برخصة المشاع الإبداعي: Warren LeMay، فليكر
ميدان طلعت حرب، وسط البلد، القاهرة، 12 مايو 2019

أحلام السياحة وكوابيس الواقع

منشور الثلاثاء 4 مارس 2025

بعد الغضب الشعبي على طرح ترامب رؤيته لغزة ريفييرا أمريكيةً، لم أر على السوشيال ميديا غضبًا مماثلًا بشأن قضية أخرى بقدر ما رأيت من غضب أثاره الإعلان عن "تطوير" وسط القاهرة.

في مقالي بـ المنصة الشهر الماضي، كنت من بين الذين اعتبروا تصريحات ترامب تصعيدًا لسقف التفاوض ليحصل على أكبر حجم من المكاسب للرأسمالية ورأس حربتها إسرائيل. ومن الواضح أن ذلك كان صحيحًا؛ فقد تنازل عن استملاك غزة، لكنه نجح في وضع القضية الوطنية للفلسطينيين، القومية لكل العرب، على أرضية "التطوير العقاري". وأتمنى من كل قلبي ألا يكون هذا الطرح فخًا لمصر، ونجد أنفسنا فائزين بالمقاولة ومكلفين بتسليم العقار خاليًا من المقاومة. لن يغفر لنا التاريخ إنْ وقعنا في هذا الفخ ودخلنا في مواجهة مع حماس.

في المستقبل، قد يُنظر إلى تصريحات ترامب حول غزة وجرينلاند باعتبارها تدشينًا لحقبة الـReal estate في التاريخ العالمي، كغيرها من الحقب كالإقطاع والثورة الصناعية. لكن مصر المولودة قبل الزمان بزمان سبقت ترامب إلى تدشين هذه المرحلة من التاريخ على الضيق، منذ بدأت في إنشاء ما يُسمى اليوم "مدن الجيل الثاني - 1882 - 2000" ويومًا بعد يوم تترسخ عقيدة التطوير العقاري أساسًا لاقتصاد الدولة. هذه العقيدة هي التي أوجدت مدنًا حاصرت مدينة القاهرة من الشرق والغرب، وأدخلت العاصمة في مأزق يتعقد مع كل إضافة جديدة في العمران والطرق.

لأننا مولعون بالسبق كان لا بد أن أذكر ذلك، قبل العودة لتأمل الضجة الأحدث حول تطوير قلب القاهرة.

أبرز ما حملته الردود الشعبية وردود الخبراء المصريين هو القلق والشعور بالتهديد. وهذا يعكس السمعة غير الحسنة لكلمة تطوير لأن كل التشويه الذي حدث لعمران القاهرة وبيئتها في السنوات الماضية حمل الاسم ذاته. وصارت الكلمة تشير إلى أعمال مقاولات تحدث فجأة وتحدث عنوة، وغير قابلة للتعديل.

بين القاهرة ودبي

أغرق الناشطون على السوشيال ميديا صفحاتهم بصور عمارات عريقة من قلب القاهرة مع ذكر تاريخها، ووجه الكثير منهم غضبه نحو المطور العقاري الإماراتي العبَّار، مع مقارنات بين تاريخ القاهرة وتاريخ دبي. وهي مقارنات تعشقها الروح المصرية الجريحة، وشخصيًّا لا أحبها، فلا تُعاب مدينة لحداثتها ولا تُعاب دولة على قلة سكانها. هذه معطيات تاريخية، لكن الصحيح أيضًا أن من يجد بين يديه تاريخًا ينبغي عليه ألا يُفرِّط فيه.

هناك مدن جديدة شُيدت لتكون فضاءً للتسوق أو منطقة أعمال هي مدينة الجميع واللاأحد وتختلف عن المدن القديمة

ربما، علينا ذِكر أنَّ العبار نفسه قارن في تصريحه بين دبي والقاهرة، وتوقع أن يجذب قلب القاهرة بعد التطوير أضعاف ما تجذبه دبي من عدد السياح.

هذه المقارنة هي التي يجب أن تأخذنا إلى حديث جاد عن طبائع المدن وأشكالها؛ فالقاهرة تختلف عن دبي مثلما تختلف باريس عن نيويورك، ببساطة.

هناك عوامل حضرية تفرض تشكيل المساحة وتحكم علاقة العمارة بالفضاء لتشكل روح ومفهوم المدينة. من هذه العوامل تاريخ وظروف النشأة وشكل الاقتصاد وشكل المجتمع. هناك مدن جديدة شُيدت لتكون فضاءً للتسوق أو منطقة أعمال، هي مدينة الجميع واللاأحد. وهذه تختلف عن المدن القديمة التي مرت بمراحل مختلفة واتخذت وظائف متعددة واكتسبت روحها من هذا التاريخ. والقاهرة من هذا النوع الذي نهض بوظيفة المركز الثقافي والتجاري والسكني والترفيهي ومركز السلطة (حتى أشهر خلت) وأي مشروع لتطويرها ينبغي أن يراعي كل هذه الوظائف، وليس إلغاء كل أدوارها لصالح السياحة.

ولو فرضنا جدلًا تخلي المدينة عن أدوارها، لصالح السياحة فذلك يجب أن يكون محل نقاش واسع وجاد، لا تغيب عنه السلطة المتأخرة دومًا، التي لا نفهم سبب تأخرها، مثلما لا نفهم أسباب خياراتها العمرانية خلال هذه الحقبة العصيبة فائقة الحركة.

تأخرت السلطة عن الجدل حول تطوير قلب القاهرة، مثلما تتأخر في عشرات من المناسبات المهمة الأخرى، الأمر الذي يترك انطباعًا سيئًا عن البلد والسلطة، كأننا في مهب ريح، ولا توجد سلطةٌ تحنو على هذا البلد وتتدبر أمره. وهذا يعود إلى غياب السياسة من مشهد الإدارة في مصر، الأمر الذي يأخذ من رصيد الدولة ورصيد السلطة ذاتها.

كان من الواجب أن تأخذ السلطة زمام المبادرة في الإعلان عن خططها قبل أن يعلنها طرف آخر، وألا تكون كالطير الأخرس، ثم يأتي كلامها بعد ذلك فلا ينتبه إليه أحد.

بالكاد لاحظ المتداخلون تعقيب رئيس الوزراء خلال مؤتمر صحفي، على تصريح العبَّار. أقر رئيس الوزراء بوجود خطة التطوير، مؤكدًا أن الحديث عنها كان جزءًا من الحديث مع اللجنة الخاصة بتصدير العقار، كما أعلن في السياق ذاته أن هناك تكليفًا لمكتب استشاري بوضع الرؤية الكاملة لتطوير وسط القاهرة.

شأن بهذا الحجم من الأهمية يُناقش في سياق آخر؟!

غواية الكلمات

إحدى عمارات منطقة وسط البلد بالقاهرة، 18 يونيو 2023

في الحقيقة يبدو أن الحكومة مبهورة بلافتة تصدير العقار وكنت أتمنى أن يكون التعبير حقيقيًّا، أي أن يكون بوسعنا شحن وتصدير العمارات الزائدة في مدننا لننعم ببعض الهواء، لكنه للأسف تعبير مجازي. مجاز مقلوب، عندما نديره على وجهه الصحيح فهو استيراد بشر لشراء فائض البناء الذي فرضته فوضى الاستثمار العقاري. هل فكَّر السعداء بالتصدير بتبعات استيراد سكان فيما يتعلق بزيادة الضغط على المرافق والموارد الطبيعية، وخصوصًا المياه؟! بوتيرة البناء والتصدير والاستيراد هذه سنكتشف أن حصتنا من مياه النيل ستكفي فقط استخدامات الشرب!

المفاجأة الأكبر في حديث رئيس الوزراء كانت إعلانه عن تكليف مكتب استشاري لوضع رؤية كاملة لقلب القاهرة. هذا شيء لم يسبقنا إليه أحد، لأن أقصى ما يستطيعه المكتب الاستشاري أن يضع رؤية "كاملة" لعمارة أو لكمباوند، ويترك كل الأعباء خارج أسوار الكمباوند على الحكومة الموروطة الآن في تدبير طرق بالمليارات وفي إعادة توسيع أقطار الصرف بسرعة لا تحدث في أي مكان بالدنيا.

لم يسبقنا أحد إلى الاستهتار بتاريخ مدنه العريقة ولا يشبهنا أحد في مجانية استخدام أوصاف مثل "كاملة" و"شاملة" التي تستخدم دائمًا لوصف تصورات جزئية تتمخض عن كوارث، وفي أسوأ الأحوال تتمخض عن إهدار المال. وهذا الطرح الجزئي لتطوير وسط القاهرة دون النظر إلى ما حوله مرشح لأن يكون واحدًا من أسوأ القرارات، حتى على مستوى الحلم السياحي.

لدينا تاريخ من الأحلام السياحية في تصريحات المسؤولين المصريين عبر أربعة عقود، يستطيع القارئ أن يتحقق منها منذ بداية الإنترنت التي تحتفظ بكل الأحلام السياحية المجهضة. لكن الحلم يتجدد دائمًا من دون الانتباه إلى سوء الحظ الكامن في طبيعة السياحة نفسها!

فلسفة الدائرة

لا أحد يريد فهم أن السياحة عضو في جسد الدولة لا يصلح إلا بصلاح سائر الجسد. وأن كل ما يحتاجه السائح لا بد أن يتمتع به المواطن أولًا. من المؤكد أن الحصة العادلة لمصر من السياحة يجب أن تكون بين الخمسين والسبعين مليون سائح سنويًا لكن بشروط نهضة تشمل طبيعة النظام السياسي والقضائي والأمني والطبي والعمراني.

لا بد أن ندرك أن من يأتي إلى القاهرة هو السائح المستطلع الذي يكتفي بزيارة واحدة، والسائح المقاتل الذي يكرر الزيارة افتتانًا بالعمق الثقافي.

يبدأ التطوير من مطار القاهرة الدولي بأن تختفي مظاهر الفوضى و"حمدلله ع السلامة وكل سنة وإنت طيب"

هذا يعيدنا إلى فلسفة الدائرة والمنطق البسيط والسليم الذي تعاديه الإدارة المصرية بدايةً من جمهورية الضباط الأحرار. طبقًا لفلسفة الدائرة؛ فحصة مصر الحالية من السياحة هي أقصى ما يمكن أن تحصل عليه في ظل أوضاعها السياسية والاقتصادية والعمرانية الحالية.

وإذا افترضنا القبول بتخلي قلب القاهرة عن تاريخه وعن عدالة استخداماته ورضينا بتحويله إلى منتجع لخدمة السياح، فليس من المنتظر أن تحقق هذه التضحية أثرًا سياحيًّا يستحق الذكر، إلا إذا كان السياح سيصلونها بالمنطاد أو يهبطون بطائراتهم على أسطح الفنادق، وبغير ذلك فالسائح يريد شبكة مواصلات مفهومة وآمنة، يريد زحامًا وتلوثًا أقل، أرصفة آمنة فسيحة غير معزولة بقضبان حديد تحيل الشوارع إلى سجن، مراحيض عامة نظيفة، كفاءة إسعاف، وأسعار مستشفيات مقبولة، وقواعد طبية صارمة لقبول الجرحى وحالات الطوارئ دون سؤال عن المال، يريد السائح مظاهر أمنية أقل وحرية رفع موبايله لالتقاط صورة!

تطوير واقعي

إن سارت الحكومة في الخطة المعلنة، وبنت خيالات سياحية على الوهم، ستكون وفية لتاريخ طويل من معاداة أصول التنمية الصحيحة، ولن تحصل من مغامرة تطوير قلب القاهرة سوى على المزيد من غوص قدميها في رمال الأحلام غير العقلانية والمشروعات عالية التكلفة التي تتنزل علينا كالأقدار.

الطريق الآخر الآمن للتطوير، يُفضي حتمًا إلى رؤية جديدة وصياغة جديدة لغابة الإسمنت التي صرنا في قلبها من زايد إلى العاصمة الجديدة، ومن شبرا الخيمة إلى مايو. لا بد من عصف ذهني عمراني لا يقصي معماريًا أو مؤسسة تعليمية أو نقابة واختيار الشكل المناسب لإعادة صياغة هذه المساحة الضخمة. وربما لا مفر من أسلوب تجزئة المدينة بضواحيها إلى دوائر مكتفية، تتصل ببعضها بوسائل نقل جماعي ضخمة "قطارات سطحية وتحت أرضية" لإنهاء جحيم الانتقال في القاهرة، وبعد ذلك يأتي التفكير في الصياغة المناسبة لقلب المدينة.

أكثر الخطط السياحية تواضعًا، يجب أن يبدأ التطوير فيها من مطار القاهرة الدولي. أن تختفي مظاهر الفوضى و"حمدلله ع السلامة وكل سنة وإنت طيب" من داخل المطار، ويجب أن يختفي مظهر الحرب أمامه، فتصمت سارينة الشرطة، ويكف أمين الشرطة عن التلويح بدفتر المخالفات أمام بوابات السفر والعودة، وأن يكون ككل مطارات العالم مربوطًا مع المدينة بقطار. والتفكير في القطار يحملنا بدوره إلى التفكير في محطة مصر التي لا تناسب مدينة في حجم القاهرة أبدًا.

لنتخيل المفارقة الساخرة بين فخامة معمار العبَّار وسواتر الصفيح أمام المحطة وحجم الشجاعة والقوة المطلوبة لدخولها اليوم وسط زحام باعة الرصيف وسندويتشات كبدة الحكومة وخضارها وميكروباص القطاع الخاص الذي فرض نفسه واحتل نصف ساحة المحطة، ثم التيه بين شبابيك تذاكرها الموزعة على طابقين!

الجدية تتطلب تغيير كل هذا الواقع، وهذه مهام دولة، لا يمكن أن ينوب عنها مطور عقاري أو مكتب استشاري.