تحب الجمهورية الجديدة أن تتشكى من تركة الجمهورية القديمة، متجاهلة صلة الدم والحليب التي تربطها بالمرحومة، والتي تبدو واضحة في تشابه الممارسات والنتائج، بما يؤكد أن ضيق الجديدة بالقديمة ليس سوى ضيق الابن المندفع ببطء ذويه الذين صقلتهم حكمة الزمن بما يلزم من الحذر واللوَع.
تكره الجمهوريتان السؤال. لم تطرح الجمهورية القديمة المراوغة الأسئلة على نفسها بسبب عشوائيتها وتناحر النفوذ فيها، ولم تصرح الجمهورية الجديدة على نفسها الأسئلة بسبب قوتها وتركز السلطة فيها. والنتيجة تتابع دورات الإخفاق العمراني وتشابهها بانتظام مذهل: إضافة بنايات بقلب القاهرة أو مدن تثقل كاهل المدينة الأم، ثم علاج الأثر المروري بالكباري والمحاور التي تقلل من جمال القاهرة ونوعية العيش فيها، ومع ذلك تظل غير مجدية كحل مروري.
لهذا، فقدت كلمة "تطوير" معناها الاصطلاحي منذ عقود كثيرة، لكنها كانت تعني "اللا جدوى" في الوجدان العام، ولها معنى التهديد لدى قلة من الواعين بالمخاطر البيئية الجمالية وأصحاب الملكيات الخاصة في المنطقة المنكوبة بالتطوير خوفًا على فقدان ممتلكاتهم جدواها بوجود كوبري.
لكن معنى التهديد استقر للكلمة مع الجمهورية الجديدة، ونرى صداه يوميًّا في برلمان الشعب، أي السوشيال ميديا، بسبب خبرات الناس مع "تطوير العنوة"، من منطقة مثلث ماسبيرو، إلى معالم أثرية مثل قصر المنتزه بالإسكندرية وكباري البحر، وعديد من الحدائق، والعديد من الشوارع التي تعرضت للتوسيع بلا ضرورة وفقدت زينتها وأمانها.
لم يعد التهديد يقتصر على المملكات الشخصية بل على الإرث العام الذي يخص المصريين جميعًا.
أحدث أخبار التطوير تتعلق بموافقة المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية على إعادة تخطيط بعض المناطق على مستوى الجمهورية، خلال اجتماع عُقد يوم 31 مارس/آذار الماضي. وحسب المنشور عن الاجتماع، سيشمل التطوير عدة مناطق بالقاهرة، والخبر بالصيغة التي نُشر بها يعني أن الخطة تقتصر على "الاستثمار".
المدينة كائن حي
هناك حقيقة بسيطة لم يأخذها متخذ القرار من 1952 في الحسبان، وهي أن مدينة البشر كائن حي يحتاج إلى هواء كاف ليتنفس، ويتطابق تشريحيًّا مع بنية الجسد البشري. هناك حدود معقولة لجسد المدينة، والفضلات التي سيفرزها ذلك الجسد وحدود قدرة الإدارة على احتمالها، وهناك قلب يمد الأطراف والأجهزة الحيوية بالدم عبر شرايين هي الشوارع التي تتجمع وتتفرع من ميادين مخططة جيدًا.
كل شريان له طاقة يجب مراعاتها عند إضافة استثمارات عقارية، ولا بد من الحفاظ على التناغم في اتساعات الشرايين، حتى لا يضيق شريان يسبب الجلطة، ولا يتسع شريان بشكل مبالغ فيه يسبب الهبوط الحاد في الدورة الدموية.
وأول إدارة تدرك هذه الحقيقة سوف يمكنها أن تضعنا على طريق حل جزئي لمعضلة المرور في القاهرة الكبرى، بينما لا يمكن العثور على الحل المثالي إلا خارجها. فالحل الناجع يتطلب تنمية متوازنة لكل المحافظات بحيث تصبح ملائمة لحياة حضرية تحقق الصحة البدنية والنفسية لسكانها وتنقذ ملايين من ساعات العمل المهدرة بسبب اختناق المرور في العاصمة التي صار جسدها مهولًا ولا يمكن للجن أن يديره ويحافظ على نظافته بكفاءة.
تفكيك مجمع النقل البري حرم المسافرين من وإلى المحافظات من تعدد الخيارات، وحمَّلهم عبئًا ماديَّا إضافيًّا
ملايين الأمتار المكعبة من الخرسانة التي صبتها الجمهورية القديمة والجديدة في كباري المدينة، كان من شأنها أن تغير وجه مصر اقتصاديًا وعمرانيًا لو تم استخدامها لبناء مصانع في مختلف الأقاليم. لكن الجميع يقرأ من كتاب واحد: التمسك بمركزية الدولة مهما كانت الخسائر.
الأدهى من مبدأ مركزية الدولة هو عدم المبادرة. فقد دأب النظام على ترك القاهرة تتمدد عمرانيًا، وبعد ذلك يرتجل حلول المرور بعجلة العالق في أزمة؛ فيعطي الأولوية للكباري لتكون بمثابة الدعامات في الشرايين. الدعامة الأطول "كوبري أكتوبر" كانت من نصيب الشريان التاجي الذي يربط شرق القاهرة بغربها مخترقًا قلبها بتشويه لا يمحوه الزمن.
ثم توالت الدعامات القصيرة في شوارع من كل أحياء القاهرة، ولعل أقبحها دعامة كوبري الأزهر. حولت هذه الدعامات عاصمة ضاربة في تاريخ المجد إلى هذا الكيان الرث الذي نراه، بكل ظلام تحت الكباري مشبع بروائح البول والجريمة، ومؤخرًا، مقاهي تحت الكباري ليتعانق دخان الشيشة مع عوادم السيارات.
تفكيك مجمع المواصلات
الخطوة الثانية السيئة على عمران وبيئة القاهرة بعد توجه الكباري، كانت إلغاء مجمع المواصلات بقلب المدينة. وهذا ابتكار لا مثيل له في العواصم بحجم القاهرة.
لا يمكن لعاصمة كبيرة أن تعيش بدون مُجمَّع مواصلات/ أو hub في مركزها بالتمام يربط خطوط السفر داخل الدولة مع خطوط النقل الداخلي. وكان hub القاهرة هو دائرة رمسيس وأحمد حلمي، حيث تتكامل محطة القطار مع خطوط السفر البرية إلى المحافظات، مع شبكة نقل القاهرة: مترو مصر الجديدة أمام البوابة الرئيسية لمحطة القطار وموقف أحمد حلمي خلفها.
بتصور خاطئ للتخفيف على قلب القاهرة بدأت عملية بعثرة أتوبيسات المحافظات من أحمد حلمي. تم اختلاق موقف عبود 1998، ثم المرج 1999 أمام محطة المترو، تحت تجمع منازل المحور الدائري، ثم توالت عمليات البعثرة فصارت مواقف محافظات الوجه القبلي على أطراف الجيزة وحلوان.
تفكيك مجمع النقل البري حرم المسافرين من وإلى المحافظات من تعدد الخيارات، وحمَّلهم عبئًا ماديَّا إضافيًّا للانتقال داخل القاهرة. ولنتصور مثلًا ما يتكلفه القادم من الإسماعيلية أو بورسعيد لكي ينتقل من المرج إلى الهرم أو حلوان، بدلًا من انتقاله من أحمد حلمي.
ورغم أن هذه الإزاحة للأطراف تبدو في صالح سائقي الأقاليم، حيث وفَّرت عليهم زمن الدخول إلى وسط القاهرة دون أن ينقص ذلك من أجرتهم شيء، إلا أن بعضهم لم يزل يتسلل إلى ميدان رمسيس خلسة لالتقاط الركاب الذين فاتهم القطار، ما يؤكد الحاجة إلى المُجمَّع الذي يحقق التكامل ويعدد البدائل في مكان واحد.
العواصم التي تدار بعقل مثل مدريد استحدثت أنفاقًا لأتوبيسات السفر في المسافة المزدحمة داخل المدينة حتى لا تتخلى عن المجمع المركزي بقلبها، بينما ألغاه في القاهرة مسؤولون يقودون بلا رخصة، دون أن يرف لهم جفن.
وبعد أن حطموا دائرة النقل، أنشأوا "ميناء القاهرة البري" في الترجمان. البلاغة الجوفاء في الاسم والتوقعات الكبيرة التي أطلقها المسؤلون يوم الافتتاح في 2009، لا تنطبق بأي حال على محطة محبوسة بين شوارع ضيقة، بلا صلة مع محطة القطار أو خطوط النقل الداخلي. وها هي نتيجة المشروع واضحة بمحاله التجارية المهجورة المثيرة للشفقة!
في سياق إلغاء مركزية أحمد حلمي تآكلت تباعًا مواقف النقل العام الكبيرة مثل التحرير، والمظلات، وميدان الجيزة وغيرها. وصارت هناك أعدادًا أكبر من المواقف الرثة في البقع المظلمة تحت مهابط الكباري، لا تحقق الخروج الآمن للمشاة. ولننظر فظاعة موقف عبدالمنعم رياض المقسوم بشارع بين أتوبيسات شرق القاهرة وأتوبيسات وميكروباصات الجنوب والغرب دون أماكن لعبور المشاة كي ينتقلوا بأمان من قطاع إلى آخر أو ينتشروا إلى قلب المدينة.
حزن الترام
الخطيئة الثالثة، كانت العداء للترام. كان تتابع إلغاء خطوطه من بداية التسعينيات إلى 2017 بمثابة نزع الحنان من قلب القاهرة. فالترام غير ملوث للبيئة، آمن، ويشجع الضعفاء وكبار السن على النزول إلى الشارع وممارسة حياة طبيعية. ورغم بطئه النسبي فهو يصل أسرع، وهو ضابط إيقاع الشارع في مدن البشر، تنتظم حركة الوسائل الأخرى على إيقاع حركته. لكنه في الوقت ذاته وسيلة حكومية، تلتزم الدولة بأعباء تشغيلها بينما كانت تتجه للانسحاب.
بذور الرداءة وُضعت في الجمهورية القديمة، والعشوائية صُنعت هناك.. على مهل
وبالإضافة إلى ذلك بدا أن مسارات الترام أصبحت عقبة أمام تركيب دعامات الكباري وجراحات القلب المفتوح والمجروح للقاهرة التي يجريها غير المتخصصين. إلغاء بعض الخطوط تم بعجلة اللصوص، حتى أن الوقت لم يسعفهم لرفع الفولاذ من الطريق، فردموا عليه. وهكذا وصلنا إلى نهاية حزينة لمئة وعشرين عامًا من حياة الترام في خدمة القاهرة، وكان حي مصر الجديدة هبة من هباته.
بذور الرداءة وُضعت في الجمهورية القديمة، والعشوائية صُنعت هناك على مهل، ثم تسارعت في النصف الثاني من ثلاثينية مبارك عندما صار رأس المال سلطة موازية. في تلك الفترة بدأ الخلل في ميزان إنفاق الدولة بميل واضح لصالح الأغنياء، وكانت البنية المرورية أحد أبرز الأبواب التي تكشف عن هذا الميل؛ فالإنفاق الأعلى كان على طرق المصايف ومرافق القرى السياحية ومحور 26 يوليو الذي تم افتتاحه عام 1998 لربط منطقة الشيخ زايد و6 أكتوبر بالقاهرة. ونتيجته كما نراها: جرح لا يبرأ لحي المهندسين وتمزيق واستهلاك للأرض الزراعية بريف الجيزة.
يمكن التأريخ بمحور 26 يوليو لبداية التعامل مع المدينة الأصلية بوصفها ممرًا للضواحي الغنية بما تمثله من عوائد بيع الأراضي. وهو المبدأ المتواصل في الجمهورية الجديدة دون نقاش حول الحجم الآمن لبدائل هذه الضواحي الطفيلية. وبفرض أن النقاش أسفر عن ضرورة إقامة هذه الضواحي، كان من الواجب أن يتبعه نقاش حول الطرق المثلى لربطها بالقلب. لربما كان النقاش أسفر عن اعتماد القطار ومترو الأنفاق حلًا حضاريًا بدلًا من محاور السيارات.
والنتيجة الواضحة أمام الجميع، أن كل التضحيات بجمال القاهرة وبيئتها لم تقدم حلًا قابلًا لدوام أثره عدة أشهر، حيث يجري نقض محاور لتوسيعها ولصق شرائح جديدة لكبارٍ قديمة، وإضافة كبارٍ طائرة فوق أخرى، حتى وسط الصحراء.
الأسهل من كل ذلك طرح الأسئلة، وأولها كيف نتعامل مع القاهرة الكبرى كجسد؟ هل يحتاج إلى إعادة القلب إلى مكانه بإعادة مجمع مواصلات أحمد حلمي؟ هل ما يعمل في شوارع القاهرة هو الوسائل المناسبة لعاصمة؟ هل يحتاج هذا الجسد إلى ربط معدة بوقف التوسعات العمرانية؟ هل يحتاج إلى جراحات فصل التوائم الملتصقة بالأم؟
تُفسح الأسئلة طرقًا للحل أكثر اتساعًا من المحاور والكباري، وبكلفة أقل من كلفتها، لكنها مؤجلة إلى زمن آخر.