لم أتشرف من قبل بالاستماع إلى المنتج الفني لفرقة شكون قبل انتشار الفيديو الذي تغني فيه "شيد قصورك" في إحدى قرى الساحل المنتمية لطبقة "الدولشي فيتا"، ذات الثراء الفاحش، المنعزل، المغترب. بل إنني لم أقع على لفظة "شكون" إلا في إعلان كروي لفريق الجزائر القومي حيث كانوا يرددون "شكون نحنا؟ نحنا الجزائر".
"تصرفت" الفرقة في اللحن بالشكل الذي ارتأته مناسبًا لنمط التكنو الذي تقدمه، الأمر الذي أضفى روحًا متجددة على موسيقى الشيخ إمام التي تتقبل التحديث بيسر. بيد أن الفرقة لم تشر إلى الكاتب أو الملحن. واستحسانًا للنوايا، ربما ظنت أن الاسمين من المعلومين من الفن بالضرورة، وإن كانت الأمانة تستدعي الإشارة إلى اسمي صانعي العمل الأصليين.
تفجرت السوشيال ميديا في استقبال الفيديو بين منبهرٍ وساخرٍ وغاضبٍ، إلى جانب بعض الذين أصابهم الارتباك لعدم تجانس الزمكان مع المحتوى، وتطرَّف البعض وكأنَّ قرآنًا تُلي في ماخور، وبعضٌ آخر ربما أصيب بالغيرة من انبعاث الحياة في تجربة فنية يرجون لها الموت. ومع كل ردود الأفعال هذه، انسدلت أمامي ثلاثة مشاهد، أحدهما مرويٌّ واثنان مشهودان.
قصة الخلق
في يناير/كانون الثاني 1973، انهمر الوحي على رأس أحمد فؤاد نجم في الزنزانة التي شرفها في حملة الاعتقالات إثر اعتصامات الطلبة في الجامعات المصرية. فتسلق بوابة زنزانته ونادى من كوة الباب على رفيق كفاحه "يا إمَّة.. عندنا حاجة".
ثم طفق يسمعه ما جادت به قريحته، ليجيبه الشيخ إمام بالكلمات ملحنة، حتى أنهيا أغنية شيد قصورك، فانتقلت إلى آذان رفقاء السجن الذين حفظوها بتفاوت قدرات الغناء والذاكرة.
في تلك الأيام، كنت في بطن أمي الكاتبة صافي ناز كاظم قابعيتن في إحدى زنازين سجن القناطر الخيرية. ولزيادة التكدير، جعلوا مواعيد جلسات التحقيق معها مخالفة لجلسات التحقيق مع نجم، زوجها آنذاك، لكن مجموعةً أخرى من الرفيقات ذهبن إلى تحقيق تزامن مع جلسة إمام ونجم.
ولسبب لم يعلمه إلا علام الغيوب، تمتع الوالد الشاعر أحمد فؤاد نجم بمحبةٍ تغزو قلب كل من يقابله، بمن فيهم الضباط الذين يقبضون عليه، ووكلاء النيابة الذين يحققون معه. لذا دأبوا على استقبال أبو النجوم استقبالًا حافلًا وهو ينزل من سيارة الترحيلات دالفًا إلى سراي النيابة.
كان السادة الوكلاء والسادة الضباط يتجمعون حوله كأطفال حول بائع حلوى، وهم يطلبون منه أن يسمعهم آخر أعماله الفنية، فلا يبخل عليهم بالجديد، ثم ينتقل إلى فقرة ما يطلبه المستمعون: "طب سمَّعنا يا نجم جيفارا".. "طب سمَّعنا يا أبو النجوم يعيش أهل بلدي". والمدهش أن بعضهم كان يطلب قصيدة بلدي وحبيبتي التي يقول فيها:
إنتو دود الأرض والآفة المخيفة
إنتو ذرة رمل في عيون الخليفة
إنتو كرباج المظالم والمآسي
إنتو علة في جسم بلدي
إنتو جيفة
وما إن ينتهي من الفقرة الفنية، حتى يدخل إلى غرفة التحقيق ليطسَّه المحقق، الذي كان قبل لحظات من جمهوره، قرار استمرار حبس، حتى أن أبو النجوم كتب قصيدة "باستمرار".
على عادته، دخل نجم مع إمام سراي النيابة، وأسمع الجمهور المتشوق الأغنية الجديدة شيد قصورك، فالتهب الحماس في أرجاء النيابة، والتفتت الرفيقات باسمات متلقفات الأغنية الجديدة.
عادت الراحلة سهام صبري، إحدى رموز الحركة الطلابية، إلى زنزانتها التي ترافق فيها أمي في سجن القناطر، وعيناها تشعان بالسعادة والفخر "عاملين حتة أغنية جديدة يا صافي.. حتبقى هي النشيد الثوري بتاعنا".
هكذا روت لي أمي.
تحققت نبوءة المهندسة سهام صبري، رحمها الله، التي كانت استنتاجًا منطقيًا بعد ما رأته من فورة حماس أصابت الضباط ووكلاء النيابة أنفسهم.
تحولت الأغنية إلى نشيد ثوري يتململ أصحاب الشأن من عواقب غنائه في أي محفل، وهو ما يقودنا إلى القصة الثانية.
قصة المنع
في الشهر الفائت، أقام المركز الثقافي الروسي احتفالًا بذكرى ميلاد الشيخ إمام، رحمة الله عليه. حضر الحفل عدد كبير من الجمهور وجّله في ريعان الشباب، وربما بلغ بعضهم الحلم قبل عامين أو ثلاثة، أي أنهم كانوا أطفالًا، وربما رُضَّعًا، إبان قيام ثورة يناير 2011.
أحيا الحفل الفنان أحمد إسماعيل الذي أبى، لأسباب عرفناها لاحقًا، الاستجابة لطلب الجمهور بغناء شيد قصورك، وأصر على رفضه وهو يقول "مش حافظها"، ليجيبه الجمهور "إحنا حافظينها".
ثم انطلق الشباب في غنائها، ففضلت إدارة المركز إنهاء الليلة حفاظًا على السلم الاجتماعي والصحة العامة.
عقب الحفل، أخبرني المهندس سيد عنبة، رئيس جمعية محبي الشيخ إمام، أن هناك بعض المحظورات ومن بينها هذه الأغنية التي تسبب القلق.
يأتيك من حيث تترفع أنت أن تأخذه
لا أظن أن من نظَّم حفل شكون في "الساحل الشرير" جال بخاطره أن حدثًا مثل هذا سيقع. ربما يعلم أن شكون غنت هذه الأغنية، وربما وثق في حصافتهم أكثر من اللازم. ربما لا يعلم. ربما وضع في اعتباره أن أغنية كهذه لن تجد صدىً بين جمهور هو أحد المتهمين بين طيات الأغنية، تحديدًا بتشييد القصور على المزارع من كدِّ العامة وعمل أيديهم.
لا أحد يعلم الكواليس. لكني لا أظن أن أقدام أعضاء شكون ستطأ أرض مصر مرة أخرى، وآمل أن أكون مخطئة.
تأسست شكون عام 2015، وتتألف من سوريين اثنين؛ أمين خاير وماهر القاضي، مع الألماني ثورين بيكر. في هذه السنوات القليلة حققت الفرقة نجاحًا فاتني متابعته، وهم يتميزون بغزارة الإنتاج.
أغلب الظن أن الفرقة رغبت في "مجاملة" الجمهور المصري، فأنشدتهم أغنية لشاعر وملحن مصريين معشوقين في سوريا والعالم العربي. ربما يعرف أمين وماهر أن الجمهور في سوريا حمل نجم وإمام وهما بداخل السيارة حبًا وتبجيلًا عندما ذهبا إلى هناك، فعمدوا إلى غناء هذه الأغنية لكسر الجليد وإبداء المحبة والتقدير للفن المصري. ولا أظن أبدًا أنهم حسبوا حساب ردود الفعل المتخبطة التي اندلعت إثر فعلتهم البريئة.
غير أن المفارقة لا تترك لي مجالًا لالتزام الوقار: شيد قصورك ممنوعة في المركز الثقافي الروسي، لكنها تُغنَّى في الساحل الشرير!
الأنكى أن الجمهور استقبلها استقبالًا حارًا متحمسًا، كعادة استقبال الجمهور، أي جمهور، لهذه الأغنية، بمن فيهم الضباط ووكلاء النيابة الذين يقيدون حرية المؤلف والملحن.
على الهامش
العمر يمر والهزيمة تزيد الروح هزالًا وهرمًا. فمن كان في مكان الشباب الذي استقبل الأغنية نفسها بحماس في يوم من الأيام، انزلق اليوم في ترهات الهزيمة وتراكم المرارة ونمت الطحالب على روحه المنكسرة. هذه سمات الذين يدخلون في تفاصيل ما أنزل الله بها من سلطان، ويعبثون بالأزرار والأركان ويسحبونك لجدالات تفوح منها رائحة الشيخوخة النفسية. مثل الجدالات العقيمة حول سليمان الحلبي، وجدوى المقاومة، أو "مالها الخمارات؟ هل هذا تنميط ووصم لشاربي الخمر؟".
مشهد يذكرني بمشهد في مسرحية ماما أمريكا (1994) حين تساءل شعبان حسين، صاحب التاريخ، "باب القلعة متركب معدول ولا مقلوب؟". عندما وُلدَت القصيدة ثم لحنها، كانت هناك حركة شبابية يسارية تعرف جيدًا عن تاريخ النضال وحاضره وجدواه، والمتحرك لا ينزلق في السفسطات.
إلا أنه تحسن الإشارة، ولو تنويرًا للأجيال القادمة، إلى صورة "الخمارات جنب المصانع"، لأنها صورة مركبة وأزعم أنها شديدة الجمال أيضًا.
إبان الثورة الصناعية في أوروبا، كان العمال والنساء يعانون أوضاعًا غير إنسانية بالمرة لخَّص بعضها الشاعر البريطاني ويليم بليك في صورٍ تدمي القلب. وتجنبًا لغضب العمال، ولوأد أي تحرك احتجاجي، قررت السلطات البريطانية ومن خلفها السلطات الأوروبية، بناء خمارات بجوار المصنع.
وهكذا صار العامل يخرج بعد يوم طويل شاق قضاه بلا وجبة ولا شربة ماء، رأى فيه الآلةَ تقطع ذراع زميله ثم يراه يُلقى في الشارع دون تعويض، فيدخل الخمارة ويسكر، لينسى ما هاله.
استخدم نجم هذه الصورة القاتمة للإشارة إلى الغبن الاجتماعي شديد الرجعية الذي عانى منه المجتمع المصري آنذاك، طاردًا الفقراء خارج حركة التاريخ. فالرئيس المؤمن لم يبنِ خمارة قط، لا بجوار مصنع ولا غيره.
الشعر حصان رغم القضبان
لا أعلم لماذا غضب البعض من غناء هذه الأغنية في ذلك المكان، وكأنَّ طاهرًا تنجس.
الحق أن أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام لم يكن لديهما سلاح سوى الكلمة والأغنية، وصاحبا الكلمة والصوت لا يأبهان إلا أن يتسل صوتهما إلى كل أنحاء البسيطة، تتلقفه كل الأسماع عسى أن يجد أذنًا واعية في أي ركن من أركان الأرض.
نحن في وقت يعاني فيه المجتمع من فوضى قيمية، مع انحسار الدور التقليدي للبرجوازية في إنتاج الثقافة والقيم والفن، فباتت أقرب إلى طبقة لبلاب تتشبث بالأثرياء خوفًا من السقوط، وتسير في ركبهم مدافعة عنهم ضد فقراء لم يتجاسروا على المساس بهم بالأساس.
لقد سعدت كثيرا، بل وتلبستني حالة روحانية من الدروشة، حين رأيت هذا المشهد المزغرد المباغت.
الأمر يستدعي الحديث عن تجربة فنية لا تموت، بل تزداد وهجًا ورونقًا وبهجةً وجدةً كلما مرَّ عليها الزمن. رغم التجاهل، والتهميش، والتنديد، والتشويه. فبعد السجن جاءت التغريبة، وبعد التغريبة جاءت القطيعة، وبعد القطيعة حضر هادم اللذات ومفرق الجماعات، وبعد الموت جاء تجاهل الشيخ إمام والتقليل من مكانته وقدره كملحن عظيم، استنادًا إلى سوء التسجيلات، ثم وصم الشاعر بالملحد الشيعي الحشاش.
ومع ذلك تتخطى هذه التجربة الزمان والمكان والطبقات الاجتماعية، حتى تصل إلى المجتمعات المخملية.
أما حان الوقت لإنصاف التجربة الفنية الفريدة "إمام-نجم"؟