لا أعرف الصورة التي ستكون عليها مطارات الجمهورية الجديدة. لكن مطار القاهرة الذي أقيم طبقًا للنظرة الضيقة للجمهورية القديمة لا يصلح للجديدة ذات الفضاءات الواسعة.
في أحدث رحلاتي إلى الخارج، توجهت إلى المطار في أوبر. عبرنا الحاجز الأمني الأول في المدخل قبل بوابة الرسوم، لكن الكمين الثاني، بعد البوابة هذه المرة، سحب رخصة السائق، فتقدم وركن بي ضمن صف آخر من السيارات الموقوفة. فتح السائق بابه وتركني متوجهًا إلى الكمين، يستعطف ويساوم، ثم عاد مكسورًا غاضبًا بعد دفع المخالفة.
قلت: كنت سأنبهك إلى الستائر التي تضعها.
قال: ليست الستائر، هي مخالفة لأنك لا تضع الحزام.
ومد يده إلى بالإيصال ذي المئتي جنيه!
لماذا كمينان على بوابة المطار؟ وبخصوص مخالفة الحزام: لماذا يضع الراكب حزامًا داخل حرم المطار؟! لم نعد على طريق عام، ويُحتمل أن أكون قد تخلصت من الحزام، في تلك اللحظة، حيث شعرت بالوصول وحيث ستتوالى المطبات الصناعية التي تمنع السرعة.
وهل هي مخالفة حقًا؟ في كثير من بلاد الدنيا، إيطاليا مثلًا، الحزام اختياري داخل المدن وليس إجباريًا إلا على الطرق السريعة. لكن ذلك لا يحدث إلا في وجود برلمانات حقيقية تمر عليها التشريعات وصحافة حرة تناقش مساوئ تغليظ العقوبات بما يخالف المنطق، لكي يؤدي القانون وظيفته في وضع الحدود بين الناس وتحقيق الأمن، ولا يكون وسيلة للجباية وتنكيد العيش.
الأجر الذي سيتقاضاه السائق مني أقل من نصف قيمة المخالفة، فكان من المنطقي أن أتحملها أنا. وهكذا جعلته يبتسم، وغادرت السيارة مهرولًا كلص أمام باب المغادرة قبل أن يصل الشرطي حامل دفتر المخالفات، وكان بدأ يخطو نحونا.
الغريب أن ذلك التشدد المروري يقابله في الداخل تساهل فيما هو أهم، الإجراءات الأمنية لفحص الأمتعة.
حادث اختطاف
لم أتخط المقدمات العصبية لدخول المطار إلا لأشهد حادث اختطاف لذيذ على البوابة الإلكترونية الأولى داخل المبنى. انقض عامل كالصقر على حقيبة امرأة من وسط الطابور، تقدمها متخطيًا الجميع، بينما يصيح للآخرين ليفسحوا "وسع، وسع، طيارتها طالعة". تبعته المرأة وبدا في عينيها المتشككتين أنها لا تعرفه. كنت الأول على البوابة الذي أزيح من أمامها، فلحقت بها بعد البوابة، وبينما تعيد ارتداء ما خلعته، قالت معتذرة:
ـ أنا آسفة، لم أطلب مساعدة والله، ولست مستعجلة.
ـ أجبتها: لا مشكلة، هو توسم فيك الهانم الذي ستدفع.
ـ أجابت: وفعلًا، دفعت.
المطار ماكيت مصغر لدولته. وكل متر يتقدمه الراكب داخله يساوي أن يتقدم مئات الكيلو مترات داخل الدولة
بعد أسبوع قضيته في الخارج، عدت. وما يراه العائد من الخارج هو قفا المطار، لكن ذلك القفا هو نفسه الوجه بالنسبة للقادم الأجنبي. الزائر الغريب يحكم من خلاله على البلد بأكمله.
وعلى باب دخول مطارنا استعارة مقدسة لا تحظى مطارات الدول الأخرى بها "ادخلوها بسلام آمنين". لكن الأجنبي الذي لا يستطيع قراءة العربية لن تصله الرسالة المستلة من سياقها القرآني، الموجهة لأخوة يوسف. بينما ذلك الأجنبي يستطيع قراءة حركة الأجساد المحيطة به، التي تناقض كل معنى السلام.
حاولت تخيل ما يدركه ويحسه الأجانب من حولي، كيف سيفسرون لأنفسهم هرولة الرجال الذين جاءوا حتى باب الطائرة يعوقون تقدم الواصلين؟ كيف سيستوعبون أصواتهم العالية؟
ربما ينتبه الغريب إلى أن الكلمات التي يسمعها مجرد أسماء لأشخاص من بين القادمين، لكن حتمًا سيلتبس عليه الأمر ولو للحظة، فلا يعرف إن كان ذلك تمييزًا لركاب فوق العادة أو ترقبًا أمنيًّا لمطلوبين خطرين. مع الاحتمال الأول سيتأكد القادم أنه في بلد لا يعرف المساواة، ومع الاحتمال الثاني، سيتصور أنه قضى ساعات في الجو بين مجرمين خطرين!
الواقع أصدق من المواقع
المطار ماكيت مصغر لدولته. وكل متر يتقدمه الراكب داخله، يساوي تقدمه لمئات الكيلو مترات داخل الدولة. وسيحكم عليها من خلال ما يراه من المماحكات السخيفة وأعمال الاستجداء "كل سنة وأنت طيب"، التي يقوم بها العمال والحراس على طول ممرات العبور وفي الحمامات وأمام سير الحقائب. المفترض أن المطار مراقب بالكاميرات ومحدود المساحة، فلماذا لم تنقطع تلك العادة؟
المشكلة أن المسافر، الأجنبي والمواطن، يصل من مطار البلد الآخر، بعد أن رأى منذ ساعات قليلة النظام، وكيف كان الشرطي معتدل القامة، متواضعًا وحاسمًا، لا متنمرًا أو منكسرًا. وبعد أن رأى خدمات حمل الأمتعة والتاكسي منظمة، يطلبها الراكب المحتاج من أكشاك الخدمة، حسب تسعيرة محددة، دون مظاهر الاستجداء المشوب بالإكراه.
اعتدنا كمصريين سويقة صالات الوصول بمطار القاهرة، ويمكننا أن نتغابى على من يقولون حمدالله ع السلامة أو كل سنة وأنت طيب، فنبادلهم التحية كلامًا لا نقدًا. ويمكننا أن نرفض خدمة العامل اللحوح أمام سير الحقائب، وبوسعنا أن ننهر السائقين الذين يتجاذبوننا، وأن نتخلص منهم عندما يمسكوننا من أيدينا أو ملابسنا، لكن كل ذلك مرعب للغريب.
بعض معارفي من الأدباء الأجانب حكوا لي الكثير من القصص عن لحظات الريبة تلك، والمقالب التي شربوها لحظة وصولهم، عن خوفهم من العنف الغامض، من المبالغة في الأسعار أو استغلال جهلهم بفئات العملة المصرية عند العد.
يقول موقع ميناء القاهرة الجوي إن أسعار التوصيل محددة طبقًا لحجم وفئة السيارة، لكن الواقع أصدق من المواقع.
تطالب القاهرة سكانها بتحقيق معجزة الانتقال دون وجود محطة شرعية وآمنة
بعد أن تسلمت حقائب العودة، طلبت أوبر. وحيث إن المكان مقلق للسائقين فقد تعلمت أن أتواصل مع السائق فور ظهور بياناته على التطبيق. أهاتفه لأطمئنه أنني سأبتعد بقدر الإمكان عن البوابة، وأعده بمضاعفة الأجرة التي ظهرت في التطبيق إكرامًا له على قبوله هذه المخاطرة.
عندما بدت السيارة قريبة على خريطة التطبيق، هرولت إلى باب الخروج. أخذ الشرطي يلوح لي ولغيري بعصبية لكي نبتعد بسرعة كأن لغمًا سينفجر تحتنا. ولأنني كنت أتحرك بالفعل فقد أصابني الغضب.
ـ قلت: ليست لي أجنحة، ولابد من سيارة تأخذ الراكب في نهاية المطاف!
ـ قال الشرطي: لكن أمام الباب ممنوع.
كان من الممكن لحواري العصبي مع الشرطي أن يتطور، لكن أنقذني عراك آخر نشب بين مندوب شركة ليموزين وشرطي آخر. وقد بدت الخناقة حامية جدًا لكن بين شخصين تربطهما عشرة طويلة، ويجدان نفسيهما في ذلك الموقف العصيب يوميًّا.
كان مندوب الشركة يحتج: أنا مرخص، ولي الحق في أخذ الراكب من أمام المطار، لكنك تهينني أمام الزبون، وتكرشني. إزاي هنشتغل يعني؟
حسم صوت سارينة عربة الشرطة التي تحمل رؤساء الشرطي الجدال، وهي دائمًا ما تدوي أمام صالات المطار. وذلك ليس من شيم مطارات الدول الآملة في سياحة. لكن هذا هو الوضع، ولا أظن أنني أحكي خيالًا، وكل من فاته أن يشهد الوقائع المذكورة في هذا المقال يستطيع أن يتوجه إلى المطار ليشهد بنفسه تكرارها في أي يوم يشاء.
وعد الأمن المقدس
لم يستطع وعد الأمن المقدس "ادخلوها آمنين" رفع المطار، ولو قليلًا، فوق قانون الخوف الساري ضد ركاب المركبات في المدينة. فمثلما تطالب القاهرة سكانها بتحقيق معجزة الانتقال دون وجود محطة شرعية وآمنة، مطلوب من المسافرين إلى الخارج أن يدخلوا المطار دون أن ينزلوا من السيارات التي حملتهم من المدينة، وعندما يتحامقون ويعودون إلى مصر عليهم أن يغادروا المطار بمنطاد!
الطرفان المتباغضان على مدار الأربع والعشرين ساعة أمام صالات السفر والوصول (المسافر والشرطي) لم يتأملا وضعهما الغريب، ولم يفكر أحدهما كم أن الآخر غير مذنب. إنهما ببساطة في ذلك الموقف لأن ذهنية التحريم الضيقة قررت أن تبني مطارًا بالغ العظمة بفضاء شديد الضيق أمامه، لا يكفي لإنزال وتحميل الركاب والأمتعة بروية وأمان، كما في كل مطارات الدنيا.
المطاران الجديدان أقيما في ظل استراتيجية التشريعات لدولة رخوة أسلوبها الأمثل هو استدراج المواطن إلى دائرة الخطأ بمجرد أن يخطو خارج بيته
كان أنصار الفريق أحمد شفيق يلحون على ذكر دوره في إنشاء مبنى الركاب 3، عام 2008، باعتباره أهم مسوغاته لتولي رئاسة دولة جديدة أنيقة. وهم بذلك لم يخالفوا المستقر في خطابنا الرسمي عن عظمة وضخامة مطار القاهرة، الذي لم يعد مطارًا واحدًا بل مجمع مطارات. ومع الإنشاءات الأحدث من المولات والمطاعم والفنادق، صار المكان متاهة يمكن أن تكون ممتعة لو صممناها بغرض اللعب.
لا يختبر مصداقية ادعائي سوى تصوير مسار مسافر دخل بالخطأ إلى المطار القديم ويريد أن ينتقل إلى المطار 2 أو 3. عدد الالتفافات اللامنطقية والكباري والأنفاق مذهل، ويحتاج إلى البراعة التي يحتاجها سائق تاكسي في المعادي أو إمبابة.
هذا التعقيد يجعل خوف المسافر يبدأ من لحظة حجز تذكرة السفر. لا بد أن يذاكر جيدًا ويتذكر إلى أي المطارات يجب أن يذهب. وكثيرًا ما يحدث الخطأ والشجار بين المسافر والسائق لأن أحدهما فهم "ترمينال 2" بمعنى "صالة 2" في المطار القديم!
في تطوير المتاهة
كل مطارات العالم شهدت توسعات، وذلك منطقي بسبب تزايد عدد المسافرين بشكل فاق التوقعات ابتداءً من سبعينيات القرن العشرين. لكن توسعات القاهرة بالذات هي التي صنعت متاهة، وهي بالذات التي لم تراع راحة المسافر. وعند مقارنة المطار القديم، الذي افتتح عام 1963 سنجد أنه المبنى الوحيد المنطقي والإنساني.
حظي المطار بحديقة كبيرة، لتكون أول ما يراه الزائر وتعمل على تحسين البيئة وتقليل أثر عادم الطائرات، وأمام مبنى الركاب شارع كاف لنزول المغادرين وركوب الواصلين، وموقف السيارات الخاصة على بعد خطوات، وبعده موقف الأتوبيس لا يبتعد عن باب الوصول أكثر من 250 مترًا. وهل ننسى شرفة التوديع التي سيلوح منها الأهل والأحبة بالمناديل؟
التشدد في غير محله والتساهل في غير موضعه يعني أن الجمهورية الجديدة ليست جديدة وأنها لا تكترث لأمر الجمهورية القديمة
من بين المعايير التي يجب أن يراعيها تصميم المطار طبيعة المجتمع الذي يخدمه، وقد روعيت في تصميم المطار القديم عادة توديع الأسر لأبنائها واستقبالهم، كما راعاها مطار الملكة علياء بالأردن لاحقًا، بتوفير مساحات فسيحة وحدائق أمام المبنى، وكما تراعيه مطارات السعودية، بل ومحطات قطار الحرمين الجديد، التي تُدرَّس في ترحابها بالمسافر ومرافقيه.
أما مطارا القاهرة 2 و3، فلم يوفرا الفراغ الكافي أمامهما لإنزال وإركاب المسافرين، ناهيك عن مكان لملودعين، وهكذا فالمبنى الذي يحتضن بداخله كل أنواع اللكاعة والفوضى والاستثناءات، يفرض على السيارة أن تعبر أمامه مثل قاذفة، تُلقي بالمسافر وأمتعته في لحظة وتختفي.
يجب ألا ننسى أن المطارين الجديدين أقيما في ظل استراتيجية التشريعات واللوائح لدولة رخوة، أسلوبها الأمثل للسيطرة هو استدراج المواطن إلى دائرة الخطأ بمجرد أن يخطو خارج بيته. المطاران من هذه الزاوية إضافة إلى مسيرة هذه الصناعة التحويلية؛ تحويل المواطن إلى مذنب.
فرصة الصح من وجهة نظر الدولة الرخوة موجودة دائمًا بالطبع، لكن طريق الصح شديد الوعورة. والصح في المطار هو انتهاء وبدء رحلة السيارة من الباركنج، لكن ذلك يعني ألا يدخل مصر أو يخرج منها إلا شباب الخمسة وعشرين سنةً؛ فمن غير الممكن لراكب ضعيف أن ينتقل من الباركنج إلى صالة المطار أو العكس، ومن غير الممكن كذلك أن يغادر راكب في أتوبيس ككل مطارات العالم.
استمرار كل تلك الأوضاع، من التشدد في غير محله والتساهل في غير موضعه، لا يعني إلا أحد احتمالين: أولهما أن الجمهورية الجديدة ليست جديدة، وثانيهما أنها لا تكترث لأمر الجمهورية القديمة، وهذا غريب جدًا لأن الله لم يخلق للإنسان قلبين في صدره لكي يعبد جمهوريتين على أرض واحدة!
الجمهورية الجديدة تعرف كيف تكون حاسمة عندما تريد، وتستطيع أن تقضي على مظاهر اللكاعة وسلوك الاستجداء والغش في المطار. لكنها لا تستطيع أن تجعل المسافرين آمنين أمام صالات السفر والمغادرة بسبب غياب الفضاء اللازم. لكنها تستطيع عبر إعادة تخطيط المطار. من الممكن تأهيل مبنى الركاب القديم لاستقبال وخروج مسافري كل الرحلات، وبعد أن يتخفف الراكب من أمتعته، يتم توجيهه إلى المبنى الذي ستقلع منه طائرته عبر قطار داخلي.
معظم مطارات العالم التي توسعت التزمت بذلك التخطيط. والمبنى القديم هو الوحيد من بين مباني متاهة مطار القاهرة، الذي يمكن تهيئته لذلك الغرض، لسهولة اتصاله بموقف السيارات المنبسط أمامه.