
وسط البلد والتطوير على طريقة محمد عبد الوهاب
في حوار تليفزيوني، سألت ليلى رستم، المذيعة لامعة الذكاء والثقافة والجمال، محمد عبد الوهاب، عن اقتباسه "ونقله لموسيقى الآخرين"، ليضيف هو إلى سؤالها؛ "السرقة. قوليها معلش علشان خاطري".
أجاب عبد الوهاب عن السؤال بإيضاح صريح وقاطع أنه "سَرَق" أجزاءً مؤثرة وضمها لألحانه، وضرب مثلًا بأجزاء من سيمفونية بيتهوفن الخامسة في أحب عيشة الحرية ومثلًا آخرَ من التراث الشعبي الروسي في يا ورد مين يشتريك. لكن ما كان يعنيه بالسرقة عدم إشارته لأصول تلك الأجزاء المقتبسة، وليس خطأ عملية الاقتباس نفسها، الممتدة عبر تاريخ الموسيقى.
ثم طلبت ليلى رستم أن يشرح لها الفوارق بين السرقة والنقل والاقتباس، فأفاض في شرح بديع للتمييز بين الثلاثة؛ "في الأوقات دي (يقصد بدايات مشوار التلحين)، الإنسان بيبقى بيدوّر على نفسه، وبيبقى محتاس، وبيبقى بيتخبَّط وعاوز يكتشف نفسه هو فين. وخصوصًا إن احنا كنّا مقفولين أوي، فكانت النوافذ اللي أنا فتحتها على هذه الأشياء كثيرة جدًا، ودخلتلي بكثرة وبعدد لا يحصى، لدرجة إني بقيت محتاس فيها".
كان يصف مشهد البدايات، وصعوبات يمكن أن نلاحظ مثلها في مراحل النمو؛ للطفل أو للمجتمع أو للحضارة: تدفُّق المعارف والمؤثرات التي تفوق القدرة على التعامل معها، البحث عن الذات، الاضطراب والتخبُّط.
التحرر من عقد النقص والتفوق
يجرّب الطفل نَقْل خطواته مع حفظ توازنه والنظر للأمام في الوقت نفسه، ولا يستطيع المشي قبل أن يوازن بين الثلاثة وهذا يأخذ وقتًا، لأنه لو ظل ينظر لأقدامه سيفقد توازنه. ويجرّب المجتمع الذي يمر بمراحل انتقالية أن يوازن ما يتصور أنه ذاته، مع ما يدخل إليه من غريب وأجنبي، مع رغباته وأهدافه.
مراحل البدايات تليها عملية الانتقاء، التي لا تخلو من نقلٍ لجزء مُختار من المعارف، ومن إضافة "شيء من الشخص الذي ينتج هذا العمل للعمل الأصلي الذي يقتبس منه، ما بقتش هي الحتّة اللي سمعتيها زي ما هيّ" على قول عبد الوهاب.
يمضي محمد عبد الوهاب في الحوار لما هو أبعد، إذ يعتبر أن من يضيف للأجزاء المقتبسة من تصوراته وروحه، بحيث تتغيّر ماهية المصنّف الفني، يتساوى في دوره مع مؤلف الجزء الأصلي "لأن هو الفن إضافة، مفيش حاجة اسمها قولة خَلْق، لكن هو إضافة، يعني تاخدي حاجة وتضيفي إليها، كل واحد بييجي يضيف إلى اللي فات شيء، وما دام أضاف يبقى خَلَق، خَلَق هذه الإضافة".
عند هذه النقطة، تقاطعه ليلى رستم؛ "لكن فيه خَلْق بَحْت كمان"، فيجيب؛ "نادر، مفيش، يعني هي سلسلة من التطورات". ويضرب لها مثلًا بالطفل الذي يولد فيأخذ من ملامح أبيه وأمه، ولكنه لا يصبح أباه ولا أمه، بل نجد له من الخصائص الذاتية ما يميِّزه ويخصّه، رغم أننا نتعرف على الموروث أيضًا بين ملامحه.
الغريب أن المتابع يلاحظ أن هناك انطباعًا أُريدَ تثبيته عن محمد عبد الوهاب وظل ملازمًا لكثير من التعليقات الصحفية والنقدية المتداولة، وهو أنه سارق لمعظم الألحان التي وضعها. وبغض النظر عن الغث من التعليقات التي نستطيع أن نميّز بسهولة أن قائلها جاهل مفضوح بإنتاج وتاريخ محمد عبد الوهاب، فإن بعضًا آخر من التعليقات مرتبط بفكرة أصولية عن الخَلق الفني "البَحْت"، الفكرة التي فنّدها عبد الوهاب في حواره.
الفن كالعمارة والحضارة والهوية، سلسلة من التطورات، يُبني كلٌّ منها على الآخر. جديده من قديم، وقديمه يتجدّد.
حين اعتبر محمد عبد الوهاب الموسيقى الشرقية الروسية والغربية الألمانية التي سمعها، بمنزلة "نوافذ" فتحها في رحلة بحثه عن ذاته الفنية، كان في الوقت نفسه ينجو من الفخ الأصولي الذي تساهم العقدة الاستعمارية في توكيده، ويسعى لاستملاك ما رآه من مواطن إبداع في تلك الثقافات الموسيقية؛ أن تصبح طوع مخيِّلته، وضيفًا على موسيقاه، إلى جانب موروثه وذاكرته.
طالما خرجت رؤىً مختلفةٌ عن رؤية عبد الوهاب، أكَّدت دومًا أننا ما زلنا في بحث دائم عن "هوية موسيقية خالصة"، وُضعت لها المسميات: شرقية، عربية، مصرية.. حسب موقعك السياسي. رغم أن إنتاجنا الموسيقي قبل مرحلة الاستعمار الغربي، ونحن تحت وطأة حالات استعمارية متوالية، كان إنتاجًا غزيرًا وقيّمًا، طربيًّا وشعبيًّا. وكانت الروافد التي تؤثر فيه متعددة؛ فارسية وتركية وعراقية وشامية، كذلك ترك إنتاج المصريين الموسيقي أثره في موسيقات تلك البلاد أيضًا.
من اعتبروا أن الموسيقى الغربية أو الروسية هي وحدها التي يجب علينا نبذها من "هويتنا"، للخروج بهوية نقية لم تتلوث بموسيقى المستعمِر، يتشابهون مع من خرجوا علينا بعد الاستقلال بنظرية عجيبة عن أسباب التقدم، خلاصتها أن علينا أن نأخذ من العالم ما يتناسب مع "هويتنا" من المعارف والتكنولوجيا (الأداة)، ونترك ما لا يتناسب معها من أفكار وفلسفة علوم ونظم إدارة وسياسة (طريق الوصول لصناعة الأداة).
الاستملاك عند محمد عبد الوهاب كان تحريرًا لنفسه من عقد النقص والتفوق معًا، من رواسب الفكرة الاستعمارية، ومعتقداتها بتفوقها الأبدي الذي ينعكس على المستعمَرين اعتقادًا (مؤبّدًا؟) بتخلفهم وقصورهم. للموسيقى في نظره مقاربات شديدة التنوع، وهو بين هذه الخيارات يستملح ما يشاء، ويتعلم أساليبه، ويصبح عضوًا في مجتمعٍ موسيقيٍّ عالميٍّ، يتبادل ويتغيّر، منتج وفاعل ومساهم.
أما الاعتقاد بتفوق يرتكز على "الرجوع والعودة"، والبحث في "الهوية الخالصة/الثابتة"، والخوف من الأفكار بعد حيازة منتجاتها، يبقيك في موقع المستورِد والمستهلِك، الذي تعميه معتقداته بالتفوق واستعلاؤه بالأصل، ويتوقف عن الإسهام في مجتمع العالم.
وسط البلد مثل الموسيقى
تتجدد أصناف من تلك العُقد (النقص والتفوق) عند الحديث عن فكرة "التطوير"؛ الاصطلاح الذي أطلقته الحكومة المصرية منذ سنوات على خططها وتدخلاتها في التخطيط المعماري لأحياء سكنية أو مشروعات عقارية أو مناطق عشوائية وأثرية.
ورغم أن محور التنمية العمرانية في رؤية مصر 2030 يخلو من أي ذكر لتوجه حكومي بشأن المناطق الأثرية، إذ يركّز بالأساس على تخطيط وتنمية مدن جديدة لاستيعاب الزيادة السكانية، وحل مشكلة العشوائيات بصورة نهائية، وإنشاء 7.5 مليون وحدة سكنية جديدة، فإن أكثر ردود الفعل الغاضبة، التي لاقت صدىً إعلاميًا وجماهيريًا واسعًا، جاءت على التدخلات لإعادة تخطيط الأحياء القديمة، وإزالة البيوت والمعالم الأثرية في القاهرة والمحافظات.
ردود الفعل مفهومة لأن هذه الخطوات تمس نسيج الذاكرة الجمعية، الذي ارتبطت به مجموعات سكانية عبر أجيال. وهذا يختلف عن إنشاء مكان جديد كليةً، يمكن بناؤه بطراز معماري مختلف بالكامل، ولا يوجب إزالة معالمَ معروفةً أو ذات قيمة أثرية. كما أن المكان الجديد لن يثير مشكلات مثل نزع الملكية، أو نقل وتعويضات سكان مقيمين، رتبوا أوضاعهم الأسرية والاقتصادية في مكان مستقر، حتى لو كانت شروط العيش فيه متدنية أو عشوائية.
لكن الحجة نفسها تُعفي الحكومة من واجبها في التعامل مع هذه الشروط أو تحسين أوضاع السكان، أو إعادة تأهيل الأحياء القديمة لرفع قيمتها العقارية والاقتصادية، وحمايتها من التراجع والتدهور. وهنا تظهر خلافات عميقة بخصوص أساليب التطوير وخططه، وطرق استغلال المساحات العامة أو مصادرتها، والموقف من أصحاب المصلحة سواء كانوا سكانًا لمناطق عشوائية أو مستثمرين سيضخون أموالًا أو مهتمين بصيانة التراث أو عموم المواطنين الذين يتعاملون مع المكان لأغراض مختلفة. باختصار: من المستفيد من التطوير؟
ردود الأفعال الغاضبة من تصريحات مستثمر إماراتي بشأن تطوير منطقة وسط البلد بالقاهرة تصلح نموذجًا لكل تلك الإشكاليات، وتربط تطوير المنطقة التراثية بحديث محمد عبد الوهاب عن تطورات الهوية.
تأسس مركز القاهرة الخديوية في عهدٍ استعماريٍّ، على الطراز الأوروبي في التخطيط والمباني في ذلك العصر، حيث كان الخديو اسماعيل يحلم بـ"باريس الشرق". واستُثمرت في تأسيسه أموال جزء كبير منها أجنبي، في صورة ديون ثقيلة كما هو معروف. كما كان مكانًا يغترب عنه أغلب المصريين من سكان القاهرة، بحكم تخصيصه للحكّام والأجانب والأعيان، ويبتعد في طرازه وتقاليده عن كل ما كان يمثِّل لعموم المصريين "هويتهم" في ذلك الوقت.
مِثْل الموسيقى الغربية التي ضمَّها محمد عبد الوهاب لباقةِ معارفه صار وسطُ البلد الأوروبي مصريًا
لكن من ناحية أخرى، كانت خطة التطوير في بدايتها مدفوعة بأسباب موضوعية، لا مجرد حلمٍ خديويٍّ بعاصمة على طرازٍ يُبرِز "حضارة مصر وحداثتها"، كما قدّمه إسماعيل وقتها. فقد بلغت قاهرة المعز (الإسلامية) في ذلك الوقت حالًا شديد التدهور؛ انتشرت القمامة والتلوث والأمراض المعدية والمستنقعات والبرك في شوارعها الضيقة الخالية من الإضاءة، وكان الناس يدفنون موتاهم المصابين بأمراض فتّاكة داخل منازلهم، أو المساجد والمدارس، ويتخذون مقابر في وسط المدينة.
يوحى المتداول على الإنترنت بأن التطوير الذي اقترحه المستثمر يأتي على نسق مدينة دبي، وهو كلام غير دقيق بعد مراجعة توضيحاته، كما أن رئيس الوزراء أكد أن الحكومة بصدد تطوير المنطقة بالشراكة مع الصندوق السيادي، مع ضمان احترام الطابع التاريخي وفتح الباب للاستثمارات المحلية والدولية. ولكن رغم ذلك، فإن الغاضبين يوحون في تعبيراتهم الرافضة أنهم يتوقعون ألّا يمس أي تطوير ما اعتبروه "هوية تراثية" لهم، وأن الطفل الذي يولد بعد التطوير، من المتوقع أن يكون نسخة من أبيه وأمه.
وسط البلد الحالي شاهد على التحولات التي لا تنتهي في مفهوم الهوية، بعكس المنظور الأصولي له. فمعالمه التي يقف المصريون المتعصبون اليوم ضد تغييرها باعتبارها من تمثيلات هويتهم، كان أسلافهم يشعرون نحوها باغتراب وقت تأسيسها. كما أن تغييرات كبيرة جرت عليه بعد 1952، ثم خلال العهود الرئاسية المتعاقبة.
مِثْل الموسيقى الغربية التي ضمَّها محمد عبد الوهاب لباقةِ معارفه، صار وسطُ البلد الأوروبي مصريًا، على يد مصريين مثله، كوَّنوا علاقة تدريجية بالمكان. عاملون وعاملات، مثقفون وفنانون وفنانات، فتحوا المسارح وصالات الغناء والمقاهي والكازينوهات ودور السينما، واختلطوا بأجناس من العالم، شرقًا وغربًا، فتعلموا أساليبَ جديدةً للحياة والعمل والتنظيم الاجتماعي، واكتسبوا أخلاقًا مدنية تناسب طبيعة الأحياء الجديدة. وصارت هويتهم، التي يدافعون عنها اليوم بحماس، كالطفل الذي تحدث عنه محمد عبد الوهاب، لا نسخة من أبيه ولا أمه، ولا يمكن أن يكون.
لزوم التطوير لا ينفي الحاجة لتوسيع النقاش حول الرؤية التي يقوم عليها، والاستفادة بالاقتراحات المختلفة والخبرات الفنية المتخصصة، وتحديد أصحاب المصلحة بحيث تتسع خطة التطوير لشرائح متفاوتة من المستثمرين والمستفيدين. خصوصًا أن خطوات تطوير وسط القاهرة بدأت بالفعل منذ عقود، بجهود علمية واستثمارية، مصرية وأوروبية؛ ترميم مبانٍ قيّمة، وتحديد مناطق للمشاة، وتأسيس شركات لإحياء المركز التاريخي بكل رمزيته المعمارية والثقافية.
إن كان رفع القيمة العقارية والاقتصادية يقتضي "ترتيب الشوارع والمطاعم والفنادق"، على حد قول المستثمر، فاحترام تاريخ وجماليات وتنسيق الفضاء الحضري للمكان لا يقل ضرورة وأهمية، لأنه منبع القيمة الأساسي الذي يجعله مركزًا جاذبًا، لا يزال الاهتمام البحثي والعالمي بعمارته واكتشاف أسراره وعلاماته الثقافية والفنية، حاضرًا حتى اللحظة في حياتنا المعاصرة.
كما يمكن أن يستعاد وسط القاهرة القديمة مركزًا عالميًا للصناعات الإبداعية والترفيهية باستغلال مبانيه ومساحاته، وإتاحتها لحراك ثقافي مصري مُبادر ومُتفاعل، يعي الذاكرة التعددية التي يحملها المكان، ولا يفهم الاعتزاز بالهوية بوصفه استنساخًا للسلف.