تصميم سيف الدين أحمد، المنصة 2025.
الأحياء المسورة تضع خطًا فاصلا بين مجتمعين

حاجة الكمباوند إلى الفوضى خارجه

منشور الثلاثاء 22 يوليو 2025

يمكن التأريخ لظهور المجمعات السكنية المُسوَّرة في مصر بدايةً من ثمانينيات القرن الماضي، بالتزامن مع عودة أعداد كبيرة من العاملين في دول الخليج بملاءتهم المالية الكبيرة التي استثمروها في القطاع العقاري. فقُدِّمت لهم هذه المجمعات المسورة بديلًا عصريًّا للسكن التقليدي، يُوفر الخصوصية والأمان والمرافق المتكاملة التي تناسب الطبقة الميسورة الجديدة.

في البداية، استهدفت الكمباوندات بشكل أساسي طبقة البرجوازية الجديدة التي سعت إلى التميز عن باقي شرائح المجتمع، في ظل توسع عمراني غير منظم اجتاح المدن الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية. لكنْ في العقد الأول من الألفية الثانية توسعت الكمباوندات مستهدفة أبناء الطبقة الوسطى العليا والميسورة.

اليوم، تعد الكمباوندات جزءًا أساسيًا من المشهد العمراني في مصر، لا تعكس فقط تغيِّرات اقتصادية واجتماعية، بل أيضًا تحولات في الهوية الطبقية والثقافية. لكن، هل يُعدُّ الكومباوند فكرةً جديدةً بالكامل، أم هو فكرة قديمة/جديدة، تتغير تمثُّلاتها فقط، بينما هي قابعة في جذور التاريخ وتطوره؟

جذور احتقار السكان

يمكن النظر إلى الكمباوند لا باعتباره تطورًا عمرانيًا حديثًا، بل ظاهرة هوياتية متجذرة تاريخيًا. فقد استخدمتها الطبقة البرجوازية عبر العصور لإعادة تشكيل صورة "الآخر" وتأطيره. بمعنى آخر؛ تُمثِّل الكمباوندات امتدادًا لممارسات استعمارية جرَّبها الأوروبيون في المستعمرات قبل أن يعيدوها إلى أوروبا.

في كتابه استعمار مصر، يناقش تيموثي ميتشل هذه المستوطنات الجديدة التي أنشأها المستعمرون معزولة ومُسوَّرة بالكامل في وجوه السكان الأصليين، كانعكاس لنمط الفصل المكاني والاجتماعي الذي ما زال حاضرًا إلى اليوم.

اعتمد الترويج لهذه المجمعات المُسوَّرة على فكرة سلب الآخر خارجها كل ما هو أخلاقي

تنطبق أفكار ميتشل بالأساس على لحظة استعمارية قديمة، حاول المستعمر الإنجليزي والفرنسي فيها بناء تجمعات سكنية مسورة خاصة بالمستوطنين الذين قدموا معه، بينما تُبنى الكمباوندات المعاصرة في سياق الدولة الوطنية. فكيف تفيدنا أفكار ميتشل في هذا السياق؟

هدف هذه المقارنة ليس القول بتطابق الحالتين، أو بأن هذه الكمباوندات "مستوطنات جديدة" كما يحلو للبعض اعتبارها، فهذا غلو نظري غير واقعي. لأنه في النهاية، لم يكن التملُّك في مستعمرات الإنجليز ممكنًا للمصريين، مثلما لم يُسمح للجزائريين بدخول المستوطنات الفرنسية في بلادهم. وجه التشابه هنا يكمن في الوظيفة الهوياتية التي يؤديها هذا النمط العمراني، والتي استمرت دون تغيير، وإن اختلف سكان هذه التجمعات المسوَّرة، ومعايير اختيار من يحق لهم دخولها. 

مهمة التجمعات المسورة ليست حماية سكانها، حتى وإن باعت في بعض اللحظات وهم الحماية خلف الأسوار، بل التمييز الهوياتي لمن بداخلها عمن هم خارجها؛ الذين سيُوصمون دائمًا بالعنف والعشوائية والعدوانية والشبق الجنسي. وفي السياق المصري، ستُضاف إلى كل ذلك أوصاف "الفلاحين" و"السرسجية" و"سكان العشوائيات".

طالما اعتمد الترويج لهذه المجمعات المُسوَّرة على فكرة سلب الآخر خارج السور كل ما هو أخلاقي. وهذا بالضبط ما يشرحه فرانز فانون في حديثه عن رؤية المستعمر لمن هم خارج المستعمرات، في كتاب معذبو الأرض "أما بلدة المستعمرين، أو على الأقل البلدة المحلية، قرية الزنوج، المدينة المعزل، فهي مكان سيئ الصيت، يسكنها رجال ذوو سمعة شريرة. يولدون هناك، ولا يهم كثيرًا أين وكيف؛ ويموتون هناك، لا يهم أين ولا كيف".

ويضيف "إنها عالم بلا اتساع؛ والناس هناك يعيشون فوق رؤوس بعضهم، وأكواخهم مبنية الواحد فوق الآخر. البلدة المحلية بلدة جائعة، تموت جوعًا للخبز، واللحم، والأحذية، والفحم، والضوء. البلدة المحلية قرية زاحفة، بلدة تلغ في الروث، إنها بلدة الزنوج الأقذار والعرب الأقذار. والنظرة التي يلقيها الشخص المحلي على بلدة المستوطن هي نظرة شهوة، نظرة حسد، تعبر عن أحلامه في الامتلاك، كل أشكال الامتلاك، أن يجلس على مائدة المستوطن، وأن ينام في سرير المستوطن، مع زوجته إن أمكن".

أما من يسكنون المدينة القديمة؛ هؤلاء "العشوائيون" و"الفلاحون"، فيتصورون المستوطنات، أو تُصوَّر لهم، على النقيض من ذلك، فهي بلدة "متينة البناء، مصنوعة كلها من الحجر والصلب. إنها بلدة زاهية الإضاءة؛ الشوارع مكسوة بالأسفلت، وصناديق القمامة تبتلع كل المخلفات، لا ترى ولا تعرف ولا يجري التفكير فيها. وأقدام المستوطن لا تُرى أبدًا إلا في البحر؛ لكنك هناك لا تكون أبدًا قريبًا بما يكفي لتراها. وأقدامه تحميها أحذية قوية رغم أن شوارع بلدته نظيفة ومعبدة، بلا حفر ولا أحجار. بلدة المستوطنين بلدة جيدة التغذية، بلدة رائقة المزاج؛ معدتها ممتلئة دومًا بالأشياء الطيبة. بلدة المستوطنين هي بلدة البيض، بلدة الأجانب".

ضرورة التضاد الفج

أترك فانون لأنظر إلى اللحظة الحالية، حيث تُعرض طوال العام عشرات المسلسلات التي تدور أحداث معظمها في حواري القاهرة القديمة وأحيائها الشعبية أو "العشوائية"، وتركز معظمها بشكل كبير على غياب النظام وانتشار العنف وغيبة الدولة عن هذه المجتمعات، حيث تترعرع الأمراض الاجتماعية والثقافية.

الكمباوند في حاجة دائمة للإبقاء على الآخر ليحافظ على السور الذي يفصل بينهما

ثم فجأةً، يقطع المسلسل فاصل إعلاني يعرض بكاميرات فائقة الجودة كمباوندات شديدة التنظيم، خالية من العنف، ومليئة بالمساحات الخضراء الواسعة.

يجعلنا هذا الانتقال نرى التضاد الفج بين سُكَّان هذه التجمعات ومن هم خارجها، هؤلاء الذين تعرض المسلسلات التليفزيونية حالتهم. هذا التضاد لا يلعب فقط وظيفةً تسويقيةً للكمباوندات، بخلق حوافز لحظية ومباشرة لدى الجمهور بالشراء، والرغبة في امتلاك وحدة في هذه المجتمعات الآمنة، والنظيفة، والمحمية، والمنظمة. بل يلعب وظيفة أكثر مركزية؛ بمنحِ ماهيةٍ لهؤلاء السكان في الداخل، كإجابة عن سؤال "من نحن؟"، لتشمل هذه الـ"نحن" المختلفين عن هؤلاء غير المنظمين، العنيفين، الشبقين، الذين يُساقون في الزحام كالحيوانات.

كما كتب ميتشل "هوية المدينة الحديثة يخلقها ما تبقيه خارجها، وحداثتها شيء متوقف على استبعاد نقيضها". ومن هنا أجادل بأنه لا إمكانية لتطوير وتحديث المدينة في شكلها العام والكلي، لأنه وبدون عملية الاستبعاد تلك، سيعني أن تنزع من الكمباوندات، وهذا النوع من العمران البرجوازي، تاريخيًا، وظيفته الأساسية، بمنح ساكنيه هويتهم المتمايزة.

هكذا، حين تتحدث حكومة ما عن تطوير المدينة القديمة، فهذا مشكوك فيه، لأن تطوير هذه المناطق بشكل لائق وعادل، سيعني أن يتوقف كثيرون عن الشراء في هذه التجمعات الجديدة، وستتوقف هي بالضرورة عن منح هؤلاء المشترين المحتملين والسابقين ما يبحثون عنه بالأساس؛ الهوية المتمايزة عن الآخرين.

لذا، فالمدينة الحديثة، أو الكمباوند كما في هذه الحالة، لكي "يحدد نفسه على أنه مكان النظام، والعقل، والاحتشام، والنظافة، والحضارة، والسلطة، لا بد أن يُظهِر خارجه ما هو غير عقلاني، وغير منظم، وقذر، وشبقي، وهمجي، ومهدد، المدينة تحتاج هذا 'الخارج' لكي تقدم نفسها، لكي تؤسس هويتها الفريدة، غير الفاسدة".

الشيء لزوم الشيء

صورة من كومباوند على أطراف القاهرة بمدينة الشيخ زايد- تروى حدائقه بمياه النيل. 

من المثير هنا القول بأن القاهرةَ القديمة في الأجزاء العشوائية منها، أو حتى تلك المتروكة يومًا تلو آخر فريسةً للتدهور على حساب الاهتمام بالتجمعات السكنية الجديدة، جزءٌ لا يتجزأ من قاهرة الكمباوندات الحديثة. وأهمية القديم للجديد تتمثل في حاجة الجديد لتعريف حدوده، من أين يبدأ؟ وأين ينتهي؟ وهنا تأتي وظيفة القديم، فالكمباوند في حاجة دائمة للإبقاء على الآخر، ليتمكن من الإبقاء على السور الذي يفصل بينهما.

بهذا الشكل، لا تقف حدود نظام الكمباوندات عند أسواره، بل تمتد لتضم الخارج العشوائي، الذي ينتفي وجودها باختفائه. أو كما يقول ميتشل "الحدود هي شيء تبقيه المدينة داخلها، بواسطة تنظيم مستمر هو مصدر هويتها المنظمة، إلا أنها تبدو وكأنها تخوم النظام نفسه". أي أن العشوائيات ليست مجرد بقايا لماضٍ يفترض تجاوزه، وإنما أحد مكونات نظام الكمباوند ذاته، يحافظ عليه ليستمر في تعريف نفسه كنظام منظم، مقابل ما يقع خارجه من فوضى.

هذا التقابل بين النظام والفوضى، الحداثة والتخلف، الطهر والقذارة، يعيد إنتاج نفسه باستمرار ليبرر وجود الكمباوندات بل وجعلها ضرورة. وهذا الطرح يعيد تشكيل فهمنا للعلاقة بين القديم والجديد.

لا تمثل الكمباوندات فقط مناطق سكن الطبقات العليا من المجتمع، ولا تتعلق إشكاليتها الأساسية حتى بكونها تمنح هذه الطبقة هويةً متمايزةً عن الآخرين خارجها، بل إن الإشكال الرئيسي لها هو أنها تمثل عائقًا أمام التنمية الشاملة.

فإذا كان الكمباوند يسوِّق نفسه باعتباره الملاذ الآمن من العنف والفوضى والعشوائية خارجه، فسيكون في صالحه أن يستمر كل هذا في فضاء المدينة القديمة. وهو الأمر ذاته مع مفاهيم أخرى كالنظام، وغياب العنف، ووجود مساحات خضراء، وغيرها الكثير من مؤشرات التنمية، التي سيكون دائمًا من مصلحة القائمين على هذه التجمعات أن تغيب عن المدينة القديمة، حتى تظل عوامل طرد لسكانها.

تعيد الكمباوندات إنتاج التفاوتات، وتكرس نهجًا اقتصاديًا لا يقوم فقط بتوجيه الموارد نحو رفاهية القلة، بل يستثمر أيضًا في إفقار الأغلبية وتجريف مدينتهم. وهذا ما يجعل أسوارها، بالإضافة إلى كونها انعكاسًا لعدم المساواة، عائقًا حقيقيًا أمام أي مشروع تنموي شامل لدمج شرائح المجتمع في عملية تحديث حقيقية، تُحسِّن حياة الجميع.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.