تصميم: يوسف أيمن- المنصة

الجنسية: مواطن كمباوندي

منشور الثلاثاء 10 يونيو 2025

قبل نحو 20 عامًا، خُضت ما كان يُعَدُّ مغامرةً في ذلك الوقت عندما اشتريت عقارًا داخل أحد المجمعات السكنية المسورة، المعروفة الآن بالكمباوند، في مدينة الشيخ زايد التي كانت نائية وأغلب أراضيها صحراء جرداء، لأن أحياء القاهرة التي طالما تطلع أبناء الشريحة العليا من الطبقة الوسطى للسكن فيها، باتت رغم حيويتها وارتباطها بالذكريات وأماكن التسلية والسهر، شديدة الزحام والضوضاء والتلوث بنهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات.

بالتالي، من كان يفكر في توفير حياة أفضل نسبيًا لأبنائه وأسرته ولمستقبله عمومًا، وجد الحل في الخروج من هذه المدينة المزعجة الملوثة إلى أطرافها، والتمتع بمساحات أكبر من اللون الأخضر الذي اضمحل في العاصمة التاريخية، لصالح الأسمنت القبيح والأبراج العالية.

ولاستقطاب العائدين من الخليج، حيث قضى ملايين المصريين سنوات يكدحون لادخار قيمة شقة، في زمن كنا نعاني فيه أزمة سكن طاحنة، قدَّمت شركات البناء والتطوير العقاري وحداتها في المجمعات المُسوَّرة في المناطق الجديدة، مثل الشيخ زايد و6 أكتوبر والقاهرة الجديدة وغيرها، بتسهيلات في التقسيط تسمح بالدفع على مدى سنوات. كما أن الأسعار كانت أقل نسبيًا من المناطق الأكثر رقيًا في القاهرة.

مصيف النصف مليار

أحد مشروعات الساحل الشمالي ، نوفمبر 2024

لكن اليوم، وبعد أن أثمرت محاولات جعل الطبقات الوسطى من المصريين؛ الشعب الذي يكره أغلبه التنقل وترك منزل العائلة أو الابتعاد عن حي النشأة، يتسابقون على الانتقال إلى أطراف المدينة، لم تعد هذه التسهيلات كما كانت.

معدلات ارتفاع أسعار العقارات في المدن الجديدة والكمباوندات باتت أعلى من معدلات زيادتها في أحياء القاهرة. بالإضافة إلى أن سنوات التقسيط أصبحت قصيرة نسبيًا مقارنة بالدول التي تطبق نظام الرهن العقاري، الذي يمتد لفترات تتراوح بين عشرين وثلاثين عامًا لتشجيع المواطنين على تملك المنازل بديلًا للتأجير.

تعكس الزيادة المطردة في الأسعار أيضًا الرغبة في اجتذاب المزيد من العملاء من أصحاب القدرات الشرائية، لتمييزهم عن الغالبية العظمى من المصريين أصحاب الدخل المحدود، الذين لا نعرف نسبتهم على وجه اليقين، لأن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لم يُصدر نشرات مؤشرات الفقر منذ عام 2020، عندما قدَّرها بنحو 30% من السكان.

كُتب الكثير عن الاتساع المطرد في الفوارق الطبقية في مصر، وتأثير السكن في فقاعات الكمباوندات التي تحوّلت إلى جزر منعزلة. لكن خلال السنوات الماضية، زادت شراهة الكثيرين إلى الانعزال والسعي للابتعاد في منازل فاخرة، بالتزامن مع حصاد ملايين المصريين ثمار سياسات التعويم والقروض والمشروعات "القومية" التي لا تحقق مصالح الغالبية الكاسحة منهم.

وكوني من تعساء الحظ الذين يتلقون مكالمات المطورين والوسطاء العقاريين، سمعت أرقامًا صادمة ومذهلة بل ومجنونة من مندوبي المبيعات. ليس فقط لضخامتها، لكن أيضًا لأنها لا تتسق مع الوضع الاقتصادي المتدهور الذي نعاني منه في مصر منذ سنوات، بالإضافة إلى أنها تزيد عن القيمة الحقيقية لما يتم بيعه.

يبدأ مندوبو المبيعات حديثهم بشقق تبدأ أسعارها من سبعة وثمانية ملايين جنيه "بس" ثم فيلا "لقطة" تبدأ من 18 مليون جنيه حتى 30 مليون جنيه، و"الحق بسرعة اشتري" لأن عددَ الوحداتِ المتبقي محدودٌ.

هل يصدق من يدفعون هذه المبالغ الطائلة أنهم يحصلون مقابلها على عقارات بالقيمة نفسها فعلًا؟

وفق ما فهمته من السادة المندوبين المزعجين، مهما حاولت التعاطف معهم، فإن ما كنا نسمِّيها بـ"المدن الجديدة" مثل القاهرة الجديدة أو الشيخ زايد أو أكتوبر والرحاب والشروق ومدينتي، باتت اليوم مناطق قديمة ومزدحمة لا تليق بالباحثين عن التميز والعزلة والابتعاد عن العامة والدهماء، أو حتى الطامحين أمثالي من أبناء الطبقة المتوسطة.

على هذا الأساس، يخوض من يبحث عن الرقي والإقامة في كمباوند فندقي فاخر تتوافر فيه كل متع الحياة من مساحات خضراء وبحيرات وأندية وملاعب جولف ومناطق متسعة للعب الأطفال ومدارس وجامعات دولية ومستشفيات وفنادق ومراكز تسوق خمس نجوم، أكثر فأكثر في عمق الصحراء، حيث المناطق الأبعد عن الزحام، بأسعار تبدأ من 50 مليونًا وقد تصل إلى مائتين.

بجانب منازل الإقامة في القاهرة، هناك بالطبع المنتجعات الصيفية في الساحل الشمالي ورأس الحكمة التي لم يبدأ البناء فيها بعد. حتى الشقق والفيلات التي لا يقيم فيها من يشترونها إلا شهورًا قليلة في السنة، تباع بملايين كثيرة. في إعلان على طريقة "باتنين ونص، تعالى بص"، تُباع فيلا في أحد كومباوندات الساحل الشمالي "الشرير" بـ 70 مليونًا "فقط". لأن هناك فيلات أخرى يصل ثمنها إلى نصف مليار جنيه.

عين السائح

من يدفعون هذه المبالغ الطائلة هل يصدِّقون أنهم يحصلون مقابلها على عقارات بقيمتها فعلًا؟ أم أن ما يجري هو عملية تدوير بين طبقة الأغنياء المحدودة جدًا في مصر، ممن يرغبون في الاحتفاظ بثرواتهم المتراكمة في أصول ثابتة حتى لو كانت قيمتها الحقيقية أقل بكثير مما يدفعونه؟

نحن نتحدث عن أثمان تتراوح بين مليون دولار وعشرة ملايين. مبالغ تضاهي بل وتفوق بمراحل ما يلزم لشراء منزل فاخر في الولايات المتحدة أو أوروبا، مع الوضع في الاعتبار أننا في مصر، حيث يبلغ الحد الأدنى للأجور شهريًا سبعة آلاف جنيه، أي 29 جنيهًا في الساعة، أي نحو 60 سنتًا أمريكيًا، بينما يبلغ الحد الأدنى في الولايات المتحدة 7.25 دولار للساعة.

عندما تقفز أسعار هذه العقارات قفزاتها المتتالية، هل يرتبط ذلك بوضع السوق والاقتصاد؟ أم أن الأمر عشوائي مرتبط برغبة هذه الطبقة في الابتعاد أكثر وأكثر عن بقية طبقات المجتمع، بما فيها تلك التي تشمل أصحاب الدخول الجيدة نسبيًا وفق معدلات الدخل الحالية في مصر، لكنهم ما زالوا "فقراء جرابيع" بالنسبة لنخبة النخبة من أصحاب المليارات الوفيرة؟

ويبقى السؤال الأهم؛ هل يمكن اعتبار أبناء هذه الطبقة من سكان المدن المُسوّرة في وسط الصحراء، مكتفين بما لديهم من خدمات خمس نجوم على مدار الساعة، جزءًا من المجتمع؟ أم أن جنسيتهم الجديدة ستكون مواطن كمباوندي؟

هذا وضع خطير للغاية، ليس فقط بسبب مخاوف انفجار الفقاعة العقارية التي جعلت أثمان مبانٍ أسمنتية وسط الصحراء تفوق قيمتها بأضعاف، لكن كذلك لأن أبناء وبنات الصفوة، الذين يفترض أنهم يتلقون التعليم الأفضل، لن تكون لهم علاقة بوطنهم خارج الكمباوند، وستبدو القاهرة بالنسبة لهم بعيدة جدًا واسمها كايرو، لأنهم سيتحدثون أغلب الوقت بالإنجليزية، وسيزورونها في رحلات استكشاف استشراقية فلكلورية، ليروها بعين السائح لا ابن البلد.

تشتري فيلا ستاند ألون بـ200 مليون بس؟ يا بلاش!

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.