ما حدث مع الدكتور حازم حسني، عندما أتاه رئيس المباحث قرب الثامنة مساء واصطحبه للخروج من السجن فجأة ودون أي مقدمات.
عندما بدأ شهر أبريل واستمر سجني، تملك مني الإحباط تمامًا، وتوقعت أن هناك جهةً ما تعارض خروجي وتعطله، مقابل جهة أو جهات أخرى توافق على إنهاء معاناتي. وبحساباتي وخبرتي داخل السجن، قلت للزملاء إنه لو دخل شهر رمضان ولم يتم خروجي أو خروج أي زملاء آخرين، فإن ذلك يعني تعليق أملنا على الأقل حتى عيد الفطر، وهو مناسبة أخرى موسمية للإفراج عن بعض السجناء، وذلك ببساطة لأن الدولة برمتها تتوقف عن العمل في رمضان.
بدأت أتصرف على أساس أني سأقضي شهر رمضان الثاني لي في السجن، وتداولت مع سجناء العنبر بشأن المهام التي ستقوم بها كل زنزانة وما ستقدمه من أطعمه أو مشاريب للعنبر طوال الشهر. وفي نفس الوقت، لم أتوقف عن الدعاء والصلاة وقراءة القرآن لعل الفرج يأتي قريبًا.
انشغلت أنا وزميلي علاء بحدث هام وقع في زنزانتنا وهو قيام قطتنا المفضلة الذكية ساندي بالولادة في كرتونة قمنا بإعدادها خصيصًا ووضعناها أسفل سرير علاء. كانت ساندي تقفز من نضارة باب الزنزانة مباشرة إلى سريري الواقع في الطابق العلوي. ولكن مع تضخم بطنها من الحمل، لم تعد قادرة على القفز، وكنا نساعدها، أنا وعلاء، للانزلاق من النضارة إلى الأرض.
وللقطط مع نزلاء السجن قصص وحكايات، ولكن لم يكن هناك من هو أكثر حبًا للقطط وحنوًا عليهم من زميل الزنزانة علاء عصام. وبجانب ساندي التي قامت بالولادة في زنزانتنا، كانت هناك قطة صغيرة أخرى اسمها نورا تبناها علاء وأنقذها من براثن القطط الشريرة المفترسة في الخارج لأنها كانت هادئة وجميلة، ولم تكن قادرة على المنافسة في القفز إلى أعماق أعماق صناديق القمامة الضخمة الواقعة في ساحة التريض.
كان علاء يقوم بتنظيفها يوميًا، ولم يكن يسمح بخروجها من الزنزانة إلا بصحبته في ساعة التريض لكي ترى الشمس. ولم تكن نورا بدورها ترغب في الخروج من الزنزانة لخوفها الشديد من القطط الأكبر في الخارج، وخاصة قط أطلقنا عليه اسم الجبلاوي لأنه كان ضخمًا كهلًا وتوجد منه نسخ متعددة من القطط الصغيرة في كل أرجاء العنبر. ولكن قطته المفضلة كانت "ستورمي" ملكة جمال قطط العنبر وكانت تتمتع بحمايته في مواجهة الهجمات الشرسة من القطط الذكور الآخرين. وكان زميلي في الزنزانة المقابلة يتعامل مع علاقة الجبلاوي وستورمي برفض صارم، واذا ما تصادف واجتمعا للتزاوج أمام زنزانته يسارع بملء زجاجة مياه ويلقيها عليهم لكي يبتعدا بينما يردد "عيب كده".
أخيرا جاء الفرج عشية أول أيام شهر رمضان. هل من المعقول أن تكون الجهات المعنية مهتمة لهذه الدرجة أن تبدو صورتها إنسانية حين تقول الصحف أنه تم الإفراج عن الصحفي خالد داود لكي يتمكن من إفطار أول يوم رمضان مع أسرته في منزله؟ ربما.
في نحو الخامسة مساء، وقبل إغلاق العنبر بقليل، جاءني صديقي المسير الجهادي المحبوس منذ عقود لكي يطلعني على أنني مطلوب في مكتب ضابط الأمن الوطني. لم نكن التقينا مطلقًا منذ المقابلة الثانية مع ضباط مباحث الأمن الوطني. فور أن رأيته، ووجدت بجواره أحد الضابطين اللذين التقيت بهما قبل نحو شهر، بدأت في الصراخ "حصل إيه، إنتم رجعتم في كلامكم ولا إيه؟ إزاى كده؟ مش قلتم أيام؟ عدى شهر" نظر لي الضابط الشاب وعلى وجهه ابتسامة عريضة جدًا وقال "إحنا ما بنرجعش في كلامنا. ياللا إرجع زنزانتك ولم حاجتك. أنت خارج دلوقتي."
تجمدت الصورة والزمن للحظات، ولم أصدق ما أسمعه. أردت أن أقبل واحضن كل من يحيطون بي، ولكنني اكتفيت بمصافحة ضابط الأمن الوطني الذي حضر كل زياراتي على مدى 19 شهرًا ويعرف جيدا كل أفراد أسرتي وأدق تفاصيل حياتي الشخصية وآرائي السياسية عبر مناقشات امتدت ساعات. كما حرصت على مصافحة رئيس مباحث السجن الذي كان شديد الإنسانية والاحترام في التعامل معنا وكنا جميعا نشعر نحوه بالامتنان لحسن تعامله معنا ومع أسرنا. ولكنني احتضنت وقبلت كل الشاويشية والمخبرين الذين أصبحوا أصدقاء مع مرور الوقت، وخاصة الشاويش عم محمد الذي اصطحبني للقاء الضباط بينما احدى يداي مقيدة بالكلابش معه، وعاد بي إلى الزنزانة دون أي كلابش ووجهه تعلوه ابتسامة سعادة حقيقية لأني على وشك الخروج.
فور وصولي إلى ساحة التريض في العنبر والتي حفظت مساحة أمتارها طولًا وعرضًا، بل عدد البلاطات فيها، قمت بالسجود شاكرًا وممتنًا لله سبحانه وتعالى، وأنه استجاب لدعائي بإنهاء محنتي والعودة للوقوف بجوار والدي في ظروفه الصحية الصعبة، وأنني أخيرًا سأتمكن من زيارة قبر شقيقتي منال.
عند مدخل "الأنبوبة" أو الممر الذي يفصل بين الزنازين المتقابلة صحت بصوت عال "أنا خارج يا عنبر" لتنهال بعدها صيحات التهنئة والمباركة من كل الزنازين. كان المخبر الذي صحبني مع الشاويش للزنزانة يصر على ضرورة إنهاء جمع متعلقاتي في أسرع وقت ممكن بناء على الأوامر الصادرة له. ولكني تمسكت بضرورة المرور على كل زنازين العنبر الستة عشر، بداية بزنزانتي المشتركة مع علاء، لكي أصافح وأقبل الجميع، سياسيين و جنائيين، شركاء العيش والملح على مدى 19 شهرًا.
عندما كنا نتحدث في العنبر عن حلم يوم الخروج كنا نقول إننا على استعداد للخروج من السجن دون أية متعلقات، ولو اضطررنا للخروج بملابسنا الداخلية، أو حتى من دون أي ملابس. فنحن نعيش في بلد لا يشعر فيه أحد بالدهشة إذا واجهه شخص مجنون يمشي عاريًا في الشارع ويرفض محاولات المارة تغطيته ببطانية أو جلباب. وبعد قضاء كل هذه الشهور والأيام في السجن، لم يكن لدينا أي مانع أن نتلقى معاملة مجانين الشوارع مقابل أن نعود لنيل حريتنا، أو هكذا كنا نسخر.
لم آخذ معي أي شيء من متعلقات السجن سوى بطانية قديمة صغيرة كانت تتدفأ بها أمي رحمة الله عليها، وبعض الأدوية، وارتديت ملابسي الرياضية التي كنت أتعامل معها على أنها بمثابة بدلة سموكنج مقارنة بسترة السجن الرسمية، حتى ولو كان مطبوعا كلمة "احتياطي" بحروف كبيرة على الجزء العلوي. طلبت من المسير أن يستأذن في خروجي من السجن بصحبة قطة علاء عصام، "نورا" في كرتونة صغيرة قام علاء بتجهيزها وإعدادها على عجل، أملًا في أن تنعم معي بحياة أفضل خارج السجن وبشرط أن أقوم بتسليمها له فور خروجه. جاءني المسير بعد دقائق ليعلمني برفض طلبي وأن الضابط قال "إحنا مش جنينة حيوانات. يعني إيه يخرج بقطة؟" فاعتذرت لعلاء.
عدت بصحبة المخبر إلى بوابة السجن. كان مخبرًا سخيفًا ضخم الجثة أصر على الإمساك بي من كتفي لتذكيري أنني في السجن حتى اللحظات الأخيرة. قلت له "خف ايدك. أنا خارج خلاص" ولكنه لم يستمع لي. شكوته للضابط فور أن رأيته وقام بتوبيخه. سألني مأمور السجن إذا ما كان لدي أية متعلقات شخصية. طبعا كانت هناك ملابسي التي تم التحفظ عليها يوم دخولي السجن، ولكن من الذي يريد ارتداء ملابس مخزنة في مكان مجهول منذ 19 شهرًا؟ رددت بالنفي، وتوجهت بصحبة ضابط الأمن الوطني الذي التقيت به لاستقلال سيارة ميكروباص فاخرة كانت تنتظرنا خارج السجن.
تذكرت يوم اصطحابي لزيارة والدي لتعزيته في وفاة شقيقتي قبل نحو عام من خروجي، وكيف كانت تنتظرني عشرات السيارات وإجراءات التأمين. كما تذكرت يوم إلقاء القبض علي في الشارع ودفعي للدخول في السيارة وتغطية وجهي بكيس قماش أسود. أما الخروج فكان بسيطا جدًا. أنا والسائق والضابط فقط في السيارة. وأصر الضابط على أن يشتري لنا بعض السندويتشات الساخنة من أحد المحلات القريبة من السجن، وألح على أن أتناول الطعام معه. لم أكن أعرف إلى أين نتوجه، ولم أسأل. ولكن عرفت من الطريق أننا متوجهين نحو المقر الرئيسي للأمن الوطني في مدينة نصر.
كنت أنظر من نافذة السيارة إلى الشوارع في الخارج وكأنني طفل صغير، أتأكد من أن ما يحيطني بالفعل هو سيارات وزحام. كما كنت انظر لوجوه البشر وملابسهم، ملابسهم العادية التي لم تقتصر على ألوان الأبيض والأزرق فقط. دخل معي الضابط في حوار مطول حول كل ما مررت به وأسبابه ومرحلة عملي تسع سنوات كمراسل صحفي للأهرام وقناة الجزيرة في واشنطن ونيويورك، وكذلك مقارنة وضعنا الحالي بما كان عليه وضع الصحافة والإعلام في زمن مبارك. لم أفهم من الضابط الكثير، ولم أكن أتوقع غير ذلك.
أخيرًا وصلنا لمقر الأمن الوطني الضخم، وسرنا في طريق طويل حتى وصلنا لمبنى توقفت أمامه السيارة. قمنا باستقلال المصعد وتوقفنا أمام مكتب كان واضحًا أن من يشغله من أصحاب الرتب العليا، وكانت هناك لافتة على الباب تحظر دخول أي فرد دون الكمامة. وكان هذا أول تعامل لي مع آثار انتشار فيروس كورونا.
كان الرجل يكبرني بعدة أعوام، وقال إنه يعرفني منذ سنوات وكان من المعجبين بمواقفي وآرائي أثناء مواجهة جماعة الإخوان في السنة التي قضوها في الحكم. شكرته على ما قاله وقلت له أن كل ما يهمني هو أن أعرف سببًا مباشرًا وواضحا لإلقاء القبض عليّ، حتى لو من قبيل فهم ما يمثل خطوط حمراء لا يجب تجاوزها لكي لا أعود للسجن مجددًا. كان هذا هو سؤال "المليون دولار" كما يقول الأمريكيون، والذي لم أحصل على اجابة له حتى الآن.
كان رد السيد المسؤول الذي التقى بي "دعنا لا نتحدث في الماضي، ولننظر للمستقبل. المهم دلوقتي خالد داود هيعمل إيه بعد خروجه؟ خالد داود لازم يهتم بخالد داود، وبوالد خالد داود وشغل خالد داود". سمعت اسمي العديد من المرات، وكان من الواضح أن أحدًا لن يقول لي صراحة تم إلقاء القبض عليك بسبب كذا وكذا. وأنهى المسؤول حديثه بإخباري أنه أعدَّ لي أيضًا مفاجأةً سعيدةً، وهي أنني سأستعيد سيارتي التي تم التحفظ عليها عند إلقاء القبض علي، وأني سأتسلمها في اليوم التالي.
في الطريق للخروج من المبنى، تصادف مرور عدد من الضباط، الذين حرصوا جميعا على مصافحتي وقول "حمد الله على السلامة يا أستاذ خالد". ولم أستطِع أن أمنع نفسي من التساؤل مجددًا عن سبب حبسي كل هذه الفترة إذا كان كل من التقيتهم من الضباط يتعامل معي بكل هذا الاحترام. وأخيرًا استوقفني أحد الضباط ليسألني اذا ما كنت سأعود للشارع وأنا أرتدي ملابس السجن. وكان ردي أن هذه الملابس هي كل ما أملك وأنها بدلة رياضية وليست سترة سجن وبالتالي يمكن ألا تلفت انتباه أحد. ولكن الضابط أصر على أن أخلع الجزء العلوي من ملابسي المكتوب عليه كلمة "احتياطي"، ومنحني الجاكيت الشتوي الخاص به. حاولت أن أرفض، ولكنه ألح. كما أصر على منحي بعض النقود لكي استقل سيارة تاكسي إلى منزلي.
ومن مقر الأمن الوطني في مدينة نصر، توجهت بصحبة نفس الضابط إلى مقر الأمن الوطني في العباسية. تخطينا بالكاد بوابة الدخول التي تخضع لحراسة مشددة، وبعدها طلب مني الضابط الانتظار قليلا في الساحة الخارجية. لم تكد تمضي لحظات حتى رأيت سيارتي تتوقف أمامي، ولم يتم الانتظار حتى الغد.
لم أصدق عيني، وسألت الضابط عما هو مطلوب مني بالضبط. قال لي بكل بساطة "إركب عربيتك وروح!". لم أصدق ما أسمعه. سألته كيف يتوقع مني أن أقضي 19 شهرًا في زنزانة ضيقة ثم اخرج فجأة لقيادة سيارتي في الشوارع المزدحمة والعودة للمنزل كأنني كنت في زيارة لمنزل أحد الأصدقاء؟ لا شك أنني نسيت القيادة ولن أتمكن من تحريك السيارة. وكان رده "اركب بس أنت، وأول ما هتبتدي تسوق هتفتكر".
كان الأمر بمثابة حلم. كانت السيارة قد حصلت على شحنة بطارية نظرا لتوقفها لفترة طويلة، وهو ما يعني أنها لو انطفئت فجأة ستكون أول مهامي بعد الخروج البحث عن سيارة تقدم يد المساعدة ويقوم سائقها بشحن البطارية مجددًا.
استخدام الوصف التقليدي أن ساقيَّ كانتا غير قادرتين على حملي هو تبسيط مخل. جلست في مقعد القيادة وأنا أنظر لكل من حولي من الشباك غير مصدق. لحظات وانطلقت السيارة وكنت في الشارع في ميدان العباسية. كل شيء بدا جديدًا، بما في ذلك السيارات في الشارع. توقفت في إشارة قبل استقلال كوبري 6 اكتوبر الرهيب، ووقفت بجواري سيارة أخرى. فوجئت أن من يركب بجوار السائق يوجه لي التحية "إزيك يا أستاذ خالد؟"، قلت له "انت تعرفني؟ أنا لسه خارج من السجن دلوقتي". هز رأسه بالإيجاب قائلا "حمد الله على السلامة".
كانت الرحلة طويلة جدًا من العباسية حتى شارع أحمد عرابي في المهندسين، استرجعت خلالها الكثير من المشاهد من تجربة السجن الطويلة، الليلة الأولى التي قضيتها معصوب العينين ومقيد اليدين في نفس المكان الذي استلمت منه سيارتي غالبًا، الزنزانة وزملاء العنبر والكلابشات وعربة الترحيلات والشاويشية والمخبرين وضابط الأمن الوطني في السجن والزيارة الأخيرة لشقيقتي قبل إغلاق السجون بسبب كورونا وخروجي لتعزية والدي.
ركنت السيارة في نفس المكان الذي قمت بالتوقف عنده عندما تم إلقاء القبض علي فور نزولي من العربة في 24 سبتمبر/ أيلول 2019. لم أكن أعرف كيف سيكون لقائي بأبي ولكني كنت متشوقًا للغاية لاحتضانه. قمت بدق الجرس عدة مرات حتى يتمكن من سماعه. كنت أعرف أنه يأخذ وقتًا طويلًا حتى يفتح الباب بسبب صعوبة المشي. فتح والدي الباب أخيرًا. وقف ينظر إليَّ دون أن ينطق كلمة واحدة ولم يستوعب من الذي يقف أمامه، قائلا "مين؟".
اضطررت أن أقول "يا بابا أنا خالد ابنك. خرجوني من السجن دلوقتي". استمر تردده لثوان ثم انهالت الدموع من كلانا ونحن نحتضن بعضنا البعض لدقائق لم تنته بينما يردد أبي إسمي دون توقف "خالد.. خالد". حضن دافئ طويل عدت معه طفلًا صغيرًا لا يحلم بشيء سوى الأمان في حضن أبيه.
انتهى الكابوس العبثي.